مذكرات

يوسف الطالبي: محكيات الطاكسي في زمن كورونا 2

وقف السائق بمحاداة الرصيف أمام سيدة كانت تلوح لسيارات الأجرة، ترافقها طفلة صغيرة بالكاد تكون في منتصف سنتها الثالثة، من أول التفاتة من السائق للتواصل مع زبونتيه لاحظ أن عيني الطفلة مغرورقتين بالدموع حتى خالط بياضهما حمرة امتدت الى ما بعد الجفون، لعل البنت الصغيرة بكت لوقت طويل، الشبه المتواري خلف امتقاع ملامح الأم يشي بأنها ابنتها، ثم مادار من حديث على مدى زمن الرحلة أكد ذلك، بحركات سريعة فتحت الباب الخلفي وساعدت الطفلة على ركوب السيارة وقالت وجهتها، كانت متأخرة عن شيء ما وتأمل أن تتدارك تأخرها.
– عفاك أخويا الا ما جري شويا، بنتي شادينها ليا غي الناس.
لم تستو السيدة بشكل جيد على المقعد الخلفي، اكتفت باقتعاد مقدمته وتمسكت بالمقعد الأمامي بكلي كفيها كأنها ستعانقه، حركاتها ونظراتها الى الطريق وتأففها من إشارات المرور الحمراء وكل ما يجبر السيارة على التوقف يبوح بمدى الضغط الذي يعتمل داخلها، كانت السيدة تريد الوصول أولا الى الوحدة الثانية بحي الداوديات، حيث يمكنها تسلم ابنتها الصغرى من صديقة لها قبلت التكفل برعايتها حتى نهاية دوام عمل الأم كمساعدة لطبيب بحي جليز. كانت السيدة من ذلك الصنف من الزبناء الذي يثير انتباه السائقين، أو على الأقل صاحبنا الذي رمت بها الصدفة في طريقه، إذ من خلال تجربته التي تقارب عقدين من الزمن، تكون لديه حدس جعله يستشعر الفروق بين طالبي خدماته، زبناء يركبون وينزلون دون أن يشدوا انتباهه، لا يتذكر حتى شكلهم أو ما كانوا يرتدونه، لكن من الناس من يتقاسمون انتباهه مع الطريق، يثيرون حدره وحيطته، ينالون تعاطفه أو يتوقف عند آرائهم المميزة سلبا أو إيجابا في مواضيع يبادلهم الحديث فيها.
كانت عادة السيدة أن تستيقظ باكرا هي وبنتاها ليبدأن رحلة سيزيفية، تترك ابنتيها عند أمها بحي ديور الشهداء بسيدي يوسف بن علي، التي تتكفل برعايتهما ومرافقتهما الى روض للأطفال غير بعيد من البيت، فيما تواصل هي رحلتها لتصل إلى عملها على الساعة التاسعة. الرحلة نفسها تتكرر كل يوم، نفس الجحيم تعبره كل يوم، من شأن أي طارئ أن إرباك برنامجها، إيجاد حلول بديلة ليس أمرا هينا. يوم عطلتها يبدو بعيدا بمسافة دهر، وحين يحل، يمر أسرع من لمح البصر.، لا يكفي للقيام بمهام البيت الأسبوعية، تنظيف وترتيب المنزل والملابس والتسوق ثم الذهاب إلى الحمام.
كانت أمها في ذلك اليوم على موعد مع طبيب لفحص عينين غلبهما العمر، طارئ فرض البحث عن بديل، تركت ابنتها الصغرى عند صديقتها بحي الداوديات، فيما اصطحبت الكبرى معها إلى العمل، حاولت أن تجعلها تلازم مطبخا صغيرا يوجد في العيادة، وضعت لها كل الوسائل التي يمكن أن تجعل منها لعبا تتسلى بها، لكن الطفلة لم تتوقف عن البكاء، تريد ان تتحرك في العيادة على سجيتها، أن تتخذ مكانا جوار أمها خلف منضدة الاستقبال، وأن تشغل لعبة على حاسوب السكرتارية، وحتى حين يرن الجرس الصغير الذي يخصصه الطبيب للمناداة على أمها حين يكون عليها قياس نبض مريض أو أخذ وزنه وطوله، كانت الطفلة تصرخ باكية، لعلها كانت تشعر بالخوف من الغرباء الذين تغص بهم قاعة الانتظار. العطف الذي يكنه الطبيب على مساعدته التي يعرف ظروفها جيدا، يجعله يتغاضى، لكنها كانت تشعر بثقل ما بينها وبينه خلال دقائق إنجاز مهامها، وحتى دون أن يكلمها تخيلته يطلب منها في خلده ألا تحضر ابنتها مرة أخرى، تعاطفه معها لا يمكن أن يتمادى إلى حدود تضر بعيادته وسمعته المهنية.
لم تغير السيدة جلستها على مقدمة المقعد مائلة نحو الكرسي الأمامي، كانت كمن يحاول دفع السيارة لتعجل أكثر، على مسافة قليلة من الوجهة المقصودة، طلبت من السائق انتظارها ليأخذها إلى حي سيدي يوسف بن علي، فتحت باب السيارة حتى قبل أن تتوقف العجلات كلية، فقزت منها وقرعت جرس بيت، وقعت بقبلتين على خدي المرأة التي فتحت ومعها طفلة أخرى بنفس القسمات تقريبا، كانت تقارب إكمال سنتها الثانية.
مراكش الآخذة في التغول منذ ثمانينيات القرن الماضي طردت السيدة وكثيرا من أمثالها، غلاء المعيشة وهزالة أجور العمل وتعذر تأمين المسكن على حديثي الزواج جعل كثيرا منهم يلجؤون الى المداشر المحيطة، حيث نشطت تجارة الدور الطينية الواطئة، ومع تلك التجارة نشطت أيضا حركة بناء خارج شروط قوانين التعمير، عوامل عديدة ساعدت على ازدهار نشاط اقتصادي طفيلي، الفساد المتعرش في أوصال المجتمع والدولة هيأ الشروط المناسبة لفئة من الناس كونت ثروة من تلك التجارة، حسابات الانتخابات الفاسدة حملت إلى التسيير الجماعي أشخاصا لبت حاجة الناس الى أسقف يحتمون بها مصالحهم في الاغتناء وتكوين قواعد انتخابية.
في الطريق الى سيدي يوسف بن علي، استسلمت السيدة للحكي، كانت في حاجة الى البوح بما يجيش به صدرها من أثقال، قبل ست سنوات، عندما كان عمر لطيفة ثلاثين سنة، تزوجت من تقني في مجال كهرباء آليات الأشغال الكبرى، كان حينها يعمل لفائدة مقاولة معروفة بالحي الصناعي متخصصة في شق الطرق وبناء القناطر، أجره يفوق أجرتها بحوالي الثلث، كان دخلهما معا الذي يتجاوز الخمسة آلاف درهم بقليل كافيا لتلبية الأساسي من ضرورات الحياة، خاصة أنهما لم يكونا مضطرين لدفع إيجار للسكن، فقد كانا يسكننان في الطابق العلوي من بيت عائلة الزوج، لم ينجبا طفلتهما الأولى إلا بعد أكثر من سنتين، ككل بداية حياة زوجية خالية من الالتزامات والاكراهات إلا الكلام الرومانسي والنزهات والكثير من مطارحة الغرام، اصطبغت حياتهما بلون زهري بهيج، لكنه للأسف سرعان ما سيأخذ في الذبول، ستطفو حوادث عدم التفاهم بين لطيفة وأسرة زوجها الذي لم تلمس منه دعما في ما كانت تتعرض له من تعسفات.
بعد مجيء هبة، البنت الأولى، ستستغني الشركة عن خدمات زوجها أحمد، تنقل بعد ذلك بين شركات أخرى أقل نشاطا من تلك التي كان يعمل بها حين تزوج بها، وبين عمل وآخر، كانت تطول فترات عطالته.
حين حلت كورونا، كان أحمد زوج لطيفة قد بدأ لتوه عملا مع شركة لكراء آليات الأشغال الكبرى، شغل فيها مهمة مكلف بالصيانة، لم تكد تمر عليه في عمله الجديد خمسة أشهر حتى جاءه قرار التوقيف، استدعاه مديره إلى مكتبه، وشرح له أن قرار السلطات بتطبيق إغلاق كلي في إطار الحر الصحي أدى إلى توقف أوراش البناء، وأن الطلب على الآليات تراجع بشكل كبير، لذا فإن الشركة مضطرة لتوقيف ليس فقط بعض العمال بل إن أطرا أيضا سيشملهم القرار.
كان أحمد لازال قيد مرحلة التجريب، لذلك لم تصرح به الشركة لدى الضندوق الوطني للضمان الاجتماعي، فلم يستفد من التعويض الذي خصصته الدولة لمنخرطي الصندوق، أولا لأنه غير مصرح به، وثانيا لأن الشركة التي يعمل بها لم تعلن للدولة رسميا أنها أغلقت أبوابها وأنها توقفت نهائيا عن النشاط، كما يقتضي بذلك القانون. لم ينوصل إلا مبلغ ألف درهم لمدة ثلاثة أشهر. مذاك وهو يقضي يومه في مواقف آليات الأشغال الكبرى من حفارات ورافعات ووشاحنات الجر… المعروضة للكراء، يعرض على أصحابها خدمات الصيانة دون الحاجة إلى التنقل إلى ورشات الإصلاح وهدر الوقت وتفويت فرص اللقاء بطالبي خدمات ذلك النوع من الآليات، يفكها في عين المكان ويقل أصحابها بدراجته النارية لشراء أو إصلاح ما يلزم ثم يعيد تركيبها. يتحصل على أجر يوم لا بأس به لكنه غير متأت يوميا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى