هذا اسمي يسرد تفاصيله.. سيرة فاطمة تزوت(الحلقة 14: صبيحة من 1943)
فاطمة تزوت/كاتبة و ناشطة يسارية
“شتو والفروسيّة والقنص”
لم تكتف شتو بإتقانها لعجين “بوشيار” أو بتحضير”الكسكس” أو بجلب أكبر حمولة حطب من أعلى الجبال الوعرة، بل تعلقت بفنون الصيد والفروسية والرماية التي كانت تفرضها طبيعة المنطقة على الرجال والنساء على حد سواء إلّا أن هذه المزايا لم تتوفر لكل النساء في اكتسابها.
كان عبد الخالق يتباهى بخروج شتو معه للصيد مع الصيادين و”الحيّاحة”، وهو مزهو بشجاعتها ومنَازلتها الصيّادين المتمرسين،عبد الخالق الذي حرم من الخِلفة، عبد الخالق الذي أحبّ امرأته العاقر وأخلص لها ولم يأتيها بضرة رغم يسره، لتصبح بقدرة قادر أما لكل أطفال القرية وصباياها.
“صبيحة من سنة 1943”
بدت حالة القبيلة على غير عادتها، من نصب للخيام، وتجمع نساء القبيلة بفناء دار أحد المشايخ التي تعرف بسعتها، وشباب انطلق مع أول خيوط الفجر لجلب أكوام الحطب، وصبايا يحملن قدور الطين لجلب الماء ومواويلهنّ تغازل قمم الجبال المحيطة فيرد صداها لازمة تقشعر لها الأبدان عنوان فرحة خفق لها قلب الصغار قبل الكبار. الأهازيج فرح حلت بالقبيلة على حين غرة، وزغاريد النساء منبعثة من ” أزرك” وهي رحى يدوية لطحن الحبوب من قمح وشعير وذرة. وهي عبارة عن حجرة بها عدة طواحين بيد خشبية، تتقابل كل سيدتين على إحداهن ترمي إحداهن الحبوب في ثقب المطحنة بينما الثانية تدير اليد الخشبية للرّحى وهن يتغنين بالمناسبة وهكذا يتبادلن الأدوار.
أما الرجال فهم يصعدون إلى الثلة على مقربة من العين ويشرعون في ذبح الذبائح، وصدى الصلاة والسلام على رسول الله يجلجل في الفضاء، فتعلو مظاهر الفرح والحبور وجوه الصغار والكبار على حد سواء، وتعم ألوان الزينة المكان. وحدها شتو غائبة عن هذا الحيوية التي تحرك النفوس، على الرغم من كونها سبب كل هذا الفرح الأخّاذ الذي عم المكان، وشاع صداه في المداشر المترامية الأطراف. شتو البهية ستتزوج من أحد كبار مدينة خنيفرة.
اهتمت بعض النساء بتحضير العروس بدءا من العناية بها في الحمام، إلى وضع الحناء بيديها وقدميها وتوزيع العطور على أطراف من جسدها من قرنفل وورد ومسك، والصبايا العذارى يحطن بها في شكل دائري مردّدات أعذب المواويل، وزغاريد النساء تخترق القلوب بصفائها، وروائح البخور وزهرات العنبر والعناية والحبق التي وضعت كتيجان، زينت بها العذارى رؤوسهن وهن يرتدين أبهى الأقمشة الزاهية الألوان ويتَنقلن من مكان لآخر وكأنهن أسراب من الطلا أو الرّشا، وضحكاتهن الخجولة المنفلتة أحياناً، تشعر سامعها بسحر اللحظة، كل شيء بدأ مترابطا يكمل بعضه بعضاً…
[يجعل السامع منتشيا مما حوله، سمفونية من [الماورائية؟؟] لأنشودة فرح ليس كمثله شيء].
ما أن توسطت الشمس كبد السماء، حتى هزّ المكان صوت زغاريد انطلق من كل الأرجاء فمع الشعاب والتلال مستقبلا العريس وحاشيته، يتقدمهم قطيع من موَاشي من أغنام وماعز وبقرتين، صداق شتو جميلة الجميلات وسليلة تربة موحى أحمو الزايَاني , يحتسي المدعوون كؤوس الشاي، ورائحة الشواء تتصاعد وتثير الشهية.
أرخى الليل سدوله، وأضيئت قناديل الزيت والكاربون في حين وضعت على جنبات الساحة المفروشة التي انتقل إليها الضيوف، وعلى مقربة منها خيمة للنساء تتوسطهنّ العروس وحولها العذارى ينشدن بصوت ملائكي يثير البكاء أحيانا أكثر مما يشيع الفرحة، لما يحمله مضمونها، مستحضرين روحي والديها الراحلين ليشاهدا جمال شتو الباهر بقدها الممشوق، وروعة حلي الفضة على جبينها وعلى صدرها المكتنز، ورائحة الطيب الصادرة منها، فبدت كملاك لا ينتمي لجنس بشر.
تفصل بين خيمة النساء التي تضم العروس، وخيمة الرجال التي تضم العريس، ساحة خاصة بالرقص تجمع بين الذكور والإناث في صفين متوازيين ومتقَابلين وهي رقصات الفولكلور الأمازيغي يجمع بين الرقص والغناء في حركات تقاطعية ودائرية تتم بإتقان جد دقيق، يبهر الناظرين وحين يعود الصفان لوضعِية التقابل يخرج شاب من بين صف الذكور ويتوجه صوب فتاة من صف الإناث بما يعني اختياره لها لتشاركه الرقصة. فيتصَدران وسط الصفين برقص رائع يبدو في منتهى الدقة والحرفية تسمى بِ “أحيدوس” التي اشتهرت بها منطقة الأطلس المتوسط (زيان) المتجذرة عبر تاريخ أصيل وقد كانت آلاتها محدودة في (البندير) وتعتمد الرقصة على المواويل والقدرة على ارتجال الكلام الموزون ليبدو منسجما مع اللازمة المغناة تصعد فيه حناجر الرجال بصوت جوهري يرمز للقوة في حين ترد النساء بصوت مخملي حالم أنثوي مفعم بالرقة والعذوبة، فيسري بك هذا التناغم الملائكي لحد نشوة يقشعر لها بدن المتابع حتى ولو لم يكن هذا المتابع يفهم شيئا في اللغة الأمازيغية.
وعند بروز أول خيوط الفجر، اصطفت القبيلة، مودعة شتو وهي بداخل هودجها، صوب وجهة لا علم لها بها، صحبة زوج لا تعلم عنه شيئاً. وبين لحظة وأخرى تمسح دمعة عالقة برموشها تمنع عنها الرؤيا.
حطّ الموكب رحاله بعد قضاء العشرة كيلومترات في اتجاه المدينة، أمام سور عظيم، وما بداخله كان أعظم، لمدخله دفتان طويلتان وعريضتان من خشب الصنوبر تشعرك نقوشه بهيبة، ينفتح على ساحة واسعة بها أشجار لثمَار وفواكه مختلفة وعلى جانبي الساحة بعض الدور. الأبواب متشابهة على يمين ويسار الساحة تتوسطهما بناية عالية على شكل مقصورة لها شرفة واسعة تشرف على ما بداخل الصور، وزين وسط الساحة بنافورة ماء لا يهدأ خريره.
انبهرت شتو بما رأت عيناها، وهي التي لم تعهد عيناها غير خيام سوداء مصنوعة من شعر الماعز، وعلى جانب من الصور إسطبل للخيُول والأبقار وماشية من أبقار وخرفان، إضافة إلى خدم وحراس، من القيمين على العناية بالماشية وباقي الحيوانات،ومنهم المكلفون بجني الخضر والفواكه إضافة إلى المكلفين بتنظيف حجرات الحصن وباقي مرافقة.
المكان بكل مكوناته يبدو كمجَمع لتخزين الاكتفاء الذاتي من الغذاء، بينما يتم تسويق الفائض وفق قواعد صارمة وطقوس خاصة يتخللها العقاب والجزاء، وهذا ما ارهب الطفلة ذات الستة عشر عاما التي لم تعهد ذلك في أرض نشأتها. وهذه الطاعة والامتثال لصاحب الحصن الرجل الخمسيني القوي البنية والمفتول العضلات سامق الطول قوي الملامح، الذي يبدو كقائد للجيش لولا لباسه القبلي التقليدي. إنه زوج البرعمة شتو، كما أن له زوجات أخريات بعدد حجرات الساحة، لكنه اصطفى من بينهن شتو وجعلها تعيش في مقصورته الخاصة التي تتوسط باقي حجرات نسائه، ولم يكن في حاجة لان يخفي ميله الشديد لها أو تفضيلها عن باقي زوجاته التي تجهل شتو عددهن رغم مرور ثلاثة أشهر من إقامتها بالحصن، رغم كل العناية والتفضيل الذي لاقته شتو من طرف زوجها، والدّلال الذي يعاملها به أمام باقي زوجاته، كان يصاحبها معه للصيد والقنص دون غيرها من نسائه، وجلها تعيش معه داخل مقصورته الخاصة، بدل أن تركن كغيرها من الزوجات في حجرة بباحة الحصن، كل هذا كان منبع حسد وغيرة وحقد النساء الأخريات، وبدل أن تكون سعيدة بتفضيله لها أصبحت أشد تعاسة وبؤسا وخوفا مما يحاك ضدها من دسائس تهدد وجودها،….
..[؟ ليتجاوز غيضهُن كل الحدود وكلما تم كشف مؤامرة، تلاها العقاب في أشد قسوته وهو الطلاق، ولا شافع لمن ثبتت عليها التهمة حتى ولو تجاوز عدد أطفالها العشرة.]؟….
واقع مؤلم لم تستطع شتو المرهفة الإحساس أن تتعايش معه، فلا خبرة لها في مجال الدسائس والمؤامرات. فمن جهة كانت شتو تقاوم ظلمهن لها باستماتة شديدة، ومن جهة أخرى لم تبرّأ نفسها لما انقلب إليه حال نساء الحصن منذ وصولها. ولم تحتمل مشهد الحكم بالطلاق على سيدات طالبن بحق من حقوقهنّ مما تسبب للجميع في حياة ضنك يشوبها الحقد والحسد والبغضاء، والظلم والانتقام، وكلها في مجملها صفات دخيلة عليها وعلى الوسط الذي نشأت وترعرعت فيه، فهي من كبرت بين عشيرة، صفاتها الصفاء والحب والتآخي، وما تعيشه اليوم داخل هذا الحصن من صور بشعة لا تدري كيف ستسميها بالأحرى أن تتعامل معها.