هذا اسمي يسرد تفاصيله.. سيرة فاطمة تزوت (الحلقة 13 “شتّو الجمال الأخاذ واليُتم”)
فاطمة تزوت/ كاتبة وناشطة سياسية
٠٠بعد فقدان شتو لوالدها وهي ابنة الثالثة ربيعا، دون أن تحتفظ له ذاكرتها بأدنى تقاسيم لملامح وجهه الأمازيغي، هاهي اليوم وهي دون الثالثة عشر ربيعاً تفقد والدتها ليكتمل عندها تجرع الألم الحقيقي لمعنى اليتم، ليتبناهَا أخوها عبد الخالق فتى القبيلة وشيخها. ترعرعت شتو وترعرعت معها كل مفاتن الجمال وتفاصيله الدقيقة، فبقدر ما كانت صفاتها في الأخلاق والتعامل لا يمت لعالم البشر بصلة، كان مظهرها الخارجي كحورية تؤثر ولا تتأثر، أمازيغية بأناقتها وقَدها الممشوق، وشعرها المنساب بسلاسة كسلاسة عيون أم الربيع المنسابة من حولها، بملامحها وتقاسيم محيا قد لخّصت كل معاني الصفاء بعمقه الإلهي، وكأن كل تلك الصفات لم تشف غليلها في تعويض يتمها، لتظل سحنة الحزن تسكن دواخلها فلا تفلح البسمة التي ترتسم على شفتيها المكتنزتين. تحلت شتو بصفات نادرة قلما اجتمعت في كائن، فكانت المنبع الفياض للطيبة والرحمة وحبّ الناس وخدمتهم،
لا تعرف الكراهية لقلبها طريقا. قد تدمع عيناها لطائر جريح، وقد تُحال للبؤة شرسة أمام ظالم أو معتدٍ أثيم، وقد كان البعض يناديها بِ ” إلِّليس انموحى” أي ابنة موحى نسبة لِ (موحى أحمو الزياني)، لشجاعتها وفي نفس الوقت ليتمها، فبدت وسط القبيلة كأطهر قديسة انتشت بها الأرض، اختلاف شتو عن بقية الصبايا في سنها، جاء نتيجة درايتها بما يجري في عالم الكبار وخصوصا ما يتعلق بالحرب الدائرة رحاها ضد المستعمر الفرنسي الغاصب، وذلك بحكم حضورها وتواجدها الدائمين في كل اللقاءات التي تتم إدارتها بخيمة أخيها عبد الخالق مع شيوخ القبيلة وهي تخدم ضيوفه، بينما نونو زوجة عبد الخالق وبعض نساء القبيلة يهتمون بتحضير الطعام وأباريق الشاي والقهوة بحيث لا تظهر النسوة للضيوف بتاتا. وتقتصر مهمة شتو على خدمة الضيوف داخل الخيمة من بداية اللقاء حتى نهايته، كان من السهل على عبد الخالق الاستعانة ببعض صبايا القرية أو شبابها، لكن المانع هو ما كان يستوجب اللقاء من شروط أولها سرية ما يروج من نقاش، وثانيها أن أغلب الحاضرين القادمين من قرىً مختلفة يدخلون الخيمة ملثمين، وينزعونِه إلى حين ينتهي لقاءهم , لذلك تم اختيار شتو للمهمة فهي المؤهلة على إنجاز السهل الممتنع كما ستثبتهُ الأيام في حقها.
اتسمت بعض اللقاءات بخصوصيات أشدّ احتياطا من لقاءات الخيمة حيث يتم اللجوء إلى “إفْرِي نْدُّونيتْ” أي غار الدنيا الذي يتوسط جبل عميرة الشاهق،المنتصب كالحامي المارد لدوار آيت سيدي عيسى أونوح، أو كما يسميها البعض “قبيلة موحى أحمو الزايَاني” وقد استغله المقاومون ضد الاستعمار الفرنسي كملجأ للاختباء عند أي هجوم غادر، يحتمي فيه أهل القبيلة، قد يدوم الاحتماء أسابيع وقد يطول، إن لزم الأمر ذلك، فهو مجهز بما يكفي من مؤونة أهل القبيلة، وما يكفي من الأفرشة والأغطية وكل المستلزمات الضرورية للاختباء أطول مدة. ازدادت به مواليد ومنهم رحّو الذي لم يناديه أحداً باسمه وكان الجميع يناديه بِ “رحو إفري” لازدياده بِ “إفري ندونيت”، ولم توافيه المنية إلّا في بداية الألفية الثانية.
كما كان ” إفري ندونيت ” ملجأً للمقاومين والمجاهدين، الذين أذاقوا الاستعمار الفرنسي المرارة والحنظل، والخيبات المتواصلة انطلاقا من الشهيد موحا واحمّو الزيانِي الذي يعدّ من أبرز أسود الأطلس المتوسط ومن أبرز رجال المقاومة في التاريخ المغربي الحديث، وإطُو الزيانِي التي تشهد لها المشاركة في ملحمة لهري الشهيرة بقتل العديد من الضباط برتب متفاوتة وتعد أكبر كارثة عرفتها فرنسا إبان استعمارها للمغرب لكثرة الضحايا من جنود ذات رتب عالية بقيادة الكولونيل هانرِيس.
وتظل المقبرة التي وُضعت لها معلمة تظهر لزائر مدينة خنيفرة عن بُعد، وكأنها تعلن له أنه قد حل بأرض الشموخ والقوة.
لعب الموقع الجغرافي “لإفْري نْدُّونيت” دورا أساسيا في حماية لاجئيه فهو يتوسط جبل عميرة الشاهق الذي تكسوه أشجار الصنوبر والفلين والخمائل الكثيفة ودوالي العنب التي يستعصي على المرء شق طريقه فيها، وهي الأرض الفتية التي لازالت إبان ذلك العهد تحتفظ بالعديد من حيواناتها المفترسة وزواحفها السامة وقد كان زئير الأسد يُسمع ساعتها، والخنازير التي تفاجئ المارة في أي لحظة.
والميزة الثالثة أن أهل القبيلة من كبيرهم لصغيرهم وحدهم يعلمون المسالك الآمنة المؤدية من وإلى “إفري ندونيت”.
عندما تقف على مغارة “إفري ندونيت” يواجهك منحدر لا متناه وبعده تلّ عالي يفصل بينهما واد يدعى “أسيف نايت إغَرْمين” أي (واد قبيلة تدعى أيت إغرمين) بحيث يكشف لك القادم نحوك وأنت في أعلى الجبل ومن إفري ندونيت الذي لن يصل إليك إلا بعد ساعة زمنية.