هذا اسمي يسرد تفاصيله.. سيرة فاطمة تزوت (الحلقة الثامنة: الدار البيضاء/درب الفقراء)
كان لهذه التشكيلة من سكان المبنى طقوس مقدسة
فاطمة تزوت/كاتبة و مناضلة يسارية
أخيرا استقرت عائلة محمد في نهاية المطاف في بيت من طابقين، بحي درب الفقراء زنقة 62 رقم …، يتكون كل منهما من خمس غرف.وقد بني هذا البيت على شكل نزل صغير،يضم حجرات بلا نوافذ يتوسطها فراغ من الطابق الأرضي حتى السطح، وتسمى ب (الضُّوَّايا) الشيء الذي يوفر بعض الضوء لكافة الغرف التي لا تتوفر على تهوية. أما ليلا فلكل وسيلته المختارة للإضاءة، كالشمع أو قنديل الزيت أو الكاربون. أما مساحة الحجرات فلا تتعدى ثلاثة أمتار على مترين ونصف، إن لم يكن أقل، وفي أسفل الدرج بالطابق السفلي مرحاض واحد يستعمله كل القاطنين، به صنبور ماء. أما بقية البيوت فلا ماء فيها ولا كهرباء. كل غرفة من الغرف المذكورة تقطنها أسرة من ثلاثة أنفار إلى خمسة ينحدر أغلبهم من مختلف المدن والمناطق، بحثا عن العيش الكريم في هذه المدينة الكبيرة.
في الطابق الأول حجرة يقطنها كبور وزوجته مع ابنتيهما من وارزازات، يجاورُهم الحاج عثمان وزوجته مّي سلطانة من زاكورة، ويحادِيهم كاكاني ووالدته مع ثلاثة أبناء، ثم حجرة السيد بورحيم وزوجته من عبدة والحجرة الخامسة لِخالتي جمعية (كما يناديها الجميع).
أما الطابق الثاني فبه حجرة محمد وأمه وعمته، وإلى جانبهم عائلة محمد الرّداد وزوجته وحماته مع ابنتين المنحدرين من دكالة، ويقطن بمحِاداتهم السيد بورحيم، أما الحجرة الرابعة فقد تم إغلاقها بعد أن غادرها قاطنوها، وأخيرا هناك حجرة السيد كوبيال (مع تنقيط الكاف).
كان لهذه التشكيلة من سكان المبنى طقوس مقدسة يلتزم بها كل القاطنين لاحترامها، لما تمرّ به البلاد من أمور عصيبة في أواخر الأربعينيات ضد المستعمر الفرنسي الغاشم، فكانت الأمسيات تمرّ على نمط واحد كطقس من الطقوس المفروضة التي لا يمكن الاستغناء عنها.
تقوم نساء الطابقين بتوزيع المهام فيما بينهن، ففي الوقت الذي تجلبُ فيه بعضهن الماء لتنظيف باحة الطابق الأول “المراح” تخرج الأخريات ما لديهن من فراش وغالبا ما يكون حصيرة أو حنبل “بوشرويط” يتم بسطه في الباحة،كما توضع بعض المخدات المحشوة بنبات الحلفاء للتوسد، فيما تنصب مائدة مستديرة بثلاث قوائم يوضع فوقها راديو مشحون ببطاريات. وابتداء من الساعة الثامنة مساء بعد “الكُوفرفو” كما كان يسمى آنذاك، يسري حظر كلي للتجول في الشوارع والأزقة والأحياء، وكل من ضبط خارج بيته بعد سريان الحظر، يتم اعتقاله من طرف دوريات العسكر الفرنسي. .
يتحلق كل قاطني البيت حول المذياع الصغير، وفي زاوية من الباحة تجلس النساء بعد أن يوزعن كؤوس الشاي أو القهوة على الحاضرين الذين ينتظرون بشوق أحد البرامج الموجهة للمغرب والذي تبثه إذاعة “صوت العرب” من القاهرة، يحدوهم حذر شديد وحرص على عدم تسرب صدى صوت المذياع خارج المبنى حيث يتربص العسكر، حتى لا يتعرضون لاعتقال جراء استماعهم لهذه البرامج الداعمة لمقاومة الاستعمار الفرنسي. وما دام أن ذلك يعتبر محظورا من قبل سلطات الحماية، فإن المستمعين يتجنبون الحديث جهرا ولا يعبرون عن آرائهم سوى بالهمس أو الإشارة، تفاديا لاقتحام دوريات المراقبة لحرمة المسكن، كما حدث ذات مرة حينما داهمت إحدى الدوريات مسكنا واعتقلت كل الذكور الحاضرين، كما أنها عمدت إلى تكسير جهاز الراديو وتهشيم إطاره الخشبي تهشيما تاما. وقد قضى هؤلاء المعتقلين أياما معدودات، ولم يطلق سراحهم إلا بعد توقيعهم على التزام بعدم التجمع والاستماع لإذاعة صوت القاهرة. انخرط محمد في هذا العالم الجديد، وبدأ يعيش أحداثا متلاحقة ويرى وقائع لا عهد له بها،وما كان ليستوعبها لو بقي في أرض النشأة. فكثرت أسئلته وزاد شغفه لمعرفة المزيد، فأدرك بحسه الوطني أن المستعمر الفرنسي أمعن في الاستيلاء على الوطن وفي استغلال خيراته وفي قمع حريات المغاربة الأحرار، فتملكه كغيره من المغاربة الغيورين إحساس ثوري ساخط على الوضع.
تتبع السيد “كوبيال” (مع تنقيط الكاف) وهو الجار الذي يحتل الغرفة الرابعة في الطابق الثاني غيرة محمد على الوطن، ومن الصدف أن غرفتيهمَا متجاورتان في الطابق العلوي، مما سهل لقاءاتهما المتعددة التي تطورت فيما بعد إلى صداقة متينة نشأ عنها التحاق محمد بالمتطوِعين للدفاع عن استقلال البلاد.