مذكرات

” هذا اسمي يسرد تفاصيله” سيرة فاطمة تزوت ( الحلقة الثالثة: أنوثة معلنة وذكورة مخفية )

فاطمة تزوت/كاتبة و مناضلة يسارية

 سبع سنوات مرت ومحمد/بية يحيا بطقوس طفلة، بشعر طويل، أقراط في الأذنين، خلخال بالقدم اليمنى، ممارسة اللعب مع الإناث،   القيام بما تقوم به البنات من مساعدة أمهاتهن في أشغال البيت … الخ. باستثناء  شرط واحد تؤكده عليه والدته، اللازمة اليومية منذ خطى خطوته الأولى خارج البيت ترددها على الدوام  : ” لا تتبَول خارج البيت”. وذلك مخافة اكتشاف أحد لجنسه.

ما أن أتم محمد/بية السابعة من عمره حتى اشتد الخلاف بين عبد الرحمَان وأم محمد ففي الوقت الذي اقترحت فيه مغادرة أرض النشأة قصد القيام بعملية الختان لمحمد بعيدا عن أعين أهل القرية، تشبث عبد الرحمان برأيه بالكشف عن حقيقة محمد / بية لأهل قريته وعشيرته مؤمنا بأن الحياة والموت هي بإذن الله.

” عندما يتدخل القدر”

التحق عبد الرحمان بأهل قريته المجتمعون باكرا للشروع في عملية جني الزيتون، وقلبه ينفطر ألما للخلاف الذي دار بينه وبين أم محمد، محدثا نفسه : أنا لا أقوى على مغادرة أرض نشأتي، ولا استرخص ضياع فلذة كبدي محمد…اللهم عونك.

مسح عبد الرحمان دمعة من على خده، وعلى مقربة منه علت أصوات الرجال وهم يصلون على النبي إيذان ببدء عملية الجني. انهمك عبد الرحمان بكل قوة وعزيمة متناسيا خياره الصعب بين البقاء والرحيل. بعد صلاة الظهر أعد أهل بيته ما تيسر من الطعام، وانطلقت للارقية وابنها محمد/بية محملين بالمؤونة إلى ورش الجني، كما هو حال كل سيدات القرية في توفير الطعام للعاملين. وهما يقطعان المسافة الفاصلة من شعب ومنعطفات في اتجاه المنحدر عند سفح الجبل حيث يتواجد الورش، إذا بجلبة صياح وعويل نساء يتضح صداها عبر الأفق، أسرعت للارقية في الخَطو بقدر دقات قلبها المتسارعة،وما كادا يصِلان المكان حتى اعترضت جماعة من النسوة طريقهما محاولات صدهما عن المشهد المروع لجسد عبد الرحمان العالق من الشجرة بعد أن اخترق غصن زيتون ظهره  وبرز  من بين ضلوعه، مخلفا نزيف دم فوار.

التف الجميع من حول الجسد العالق محاولين إنزاله، وحين استعصى عليهم الأمر، أشار عليهم أحدهم بقطع الغصن عن الشجرة حتى يسهل إنزال عبد الرحمان بأقل ألم إضافي.

كان الزمان أواخر 1933، لا مستشفى ولا مستوصف، لغا القوم من حول عبد الرحمان المسجى على الأرض بجُرحه النازف، صاح أحدهم : لنحمله إلى الطريق المعبدة لعل بعض النازلين إلى مراكش يحملونه أو الصاعدين إلى وارززات.

نهره أحدهم قائلا : بالله عليكم هل سيتحمل نزيفه ركوب البهيمة لقرابة الساعة والنصف حتى يصل للطريق المعبد، أو سيتحمل مسافة مائة وثلاثين كيلومترا للوصول إلى مراكش، أو حتى السبعين كيلومتر التي تفصلنا عن وارززات؟ اتقوا الله في الرجل. في هذه اللحظة حضر فقيه الجامع ومعه بعض شيوخ القبيلة في حين أحضر الشباب محملا ( خشبة بأربع مقابض، قد يتم عليها غسل الميت،  وقد يحمل عليها إلى دفنه بالمقبرة )من المسجد.

صاح أحد الشيوخ بهم : الرجل سيُقضى بين أيدينا، فليذهب أحدكم لإحضار عبد الله الجبار مسرعاً. عبد الله الجبار، عرف عند العامة في تكاديرت بعلاجه للمرضى بالأعشاب و”تجبير الكسور”.بالرغم من بنية عبد الرحمان القوية، وهو آنذاك لا يتجاوز عقده الثلاثين، إلا أنه لم يقوَ على تحمل آلام توسيع ثقب جلده لاستخراج غصن الزيتون المغروس ما بين الظهر وقفصه الصدري، فخارت قواه، ودخل في غيبوبة.بعد معاناة تمكن عبد الله الجبار من إخراج الغصن بعد معاناة، فنظف فم الجرح المفتوح في الظهر والصدر، وشرع في حشو صوف بيضاء نظيفة، أحضرتها إحدى سيدات القرية بطلب منه، داخل الجرح المفتوح. ومن حين لآخر كان عبد الله الجبار يمسك بمعصم عبد الرحمان ليتأكد من أنه لا يزال حيا يرزق خصوصا أنه لم يبد أي حراك أثناء خياطة الفتحتين من جسده. مرر عبد الله الجبار قطعة صوف مبللة ببعض المراهم، فبدأ الجسد يتململ وتصاعد من بين شفتي عبد الرحمان أنينا خافتاً، واستبشر الحاضرون خيرا. وحدها للارقية ترى عكس ذلك وقد أحاطت بها نساء القبيلة، فما عادت قدماها قادرتان على حملها.إنها لا تزال شابة في عقدها العشرين، غير أنها تجرعت ألم رحيل توائمها الستة، وها هو سندها مسجىً أمامها. لقد انتابها شعور حاد بفظاعة الموت الذي يحاصرها من كل جانب، وحده ابنها محمد/بية الملتصق بإزَارها يرمز للحياة، لا يفارقها قيد أنملة، وذاكرته الصغيرة ترتب مشاهد الألم التي تمرّ أمام عينيه حتى لا تضيع.

 مر على عبد الرحمان،  أسبوعاً تكبد فيه كل ألوان الألم ولم يستطع بعد ذلك أن يتماسك أمام جحيم الألم الذي سببته الأجسام الغريبة بداخله، فلازمه ارتفاع الحرارة رغم استعمال العديد من الأعشاب والسوائل.في بداية الأسبوع الثاني دخل في غيبوبة، وتقيح جرحاه، وفاحت منهُما رائحة نتنة تزكم الأنفاس، وخفت أنينه شيئا فشيئا. وبدأ كل شيء ينذر بالهدوء والسكينة، حتى آلامه ما عاد يستشعرها، وفي غفلة من الجميع، صعدت روحه الطاهرة في غفلة من الجميع.

 توالت أيام العزاء، توافد القوم على تكاديرت فرادى وزرافات، من القرى والمداشر المجاورة والبعيدة، كل أهالي الخيام ودور الطمي الأحمر بالتبن يعتبرون الراحل فقيداً لهم كل الأبواب مفتوحة لاستقبال المعزين.

 بدأت تكاديرت نايت أوزدّين تعود تدريجيا لحياتها المعتادة وروتينها  اليومي، حتى بدت عادية وكأن شيئاً لم يحصل. وحدها الأرملة الشابة،وهي تتسربل بلباس الحداد الأبيض الذي يميزها عن باقي الكائنات في ذاك السفح، كانت عنوانا لنذوب عميقة الغور.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى