” هذا اسمي يسرد تفاصيله” ..سيرة فاطمة تزوت ( الحلقة الثانية: مولد محمد/ بية)
إن كان ذكرا أشيعي بأنه أنثى، وإن كان أنثى أشيعي بأنه ذكر
فاطمة تزوت/كاتبة ومناضلة
تقديم المحرر: إنها سيرة استثنائية لامرأة استثنائية تجمعت في مسارها كل عناصر الإدهاش و المغامرة و الصمود والصدق. أعارت قدرتها على حكي قصتها لأصوات من لم بحكوا، ولم تتخل عنهم عرضة للنسيان. إنها حياة تقاطعت مساراتها مع أشخاص وأحداث و منعرجات، و تنوعت جغرافياتها ما بين مناطق متباعدة من الجبال الشاهقة، إلى المنحدرات الوعرة، و الوديان، والحقول، و السفوح، و المدن الضاجة، من الحياة الأسرية إلى الانخراط الصعب في الاحتكاك بشرارة النضال الحارقة في زمن سنوات الرصاص. فاطمة تزوت، اسم يصعب جمع خطوط تماسه، فهي المناضلة الشرسة والقيادية النقابية، ومراسلة الBBC الشجاعة في تسعينات القرن العشرين، و هي المربية والمسرحية و الكاتبة، و الزوجة و الأم. ويكفي لتأكيد أهمية هذه السيرة التي ننشرها مسلسلة، إيراد ما قاله الفيلسوف عبد العزيز بومسهولي في خاتمة تقديمه لها:”سيرة فاطمة هي سيرتنا جميعا، كونها تعبر عن شيء فينا، وعن نزوعنا نحو كينونة تتأصل بالصمود والحرية، ولهذا تستحق أن تقرأ.”
الحلقة الثانية
لَم تتعد للّا رقية إحدى شريفات قبيلة “تاكديرت نايت أوزدين” الرابعة عشر ربيعا عند زفافها، وقد رزقت في ستّ سنوات من زواجها بعبد الرحمان فتى القرية القوي، باثني عشر مولودا ما بين ذكور وإناث. على رأس كل سنة تضع توأمين، تختطفهما يد المنون،بمجرد ما يتجاوز أحدهما السنتين أو الأربع سنوات. وفي حملها السابع قرّرت للّا رقية أن تصارع ليظل مولودها على قيد الحياة. وهي على وشك الولادة، لملمت حزنها ذات مساء وغادرت القرية صحبة زوجها عبد الرحمان الذي لم يبد أي اعتراض بعد استعانته ومشورته في ما نوت فعله.هكذا قررت للا رقية زيارة السيدة الفاضلة القاطنة بإحدى الزوايا المجاورة للتبرك منها، لما يحكى عنها من قضاء لأغراض زائريها المؤمنين بقدراتها الخارقة،فقد بلغت من الشهرة حدا جعل منها قبلة وملجأً لكل مقهور.
حمل الزوجان المكلومان بعض الزاد وانطلقا كمن لا يلوي على شيء، غير أنهما عازمان كل العزم على قطع مسافة يوم وليلة بين شعاب وتلال ومغاوير وعرة وفجاج لتحقيق هذه الغاية.
كل شيء يهون مقابل أن يظل ما ببطني حيّاً يرزق. عبرت للّا رقية. المهم أن تحمي للارقية جنينها من يد الموت الأرعن الذي قضى على إثني عشر طفلا من فلذات كبدها.
لم يكن علاج ” الشريفة ” لحالة لللّا رقية تميمة ولا أعشاب ولا بخور ولا قربانا تتقرب به لأحدهم، بل كان شرطا واضحا وصريحاً، وهي ترفع سبابتها في وجه للّا رقية منذرة آمرة إياها :
اخف جنس مولودك عن كافة القوم، إن كان ذكرا أشيعي بأنه أنثى، وإن كان أنثى أشيعي بأنه ذكر.
نزر قليل من أهل القرية من كان يعلم بحمل زوجة عبد الرحمان، وقد ساعد الإزار ذو اللون الأزرق وهو اللباس الفضفاضة المنتشر ساعتها، بإخفاء مظهر جسد المرأة وكذا حملها حتى وإن كانت على وشك الولادة. انخرط الجميع في عملية حصاد محصول القبيلة والعمل سار بحماس وجدية تامة نساء ورجالا والصلاة والسلام على رسول الله تردّد من العاملين وتنخرط الجبال الشاهقة في ردّ صداها بما يذكي حماس الصغار والكبار وينسيهم لهيب الشمس الحارق.
من بعيد تسمع لعلعة المناجل في أيدي الرجال وهم يحصدون سنابل القمح الشامخة المعتزة بما تحمله من حَبّ ويضعونها أمام صفّ النساء اللواتي تتصدرهن للّا رقية وهي في شهرها الأخير من حملها. فيجعلن منها حزما يحملها الصغار كل حسب قدرته ويضعونها أمام شباب ينتظرها في مكان الدرس وهي مساحة أرض دائرية غرس بوسطها وتد، تسمى بالدارجة ” الكاعة” (مع تنقيط حرف الكاف) وباللغة الأمازيغية تدعى ” أنْرار” توزع على أرضها أكوام السنابل. تلجم البهيمتان ويمتد شريط اللجام ليتم ربطه بالوتد المغروس في الوسط، ويهشّ على البهيمتين لدرس السنابل في شكل دائري دون توقف إلى أن تنفصل الحبوب عن سنابلها ثم يغربل ويوضع في أكياس محكمة الإغلاق ويجمع تبنها على حده ويحمل الكل على ظهر البهائم، ليصل إلى صاحبه. وفي اليوم الموالي ينتقل أهل القرية لأرض مجاورة وهكذا إلى أن يتم حصاد محصول أهل القرية قاطبة. خلال هذه السلسلة من أعمال أيام الحصاد،وفي يوم زادت حرارته واشتدت كانت للّا رقية زوجة عبد الرحمان ضمن العاملات في ساحة الحصاد وهي تئن في صمت لوجع ينتابها من حين لآخر، بين انحناءة واستقامة وتحت شعاع الشمس الحارق فاجأها الطلق. وبهدوء المتمرسة اعتذرت لمن حولها من النسوة لقضاء حاجة ما. وبين حقل الذّرى السامق لملمت ما تكابده من وجع كاتمة صرختها بداخلها وهي تعظ على شفتها السفلى من شدة المغص، وكلما صدح صوت الحصادين مجلجلا في الأعالي بالصلاة على الرسول (صلعم) أطلقت العنان لصرخة نصف مكتومة : ( ربي ربي ربي ربي) لتذوب أناتها بين الصيحات المنطلقة من حقل الحصاد. افترشت للّا رقية إزارها الأزرق وبين شدٍّ وجذبٍ لضروب الألم ومخاض الولادة وندى التربة الندية هلّت صرخة مولود حلّ، وبعينين مغمضتين من شدة الألم تحسّست للا رقية بين فخذي مولودها وتأكد لها أنه طفل ذكر، التقطت منجلها وبطرف الإزار نظفت أسنانه من تراب وحشائش عالقة بأسنانه ذاكرة إسم الله وهي تحشّ حبل سرة وليدها كما تحش سنبلة القمح. لملمت زوجة عبد الرحمان ما ساح من دم بتراب أخفى كل معالمه. تخلصت من فوقية كانت تلبسها فوق ملابسها الداخلية، لفت فيها وليدها، وتحت ظلّ الدوحة الوارفة الظلال وضعت وليدها بين رضّعٍ لنسوة معها في حقل الحصاد، لتعود خفيفة الظل تتصدر الصف الأمامي ضمن نساء القرية.
(الحلقة المقبلة: محمد أو بية: أنوثة معلنة وذكورة مخفية)