الحوارالذكاء الاصطناعي

نجيب المختاري: أنظمة التعليم الحالية يجب أن تتغير لمسايرة تطورات الذكاء الاصطناعي، ونشوء ديانة جديدة مرتبطة بالذكاء الاصطناعي أمر ممكن

المطلوب في سوق العمل في السنوات القادمة، هو التحلي بأهم مهارة وهي مهارة التأقلم والقدرة على التعلم المستمر، ففي غياب هذه القدرة، سيتم تعويضك بشخص آخر أكثر قدرة على التأقلم والتعلم وتطوير هذه الأدوات الناشئة التي نتحدث عنها.

لوسات أنفو،

حاوره: إلياس أبوالرجاء وعادل أيت واعزيز

نجيب المختاري، مهندس متخصص في مجال الاتصالات والتكنولوجيا الرقمية. درس في المدرسة الوطنية العليا للاتصالات في بريتاني بفرنسا وحصل على شهادة هندسة الاتصالات والتكنولوجيا الرقمية. كما درس أيضًا في معهد يوريكوم التابع لمدرسة لوزان الاتحادية للفنون التطبيقية في سويسرا.  عمل نجيب مديرا في فرع الابتكار التكنولوجي، حيث ساهم رفقة زملائه  في تطوير براءات اختراع عديدة في تقنيات مرتبطة بالذكاء الاصطناعي والهواتف المحمولة كما اشتغل مديرا في أكبر مشروع للبصمات الحيوية في العالم.

كما يشارك مجموعة من الفيديوهات مع متابعيه في مجال تبسيط العلوم على قناته في اليوتيوب.

نجيب المختاري في حواره مع لوسات أنفو، يحدثنا عن الذكاء الاصطناعي وكيفية اشتغاله، ويجيبنا عن المخاوف التي رافقت  هذه الثورة الجديدة كما يصفها نجيب، كما يسلط هذا الحوار الضوء عن علاقة الأديان بالذكاء الاصطناعي.

 

شهد مجال الذكاء الاصطناعي وثيرة سريعة في تطوه، بماذا تفسر هذه الطفرة التكنولوجية في ظرف وجيز؟

تعود أبحاث الذكاء الاصطناعي لمنتصف القرن الماضي، وقبل ذلك بقليل، مع أبحاث آلان تورينغ، عالم الرياضيات الإنجليزي، وأحد مؤسسي علم الحاسوب. وهو من بين العلماء الذين قاموا باختراع مفاهيم الرياضيات التي تُعَرِف مفاهيم الحاسوب والبرمجة. وانطلقت أبحاثه من مفاهيم فلسفية كـماهية الذكاء في الكون وماهية ذكاء الإنسان، وهل يمكن اعتبار ذكاء الإنسان نوع من الجهاز الذي يمكن محاكاته في أجهزة ميكانيكية أو كهربائية، التي تمتلك كذلك ذكاء شبيه بالإنسان؟ هذه هي الأسئلة التي طرحها آلان تورينغ مع علماء آخرين، حوالي منتصف القرن العشرين، والتي كانت نوعا ما مؤسسة لمجال الذكاء الاصطناعي. وسيعرف هذا المجال تغيرات وتطورات عديدة خلال القرن العشرين، هذه التطورات كانت في الأول ذات طابع نظري. أي تطورات في النماذج التي يقوم بها العلماء حول نمذجة الذكاء الاصطناعي.  

وما أهم هذه التطورات؟ 

أهم هذه التطورات في القرن العشرين كانت نماذج تسمى بـ”الشبكات العصبية الاصطناعية Artificial neural network” وهي نوع من النماذج التي تحاول أن تحاكي كيفية اشتغال دماغ الإنسان، (على الأقل كنموذج مصغر). وكانت هناك نماذج قدمت نتائج أفضل من هذه الشبكات العصبية الصناعية في القرن العشرين، وما حدث في نهاية العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، ثورة تسمى بـ “التعلم العميق”، والتي كان من ضمن مؤسسيها، جيوفري هينتون، الذي كان يشتغل في منصب بشركة جوجل، إلى أن استقال في منصبه. ثميوشوا بنجيو” الذي يشتغل في جامعة موريال، وقمت باستجواب معه في قناتي على اليوتيوب. ويان لوكون” الذي لازال يشغل منصبا في شركة فايسبوك. هؤلاء الثلاثة الذين فازوا بجائزة “تورينغ” على أشغالهم في هذا المجال، ساهموا بطفرة التعلم العميق، في نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين وبداية العقد الثاني، حيث أعادت هذه التقنية تسليط الضوء على فكرة الشبكات العصبية الاصطناعية، و منها نتج عدد من التطبيقات التي نشاهدها في محرك جوجل أو في أنظمة فايسبوك، التي تستعمل فيها هذه التقنية للتعرف على الأوجه وأمور من هذا القبيل. ولا ننس أن هذه التطورات هي ما صاحبت قدرات الحوسبة لأجهزة الحاسوب، وكذلك في التوفر على أكبر قدر من البيانات، لأن هذه الأنظمة تعتمد أكثر على البيانات. 

وما هي الطفرة التي حدثت في الآونة الاخيرة في هذا المجال؟ 

الذي حدث مؤخرا في هذه السنة هو تطورات في النماذج اللغوية الكبيرة، والحدث الكبير الذي أخرج هذه الأبحاث من دوائر البحث العلمي الأكاديمي والمختبرات العلمية إلى النقاش العمومي، كان هو إطلاق إصدار جديد من نظام “جي بي تي”، الذي تطوره شركة OpenAI في شهر نونبر/نوفمبر من سنة 2022، وقامت كذلك بتغليف هذا النظام في حلة نظام دردشة “شات جي بي تي” كأنك تحاور شخصا على تطبيق الواتساب أو نظاما شبيها. فهذه الحلة لهذا المنتوج الذي قامت شركة OpenAI بتطويره بشكل مجاني متاح للجميع، هو الذي سلط الضوء كثيرا على الذكاء الاصطناعي.

الشيء الآخر الذي وجب معرفته أن وثيرة التطور كانت تسارعية، فكل جيل يأخذ فترة أقل للمرور للجيل الموالي. هذه الطفرة التي تحدث الآن كان لها تمهيد لعقود من البحث العلمي، وكذلك يجب أن نتوقع أن هذه الوثيرة ستظل متسارعة. والمستقبل قد يصدمنا ويدهشنا في سرعة التطور في السنوات القادمة أو ربما الأشهر القادمة. 

لكونك صانع محتوى في مجال تبسيط العلوم، هل لك أن تقربنا من كيفية اشتغال وعمل الذكاء الاصطناعي؟

طبعا، هناك أنظمة كثيرة وأنواع عديدة من الذكاء الاصطناعي، لكن النوع الأكثر إثمارا في علوم الحاسوب اليوم، كان في أنظمة تعتمد على ما يسمى بـالشبكات العصبية الاصطناعية، هذا النوع من الأنظمة يحاول نمذجة كيفية اشتغال الدماغطبعا الدماغ البيولوجي أمر معقد جدا لكن ما فعله العلماء أنهم قاموا بإحداث نموذج بسيط، لكيفية اشتغال العصبية (Neurones) وكيفية ارتباطها فيما بينها. فهذه النماذج لا تمثل حقيقة التعقيد وغنى اشتغال الدماغ البشري أو دماغ الحيوانات بشكل عام. لكن هي على الاقل بمثابة نموذج يقدم لنا نتائج ملموسة، من ناحية الذكاء.  

وكيف تشتغل هذه النماذج من الخلايا العصبية الاصطناعية؟ 

 بخصوص كيفية اشتغال هذه النماذج في الحواسيب، يوجد لدينا ما يسمى بالخلية العصبية الاصطناعية، وهذه الخلية تستقبل إشارات من الخلايا الأخرى، فكل خلية مرتبطة بخلية تسبقها وبخلية تليها. وكل خلية تستقبل خلية رقمية من الخلايا السابقة، وهذه الخلية تشتعل إذا كانت الاشارات التي تستقبلها من الخلايا السابقة لها تجاوزت حدا معينا، وترسل نوعا من الرسالة الرقمية إلى الخلايا التي تليها أو المرتبطة بها في سلسلة هاته الخلايا. هذا هو بصفة عامة كيفية اشتغال خلية رقمية واحدة في هذه الشبكات. فالروابط التي تكون بين هذه الخلايا قد تكون متينة جدا وقد تكون ضعيفة. وكمثال بسيط؛ لنفترض أن أمامك كأس به سائل أسود، وتحاول أن تعرف إذا كان مشروب صودا أو غازي أو فهوى، وبالتالي سيكون أمامك مداخل أو معلومات أو بيانات حول هذا الكأس، وإذا لمست الكأس ووجدته ساخنا فستربط الأمر بشكل قوي أنه مشروب قهوى، يعني، هناك تدخل لرابط عصبي في الشبكة العصبية يميز ما بين درجة الحرارة المرتفعة وما بين أن هذا مشروب قهوى. ولكن، هناك كذلك روابط أخرى من ناحية الرائحة مثلا، أو بوجود فقاعات من عدمها. 

 شبكتنا العصبية تقوم بإدماج هذه البيانات كلها، وفي حالات ما، قد تكون درجة الحرارة مرتفعة رغم أن الرابط بين الحرارة الساخنة والقهوى قوي. ولكن، إذا كانت جميع الروابط الأخرى تشير إلى مشروب غازي قد يكون احتمال تسخينها من طرف شخص ما، هو ما منحه هذه الحرارة المرتفعة. هكذا يشتغل الموضوع، فكل خلية تقوم بإجراء عملية جمع بمعاملات، تماما كما نفعل في النتائج المدرسية؛ تجمع الإشارات التي تدخل إلى الخلية باستعمال المعاملات لقوة كل رابط مع الخلايا السابقة وتخرج بنوع من النتيجة التي تنشرها إلى الخلايا الأخرى المرتبطة بها. 

ولكن، ما علاقة الخلايا العصبية، بطريقة اشتغالها في أنظمة شات جي بي تي؟ 

الأنظمة التي يتم التحدث عنها مؤخرا، التي هي أنظمة مثل نظام “شات جي بي تي” تسمى بالنماذج اللغوية الكبيرة Large language models. وهي كذلك تعتمد على تقنية الشبكات العصبية، ولكن هي نوع خاص  من الشبكات الصناعية التي تعتمد على تقنية تسمى Unsupervised learning، حيث يتم إدخال عدد من البيانات لجهاز الذكاء الاصطناعي بدون أن تقوم بتلقين الذكاء ما يفعله وما لا يفعله، بمعنى لا نقوم بإعطاء تعليمات خاصة للذكاء الاصطناعي، لكن فقط نقوم بتغذيته ببيانات كبيرة، والذكاء الاصطناعي في حد ذاته يقوم باستخراج الأنماط  أو التعقيد الموجود في تلك البيانات التي تم تغدية النظام بها، و هو بنفسه يقوم باستخراج الذكاء الموجود في هذه البيانات، واستعماله ليصير بنفسه ذكيا. 

في حالة هذه الأنظمة اللغوية الكبيرة، ما فعلوه أنهم قاموا بتغذية هذه الأنظمة بأقصى عدد ممكن من البيانات المكتوبة، فقاموا بتغذيته بموسوعة ويكيبيديا مثلا، وبأعداد هائلة من الصفحات على الأنترنت من مواقع ضخمة للحوارات والنقاشات ومواقع البرمجة الخاصة بالحاسوب، إلخ. ونظام النموذج اللغوي الكبير قام بمعالجة هذه البيانات كلها واستخلص أنماط في هذه النصوص، وهذا ما يُمَكِّنه إذا من القيام بأمر خاص جدا، وهو أننا نقوم بإعطائه جملة ما وهو يقوم بتوقع الكلمة الموالية للجملة. فهذه كيفية اشتغاله. 

 وهل تمر طريقة اشتغاله بمراحل معينة؟ 

 هناك مرحلتين، الأولى؛ مرحلة تلقين هذا النظام عن طريق إعطائه كميات هائلة من النصوص المتوفرة على الانترنت، والمرحلة الثانية تتمثل في استعمال هذا النظام في توقع الكلمة الموالية. فأنت ترسل له جملة فيها عاصمة المغرب هي (..) والنظام يقوم بتوقع الكلمة الموالية إحصائيا باستعمال الكلمة الأكثر احتمالا أن تكون الكلمة الموالية، باعتماد ما رآه من ملايير البيانات التي تم تقديمها له. هذه كيفية اشتغال هذه النماذج الحديثة اللغوية التي تسمى بـ  Large language models والعجيب في الأمر أنه باستعمال فقط هذه التقنيات، بتوقع الكلمات الموالية، نشأ نوع من الذكاء الذي يعكس نوعا ما مجموع الذكاء المتوفر في النصوص البشرية الموجودة على الانترنت. 

 انتشرت في الآونة الأخيرة فيديوهات مزيفة ومضللة بصوت وصور شخصيات عمومية على مواقع التواصل الاجتماعي. كيف يمكن للشخص العادي أن يفرق بين ما هو حقيقي وما هو مزيف في زمن الذكاء الاصطناعي؟

فعلا هذا مشكل كبير، لأنه كلما تطورت هذه الأنظمة كلما يصير من الصعب على الإنسان التمييز بين صوت أو صورة أو فيديو حقيقي، وبين ما تم إنتاجه بواسطة الذكاء الاصطناعي. أعتقد أنه ما يتوجب أن نتوجه إليه كصناعة وكمجتمعات أن يتم التعامل مع الأمر بقوانين تمنع مثلا تزييف الأشخاص، كما هو الأمر بالنسبة للقوانين التي تطبق على تزييف أو تزوير النقود، لأننا كمجتمعات بشرية تعتبر أن قيمة ومصداقية النقود أمر أساسي في بنيتنا المجتمعية، وأن تزويرها أمر يستوجب ليس فقط الغرامات، ولكن عقوبة السجن. يجب أن نتوجه كذلك لسن قوانين عالمية، تشترك فيها الدول كلها، التي تمنع بشكل صارم تزييف الأشخاص. وبالنسبة للشخص العادي، من الصعب له الآن التمييز بين ما هو حقيقي ومزيف، ولكن طبعا توجد إمكانية البحث عن مصدر الصورة. كمثال؛ صورة بابا الفاتيكان غير الاعتيادية التي انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يلبس لباس التزحلق على الجليد، يمكن التأكد منها بالرجوع للمصدر الأصلي، فالبابا له حساب رسمي على التويتر ويمكن التأكد من صحة الصورة. 

دعت العديد من المنظمات العلمية لوقف تطوير أجيال الذكاء الاصطناعي إلى حين إرساء قواعد لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي،  هل فعلا سيتحقق هذا الأمر؟ وما تبعات ذلك إن لم يتحقق؟

فعلا كان هناك مجموعة من الرسائل المفتوحة التي وقعها عدد من الشخصيات البارزة، في صناعة الذكاء الاصطناعي وصناعة الحاسوب، وكذلك مجموعة من المفكرين والكتاب عبر العالم، التي تدعو إلى تسريع عملية البحث في موضوع الأمان في أنظمة الذكاء الاصطناعي، وكانت هناك رسالة أولى دعى فيها الموقعون لإيقاف تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي الكبرى حتى يتم تطوير ما فيه الكفاية من تقنيات الأمان في الذكاء الاصطناعي. وكانت هناك رسالة ثانية أكثر واقعية، لأنه من الصعب جدا أن تمتثل الشركات وكذلك الحكومات بهذا الشكل السريع إلى إيقاف من هذا النوع. فوقع على هذه الرسالة عدد أكبر من الأسماء البارزة، وكانت تشير إلى أن أنظمة الذكاء الاصطناعي هذه، تحمل في طياتها ما يسمى ب  Existential Risk أي مخاطر تهدد وجود البشرية. وهذه الدعوات مبنية على فكرة أنه إلى حد اليوم، الإنسان هو الكائن الوحيد العاقل الذي يتربع على قمة الذكاء، وحين نقارن أنفسنا مثلا مع الكائنات الأخرى، فما يستطيع الإنسان فعله بذكائه وعقله يفوق ما يمكن أن تقوم به أنواع أخرى من الحيوانات، والملاحظة التي يمكن لأي واحد ملاحظتها، هي أنه إذا كنت تتربع على قمة الذكاء فوق كوكب الارض، فأنت ستتربع بالضرورة كذلك على قمة هرم الموجودات الحية. 

أيمكن لك أن توضح لنا أكثر هذه الفكرة؟ 

الإنسان بما هو واعي، لن يقدم على تدمير النمل على الأرض، لأنه فقط أذكى من النمل، لكن في اللحظة التي يحتاج فيها الانسان لبناء ناطحة سحاب أو جسر، فهو يقوم بتدمير مناطق واسعة لمساكن النمل بدون حتى أن يشعر. هذا لأن الذكاء الذي يتمتع به الإنسان يجعله مسيطرا على الوسط الذي يعيش فيه. وتصير الانواع الحية الأخرى، نوعا ما تحت رحمة الإنسان. الفكرة هي أنه إذا جاء نوع جديد من الكائنات مستقبلا، هو الذي يتربع على هرم الذكاء في كوكب الأرض، فسيكون هناك خطر كبير، وتساؤلات كبيرة نطرحها حول ماذا سيفعل هذا الذكاء الاصطناعي بنا وهل نحن أثناء قيامنا بإنشاء هذا الذكاء، قمنا بما فيه الكفاية من بناء صمامات أمان داخل هذا النظام حتى لا يتعامل معنا كما نتعامل نحن مع النمل أثناء بناء مشاريعنا على كوكب الارض؟ فهل سيتم الاستجابة لهذه المطالب؟ سؤال محرج جدا! ويتعلق بمدى تفاعل أطراف عديدة من صناع القرار في العالم، ليس فقط صناع القرار على مستوى شركات التكنولوجيا، ولكن كذلك على مستوى الحكومات. وكذلك الحاجة إلى التنسيق العالمي بين الحكومات المختلفة. فإذا استجابت دولة ما لهذا الأمر قد لا يعني استجابة باقي الدول، ولذلك الحاجة ملحة، وهو ما طالب به الموقعون على هذه الرسائل المفتوحة المختلفة، وهو الحاجة إلى تنسيق عالمي، وإلى اتفاقيات شبيهة مثلا بالاتفاقيات التي تم إبرامها بخصوص تكنولوجيا الأسلحة النووية أو الطاقة النووية، وكذلك تكنولوجيا الهندسة الحيوية أو الخلوية. 

أمام تهديد الذكاء الاصطناعي لبعض المهن، ما مآل وموقع الإنسان في المستقبل من كل هذا؟

التكنولوجيا على مر التاريخ دائما ما تقوم بتغيير عميق في أنواع المهن التي يشغلها الإنسان، فمثلا في الثورات الصناعية الفارطة، في كل مرة يتم إنتاج تكنولوجيا جديدة، يكون هناك تخوف من أن هذه التكنولوجيا ستقضي على المهن. عند ظهور المحراث الميكانيكي، من الطبيعي أن يتساءل الفلاحون عن مآلهم بعد ظهور آلة تقوم بنفس عملهم في وقت أقل وبجودة أعلى، لكن الحقيقة هي أن هذه التكنولوجيا ساعدت الفلاحين على توفير الوقت واستغلاله في تحسين منتوجاتهم الفلاحية وأمور من هذا القبيل. وبالتالي فالتطورات التكنولوجية رغم التخوفات التي تواجهها في البداية، إلا أنها تحسن من جودة المهنة وتوفر على صاحبها الوقت لاستغلاله في أمور أخرى.

إذا ما الفرق بين الثورات الماضية والثورة الحالية أي الذكاء الاصطناعي؟

نفس المنطق تقريبا قد ينطبق على ثورة الذكاء الاصطناعي الحالية، فرغم المخاوف من أنه قد يقضي على المبرجين مثلا أو مهن تصميم الغرافيكس أو تصميم المواقع، إلا أن المتوقع في المدى القريب على الأقل، هو أن أدوات الذكاء الاصطناعي ستضاعف من مردودية هذه المهن، وتجعل من يستعمل هذه الأدوات يتفوق على غيره، ما سيؤدي بهذه الصناعات كلها إلى الاتجاه نحو الآلة. فتوفر مبرمجين أكثر في السوق مثلا وتطور أدائهم، لن يقضي على الطلب الموجود في عالم الرقمنة، بل بالعكس سيفتح أسواقا جديدة من المبرمجين الذين يستعينون بأدوات الذكاء الاصطناعي هذه. ولكن بالمقابل هناك مهن أخرى ستحتاج إلى تغيرات عميقة في طبيعتها، خاصة المهن ذات الطابع الميكانيكي التي لا تحتاج إلى بعد النظر وقرارات معقدة. فالمطلوب في سوق العمل في السنوات القادمة، هو التحلي بأهم مهارة وهي مهارة التأقلم والقدرة على التعلم المستمر، ففي غياب هذه القدرة، سيتم تعويضك بشخص آخر أكثر قدرة على التأقلم والتعلم وتطوير هذه الأدوات الناشئة التي نتحدث عنها.

هذا فيما يخص المدى القريب، أما بالنسبة للمدى البعيد، فسنكون أمام لحظة فاصلة، وهي لحظة تطوير ذكاء اصطناعي يفوق ذكاء الإنسان، وهي لحظة ستكون مفصلية في تاريخ البشرية، حينها لن يقتصر الحديث عن سوق العمل فقط، فماهية الإنسان بأجملها ستخضع لتغيرات عميقة. يمكنك فقط تخيل أن كائنات فضائية أذكى من الإنسان حلت على الأرض، التساؤل عن مصير المهن سيصير بلا معنى، لأنه ستكون هناك تساؤلات أهم من قبيل: ماذا سيحدث مع الكائن الفضائي الذي ظهر على الأرض؟ ماهي أولوياته؟ ماذا يريد منا؟ ما الذي يمكن أن يحدث على الأرض في ظل هذا التفاعل بين البشر وبين هذا الذكاء الغريب؟

مؤخرا صرح جيفري هينتون الملقب بالأب الروحي للذكاء الاصطناعي، صرح بأنه يشعر بالأسف حيال الدور الذي لعبه لتطوير الذكاء الاصطناعي، مبررا ذلك بخوفه من أن الذكاء الاصطناعي قد يتجاوز قريبا القدرة المعلوماتية للدماغ البشري. كيف ترى مخاوف جيفري هيلتون خاصة وأنه ساهم في تطوير الذكاء الاصطناعي أيضا؟

 بالفعل جيفري هينتون، هو أحد مؤسسي الذكاء الاصطناعي الحديث أو تقنيات التعلم العميق، صرح بـأن جزء منه يشعر بالندم بسبب إسهامه في هذه التقنيات بالنظر إلى ما يمكن أن تؤدي إليه مستقبلا خاصة من ناحية التطور السريع الذي تشهده هذه التقنيات، وهو تطور غير مرفق ببنية حكامة ملائمة، وهذا هو مصدر الندم بالنسبة إليه، لأنه يرى أن البشرية لم تصل إلى ما يكفي من الحكمة للتعامل مع تكنولوجيا تقوم بعملية هروب نحو الأمام، أي تتطور بشكل تسارعي يجعل البشرية قد تفقد السيطرة عليها.

عرف “شات جي بي تي” إقبالا كبيرا هذه السنة من طرف مستعمليه وقد استعان به كذلك مجموعة من طلبة الجامعات في بحوثهم وامتحاناتهم. ألا ترى أن استعمالات الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم هو سيف ذو حدين؟

نعم، استعمالات الذكاء الاصطناعي وأنظمة مثل “شات جي بي تي” في مجال التعليم، هو أمر معقد، وهو الأمر الذي يشير إلى أن أنظمة التعليم الحالية يجب أن تتغير لمسايرة هذه التطورات. على سبيل المثال، في القرن الماضي صارت الآلات الحاسبة متوفرة للجميع، فأمكن للطالب أن يشتري آلة حاسبة، أما قبل ذلك فالناس كانوا يعتمدون في حساب الدوال والعمليات المعقدة على الذاكرة والحفظ، أي حفظ جداول الضرب وتطوير قدرات ذهنية في الحسابات المعقدة وفي حسابات التحليل أو الحسابات الرياضية المتقدمة، إذ كانت هناك كتب ومجلدات تحمل جداول من الحسابات المعقدة يعودون إليها. لكن بعد توفر الآلات الحاسبة للجميع، تغيرت طريقة تدريس الرياضيات بشكل جذري، إذ لم نعد في حاجة لتحفيظ الطلبة جداول واسعة من الحساب المثلثي، وحتى جداول الضرب لا يتم تحفيظها اليوم كما في الماضي. هذا مثال لتطور في مجال التعليم الذي كان نتيجة للتطور في مجال التكنولوجيا المتوفرة. واليوم، أعتقد أن النظام التعليمي مطالب بإجراء مراجعات عميقة، تتعلق بماذا نريد من الطلبة، وما نوع التعليم الذي نريد تلقينه لهم، كي نحصل على عقول مستقبلية قادرة على التعامل مع عالم اليوم. وأعتقد أن هذه التغييرات ستحدث بشكل تدريجي.

هل هناك حلول مؤقتة مثلا لتجنب الغش عن طريق الذكاء الاصطناعي؟

هناك أدوات اليوم تمكن من التعرف على النصوص التي تم إنتاجها عن طريق محركات الذكاء الاصطناعي، لكنها حلول مؤقتة جدا، لأنه في القريب العاجل قد يصير من المستحيل التمييز بين نص كتبه الذكاء الاصطناعي ونص كتبه إنسان، سوى إذا كان النص خاليا من الأخطاء اللغوية ومكتوب بطريقة جيدة تفوق التوقعات فقد تشك أن الذكاء الاصطناعي من كتبه. وبالتالي فالحل على المستوى البعيد هو تطوير نظام التعليم، فمثل بدلا من تقييم الطالب بناء على جودة النص الذي يكتبه، يمكن أن نطلب منه إنشاء منتوج أو أمر ما لا يستطيع الذكاء الاصطناعي القيام به، أو مثلا وضع الطالب في مواجهة الذكاء الاصطناعي لنرى هل هذا الطالب قادر على مسايرة أو التغلب فكريا على الذكاء الاصطناعي، وأمور من هذا القبيل.

فالمطلوب من المنظومة التعليمية هو إنشاء عقول قادرة على التحليل والتفكير الحر في مواجهة تحديات المرحلة القادمة، وهذا لا يعني إلغاء مادة الكتابة مثلا، فليس من المنطق أن نتساءل لماذا نلقن الطلبة طريقة كتابة نصوص بينما لدينا جهاز قادر على فعل ذلك، لأننا دائما في حاجة إلى عقول قادرة على التمكن من اللغة، فإذا أعطيت نظام “شات جي بي تي” لشخص لا يتقن اللغة الإنجليزية مثلا، وشخص ثاني يتقن اللغة ويتقن ترتيب الأفكار وصياغتها بشكل لغوي كذلك، طبعا سيكون الشخص الثاني قادرا على إخراج قيمة مضافة أكبر بكثير من هذه الأدوات من الشخص الأول.

أمام إمكانية التعلم والتطور بشكل سريع التي يتمتع بها الذكاء الاصطناعي بناء على المعطيات أو قاعدة البيانات. هل يمكن أن نرى في المستقبل نشوء ديانة جديدة تكتب نصوصها من طرف الذكاء الاصطناعي؟

كل شيء ممكن، لكن لا يجب أن ننسى أن الديانات لا تلعب فقط دور تنظيم الحقيقة حول العالم، أي أنها ليست فقط مجموعة من الحقائق حول العالم، ولكن هي كذلك بنى اجتماعية. قد تنشأ ديانات جديدة مرتبطة بالذكاء الاصطناعي أو كتبت نصوصها من طرف الذكاء الاصطناعي، لكن يجب أن نتساءل عن البشر الذين ساهموا في ذلك، أي أولئك الذين طلبوا من الذكاء الاصطناعي هاته النصوص، وكذلك عن كيفية تشكل هذه المجتمعات حول تلك النصوص، وبالتالي فالأمر أعقد من إمكانية كتابة نصوص قد تكون نصوص لديانات مستقبلية.

ولكن مرة أخرى، هناك مرحلتين في مستقبلنا البشري، مرحلة ما قبل نشأة ذكاء اصطناعي خارق لذكاء الإنسان، ومرحلة ما بعد نشأة هذا الذكاء، ففي المرحلة الثانية الأمر سيتعلق بماهية المجتمعات البشرية بعد مواجهتنا لذكاء يفوقنا ذكاء ويشترك معنا هذا الكوكب.

في السياق نفسه، من وجهة نظرك، كيف يمكن للدين أن يتعامل مع التقدمات الحديثة في مجال الذكاء الاصطناعي؟ هل تعتقد أننا سنشهد تراجعا وانكماشا للأديان أم أنها ستستمر وستضم أعدادا من المتدينين الجدد ؟

هذه الثورة التي نحن بصددها هي نوعا من ثورة معرفية جديدة ستزعزع مكاننا في الكون، ولكن يمكن النظر إلى الثورات السابقة، في نفس السيرورة التاريخية، لأننا نعيش استمرارية لمجموعة من المحطات التي تعيشها البشرية منذ الثورة العلمية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والثورات المتتالية بعد ذلك، مثل اطلاع البشرية على مكانها في الكون وأننا لسنا مركز الكون والأرض كوكب يدور حول نجم من بين ملايير النجوم في الكون، وهو الأمر الذي غير منظور الإنسان ومكانته في الكون، ثم ثورة مكاننا البيولوجي بين الأنواع الحية الأخرى واكتشاف أن الإنسان تطور بشكل بيولوجي، وهو يشكل فرعا من فروع شجرة حياة كبيرة تربطنا بالكائنات الأخرى على كوكب الأرض. واليوم نحن كذلك في صدد ثورة جديدة من ناحية عدم فردانية عقل الإنسان في الكون، والمثير أننا نحن من صنعنا هذا الذكاء الغريب في كوكبنا، فهذه ثورة جديدة تزعزع كينونة الإنسان وفهمه لمكانه في هذا الكون.

 هل سيؤدي هذا إلى انقراض الأديان؟ الجواب يمكن أن نراه في الثورات السابقة، هل نظرية مركزية الشمس واكتشافنا أن الأرض ليست هي مركز الكون، قامت بإبادة الأديان وانقراضها؟ لا. هل نظرية التطور لتشارلز داروين جعلت جميع الأديان تنقرض؟ لا. ما يحدث في مثل هذه الثورات هو أن النخبة العالمة والنخبة الثيولوجية أي الباحثين في اللاهوت وفلسفة الأديان، يقومون بمسايرة هذه التطورات ويقومون بإدماجها في نوع من التطور للفكر الديني الذي يتطور شيئا فشيئا لمسايرة هذه الحقائق والوقائع، فدوران الأرض حول الشمس هي واقع حقيقي علمي، وتطور الإنسان من كائنات أخرى هي واقع علمي بيولوجي حقيقي. وبالتالي فالمفكرون في الأديان وعلماء اللاهوت والنخبة العلمية، تتقبل هذه الوقائع وتقوم بالتطوير الفكري لمنظوماتها الفكرية. ولكن ما نلاحظه أنه يبقى هناك عدد من الناس غير المختصين، الذين لم يطلعوا بالشكل الكافي أو لم يقوموا بالدراسة العلمية لهذه المواضيع، يستمرون في نوع من القطيعة بين هذا الواقع العلمي الحقيقي، وبين معتقدات هؤلاء الناس، وبالتالي يعيشون في نوع من التضارب بين العلم والدين. وهذا ما حدث في الثورات السابقة، تواجد مستويين، مستوى فكري مطلع علميا ويتقبل هذه الحقائق العلمية فيقوم بإدماجها في منظوره الفكري والديني، ومستوى ثاني ينكر مثلا كروية الأرض، ينكر دوران الأرض حول الشمس، ينكر التطور، وقد ينكر مستقبلا حتى نشأة الذكاء الاصطناعي أو قد يعتبره نوعا من الكائنات الخارقة أو الجن أو عقاب من الغيب. هذه هي رؤيتي للأشياء، فالظاهرة البشرية معقدة جدا ولا أعتقد أن الظاهرة الدينية بصفة عامة سوف تنقرض، لأنها نوعا ما جزء من الطبيعة البشرية، ولكن الأكيد أنها ستتطور في تشعبات وأنماط مختلفة، تتعلق كذلك بهل نحن نتحدث عن مفكرين وأناس درسوا هذه العلوم وفهموها، أم نتحدث عن أناس عندهم اطلاع بسيط ويحاولون فهم العالم بالأدوات المتوفرة لهم.

في الحقيقة لسنا من طرحنا السؤال الأخير، بل الذكاء الاصطناعي هو من تكلف بذلك. ما تعليقك حول هذا الأمر؟

فعلا، هذه الأنظمة رهيبة، والسؤال كان بجودة عالية جدا. أنا أستخدمها في الأمور المتعلقة بتلخيص النصوص، فالقيمة المضافة للذكاء الاصطناعي هي أنه لا يضيف شيئا من عنده، هو فقط يقوم بتلخيص نص مثلا. أستعمله كثيرا في هذا الخصوص، وكذلك في الأمور التي يمكن التحقق من صحتها بشكل مباشر، مثل البرمجة، تقول له أعطني برنامج يقوم بشيء معين، فيعطيك تعليمات البرنامج وتقوم بتجربته مباشرته وتتأكد أنه يقوم فعلا بما طلبته. أما في الأمور الأخرى، فأستعمله كبداية للبحث لكي يعطيني أفكار لم تخطر على بالي، فأطلب منه مثلا مقترحات عناوين نصوص أكتبها، أو طرق ممكنة للتفكير في موضوع ما، ولكن آخذ مسافة من البيانات التي يجيب بها ولا أعتبرها كحقيقة، ولكن كنقط بداية للاستمرار في البحث والتحقق من المعلومات من مصادر أخرى.

تجدر الإشارة كذلك إلى أن نظام “جي بي تي 4” يفوق بكثير الأنظمة الأخرى بما فيه “جي بي تي 3.5” المتوفر مجانا للعموم، وهذا ليس إشهار للشركة، ولكن أنا أستعمله وأعتبر أن أجوبته غالبا ما تكون لائقة ومفيدة وتختصر الكثير من الوقت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى