مذكرات

من رياض العروس إلى سيدي معروف.. عن الطفولة التي بها أغتني

 عبد الصمد الكباص/ مفكر مغربي

لا ألتفت كثيرا إلى الخلف، ثمة دائما مكان مهجور يقنعنا أن التاريخ علم للموت و أن كل ما تحت السماء ظل. لطفولتي وجه هو وجه مراكش، مكان الحكايات و الأحلام المتطايرة و الأسرار، الدروب المراوغة و الجدران المتشققة التي تشفق على الزمن من انكساراتها، طريق المدرسة الذي يفيض بالشكولا عندما تغزوه الأمطار، شغب دراجات الموبيليت في الزحام، صمت الشيوخ الجالسين قرب أبواب الحوانيت الصغيرة إلى الأبد. لطفولتي اسم:رياض لعروس[1]، أرض الدهشة الأولى و الرحيل الغريب و العودة الدائمة.

في هذا الحي يتراءى لي هذا الطفل الذي كنته،  سعيدا في ذهابه الأول إلى مدرسة سيدي عبد العزيز خائبا في عودته منها. كان ذلك في 1978. أخذتني دوخة الملابس الجديدة التي اجتهدت والدتي في ترتيبها فوق جسدي الصغير، اعتقدت أنني ذاهب إلى عرس، أو في نزهة جميلة في حديقة مليئة بالأزهار و الفراشات. كانت السابعة و النصف صباحا، عندما أخذني والدي إلى “باب درب سيدي بوعمرو” حيث التقينا بأحد أصدقائه يدرس بمركز تكوين المعلمين. اقتادني بهدوء و أنا في حالة انتشاء سرعان ما تكسرت حينما وصلنا الفصل واستقبلنا صراخ المعلمة مؤنبة أحد التلاميذ. تحول العالم فجأة أمام عيني. صار حالة من الرعب الذي لا يطاق. منذ تلك اللحظة ترسخ في عمق الطفل الذي كنته إحساس بدائي مشوش حصل على كامل وضوحه مع مرور السنين، أن المؤسسة أكبر الشرور، و أن الواجب الوحيد الذي يمكن تحمله إزاء أنفسنا هو المضي في تحطيمها.

أقرأ حنة أرندت. وأرشف القهوة و أنصت لشوبان. للموسيقى طعم الطفولة، شيء من السماء، كنسيج واسع من البقاء. أتذكر ما كنته. طفل يجري هنا و هناك هاربا من طفولته متلهفا أن يكبر، و الآن هاهو الذي بالغ في كبره يتحسر لو عاد طفلا. ما كان في قلب هذا الطفل هو نضارة الأشياء، التماعها المدهش، خصوبتها التي لا تنضب في خلق ما يحفز على الاكتشاف. أي كل ما بدده الزمن و عاد مكرورا مضجرا. إنه الفرح الذي يسع الكون بكامله بسبب قطعة حلوى أو لعبة صغيرة أو أي شيء بسيط. لم تكن في أيدينا لوحات إلكترونية أو هواتف ذكية كما هو حال صبية هذه الزمن. ارتباطنا الوحيد كان بالحياة و هي تسيل ماء بين أيدينا، نلمسها و نغني لهروبها المفاجئ. نراقب تفاصيلها، نتعقب الفراشات التي تغزو صحن الدار في الربيع، و نسعد للعطل، نحتفي بالشمس الحارة في الصيف، لأنها إيذان بتحررنا الطويل بعد الانتهاء من “الامتحان الكبير”، و نتقاسم الحلوى و الليمونادا في حفل نهاية السنة. و نعد النجوم في الليل الصافي في زرقته.

درب سيدي بوعمرو

 

طفولتي أيضا، هي قصة البيت الذي نشأت و قضيت فيه جل حياتي بدرب سيدي بوعمرو برياض لعروس. أربعة أحواض من أشجار النارنج ونبات الباغ و الجيرانيوم والنعناع  والياسمين ترعاهم والدتي بحنان كما لو كانوا من أطفالها ، و نافورة زرقاء تتدفق بالماء. والكثير من السماء و الشمس، وصوت مؤذن الجامع الذي يحاذي بيتنا، و يصلنا بلا أبواق مزعجة كما لو كان نشيدا يؤدى خمس مرات في اليوم. عندما اكتشفنا كرة القدم كان الدرب ملعبنا، نحن اللاعبون و الجمهور والحكم . نتقافز حول كرة لا يتجاوز ثمنها خمسين سنتيما. كم كانت السعادة بلا ثمن. نجري و نمرح و نتخاصم. نبكي ونضحك بلا ضغينة ولا أسف. في ساحة رياض العروس كان للطفولة درس آخر. هناك عرف الطفل الذي كنته أن الواقع مجرد نشارة خشب تتفتت بين أيدينا. الطرق تتفرع منه في اتجاهات مختلفة تلتقي كلها في ساحة جامع الفنا. كنا نعبرها سريعا في اتجاه درب ضبشي حيث يقطن جدي. “إنها ساحة أولاد الحرام” يقول الكبار محذرين حتى لا نسقط فريسة غوايتها المبهجة. ما كانت عيناي تلتقطه من هذه الساحة الملغزة التي تعج بالناس و الحيوانات و الأغاني، هو الحيات المتكاسلة مع تساؤل مذوي يتكرر دائما في ذهني”لماذا لم تقتل مروضيها بسمها الفتاك؟”. عندما كبرت قليلا و أصبح بإمكاني قيادة الدراجة الهوائية. كنت أتوقف في طريقي إلى درب ضبشي بحلقة “مول الحمار” العرض الأكثر فتنة بالنسبة لي حينها. كان الحمار مروضا في سلوكه كالبشر. يسأله المروض ” مالك؟ هل تريد أن تدخن؟” فيحرك الحيوان رأسه كما يفعل أي آدمي بإشارة تفيد نعم. يعطيه المروض سيجارة ماركيز، فيحرك الحمار رأسه رافضا. يستدرك المروض” أولد الحرام تريد مالبرو؟” يستلمها الحمار بفمه يشعلها المروض ويشرع الحيوان في التدخين بشراهة نافثا الدخان في انتشاء. في الساحة اكتشفت بلا رجعة أن الشيطان مجرد عادة لغوية سيئة.

في طريقي إلى ابتدائية سيدي عبد العزيز، و سني لم يتجاوز ست سنوات لم أكن أعرف شيئا عن السينما. كنت أتوقف أمام الملصقات الضخمة المثبتة في الجدار مابين الباب التاريخي لإعدادية محمد الخامس و مقر البريد. نساء فاتنات و رجال أقوياء، أسلحة و خيول. أتساءل مع نفسي دون أن أتلقى أي رد ” ما خطب هؤلاء؟ لماذا علقت صورهم العملاقة هكذا في الشارع؟” انتظرت طويلا لأكتشف السر. السينما هي حقيقة كل شيء. لابد للسيناريست أن يرتكب خطأ ما ليكون فيلم وجودنا قابلا للتحقق.

كان ذلك أول احتكاك في حياتي بالسلطة، بدايته عذاب و جوع ونهايته مرض و ألم..

الدراجة الهوائية كانت فتنتي الكبرى، حلم لا يصدق، وجاذبية لا تقاوم. كان جدي عندما يزورنا يترك دراجته قرب البيت دون أن يضع لها قفلا، كان ذلك علامة للدرجة القصوى من الإحساس بالأمان. و ما يكاد يدخل وأسلم عليه، حتى أنقض عليها مسرعا مخترقا الدروب الصغيرة من الحي. كانت” البيسيكليت” بالنسبة للطفل الذي كنته هي متعة الهروب، هروب الحقيقة في تدفق الحياة.  كانت حرية بلا عجلة، لأن كل استعجال محمل بالنهاية، كانت المكان الذي يسيل محمولا بالهواء الذي يلطم وجهي بخفة. كم صدمت من حائط، وكم انقلبت أرضا ولم تمنعني الخدوش و الكدمات و الجروح من الاستسلام لهذه الغواية. أما معاناة جدي المتكررة فكانت الانتظار الطويل لعودتي ليستلم وسيلته السحرية في التنقل. لم يعاتبني أبدا على ما اقترفته، وحدها ابتسامته الهادئة من يستقبلني. لم تفارقني أبدا هذه المتعة، ظل طفل البسيكليت الذي يسكنني يهجس بقولة أغسطين” لنقم بالشر حتى يظهر منه الخير.”

في طفولتي اغتنى معجمي اليومي بكلمة جديدة ذات مذاق عذب. كان ذلك في نهاية السبعينات، عندما ذهبت إلى المدرسة، و لاحظت شيئا غريبا يحدث. التلاميذ في الساحة، و المعلمون مجتمعون في حلقة، و حالة من الترقب الغامض بين الطرفين تسود. بعدها بقليل انسحب المدرسون،  فطلب منا أن نغادر إلى بيوتنا. حينها التقطت كلمة مبهجة لخصت لي الموقف بكامله: الإضراب، الذي لم يكن ليدل في معجمي الخاص إلا على معنى واحد مفرح هو عطلة ممنوحة كهدية من المعلمين. عدت إلى البيت و أنا في قمة الانتشاء داعيا الله أن يعاود علينا مثل هذه الإضرابات التي لم تكن في اعتقادنا سوى تفهم عميق لدى أساتذتنا لحاجتنا لمزيد من الراحة. هذا ما كنت أفهمه منها و أنا في الابتدائي الأول، مسرة التوقف عن شيء ما ليشرع شيء آخر في الحدوث. الإضراب لعب و مرح، سعادة الهروب المفاجئ و العطلة غير المنتظرة. حينها اكتشفت أن المعنى الأصيل للخير، يكمن في كل ما يحررني من المدرسة، لذلك حتى المرض كان بالنسبة لي خيرا عظيما.

في العاشرة من عمري، أقحم الطفل الذي كنته في عالم آخر يظهر لي اليوم أكثر سوريالية. كان ذلك في بداية الثمانيات من القرن الماضي. إلى ذلك الحين، لم يكن الدين في عيني أكثر من احتفال، لباس أبيض يوم الجمعة، و ملابس جديدة و حلوى و تبادل للزيارات مع الأهل و الظفر منهم ببضع دراهم في العيد الصغير، و حفلات الشواء في العيد الكبير، و تجول مسائي بين المساجد في ليلة القدر. كل شيء فيه كان بنكهة حلوة. لكن مع نهاية السبعينات  و بداية الثمانينات ظهر في الحي مطلقو اللحى المتدثرين بلباس داكن اللون طويل غير الجلباب المغربي الذي ألفناه يكسو أجدادنا و آباءنا. كانوا قلة في المسجد، لكنهم كانوا مزعجين يتدخلون في طريقة أداء صلاة الآخرين. يستغلون أي موقف ليرفعوا صوتهم مستعملين كلمة أخرى كنت أسمعها للمرة الأولى في حياتي: ” بدعة”. كثيرا ما نشب شجار بينهم و بين المصلين الآخرين بسبب جواز الصلاة بالسدل. “السنيون” هكذا كانوا يسمون عند عامة الناس الذين كانوا ينظرون إليهم بارتياب. في هذه الفترة بالضبط، فتحت مدارس جديدة غير تلك كنا نذهب إليها، سميت بدور القرآن. في صيف تلك السنة، ما كادت العطلة تبدأ حتى دفعنا أنا و أخي رشيد إلى إحداها بحي رياض الزيتون. كان موعد الذهاب بعد صلاة الفجر مباشرة. فضاء ضيق فيه العشرات من الطلبة من مختلف الأعمار، ربما كنا الأصغر من بينهم. كان الأداء اليومي هو غسل اللوحة و دهنها بالصلصال، و مدها لأحد الطلبة الذين كانوا يكبروننا سنا ليكتب عليها بالسمخ ربعا من القرآن. و عندما نحفظه نستظهره أمامه، نغسل اللوحة مرة أخرى، و هكذا. و في آخر الحصة التي تنتهي مع صلاة العصر. كنا نحفظ متن البخاري. في مساء الجمعة كنا نقصد دار القرآن  برياض العروس ليلا لحضور درس “سي زهرات”. امتلأ الطفل الذي كنته بكره البدع التي لم أكن أرى غيرها في حياتي اليومية بسبب الدروس التي كنا نشحن بها. المساجد مليئة بالبدع، الدروب أيضا، ملابس النساء بدع، التلفزيون و الفن بدع فادحة لا تقود إلا إلى الضلال، مشيتنا في الطريق بدع، الضحك بصوت مرتفع و الاستغراق في الأحلام عوض ذكر الله بدع. ما ندرسه في المدرسة بدع. الأعراس و الفرح حتى الاحتفال بعيد المولد النبوي. ماعدا تلاوة القرآن و الاستغفار عن ذنوب لم أرتكبها كل ما أراه و أسمعه بدع. دفعني ذلك ذات يوم إلى ارتكاب حماقة طفولية، عندما تقدمت نحو ” مولاي امبارك” إمام مسجد درب سيدي بوعمرو وهو يهم بإقامة الصلاة، مطالبا إياه بأن يتخلى لي عن الإمامة لأن الصلاة خلفه لا تصح  فهو ببساطة لا يجوّد القرآن. كان رده ضحكا مستميتا كما لو حكيت له نكتة طريفة.

“ما الحياة؟ التماعة يراعة في الليل، تنفس جاموس في الشتاء، ظل صغير يركض عبر العشب و يفقد ذاته مع غروب الشمس.” أقرأ ترومان كابوتي و أرشف الشاي و أستعيد الحكايات القديمة. العالم نكرة بدوام كامل، شخص لا قيمة له إلا في نظر الحمقى. أرى الزمن مهرولا يلتهم الأخضر قبل اليابس، و أسمع ت.س. إليوت مطلقا وعيده ” سأريك الخوف في حفنة تراب.” عندما اجتزت الشهادة الابتدائية وولجت الإعدادية غمرني إحساس نرجسي أنني ارتقيت في السلم الاجتماعي بمجرد أن صار لي سبعة أساتذة عوض أستاذين في الابتدائي، و ملعب كبير للتداريب الرياضية و الكثير من الزميلات. بدأت أستاذة العربية تكلفنا بالبحث عن تراجم بعض المؤلفين. فكنا نذهب إلى خزانة ابن يوسف بقصر دار البشا، و بعدها إلى الخزانة البلدية. جعلني ذلك أكتشف عالم الكتب و أشياء أخرى. كنا نستغل مبرر تواجدنا في الخزانة لنعبر شارع محمد الخامس حيث يتفتح أجمل مكان في مراكش، عرصة مولاي عبد السلام. ضالتنا فيها هو شجر الخروب الذي نلتقط فاكهته بحفاوة، و أزهار” الكركاز” التي كنا نستعملها لإخراج العقارب من جحورها، و نهم بقتلها مستمتعين بإنجازنا الفتاك.

طفولتي أيضا هي الزنقة 50 بسيدي معروف الرابع. الدار البيضاء بالنسبة لي كانت و مازالت هي هذا المكان السحري الذي يمتد من القريعة إلى ساحة السراغنة مرورا بالحفارين وصولا إلى الحبوس هذا المكان الغامض الذي كنت أعتقد أنه مراكش أخرى في قلب مدينة الصخب و السرعة و العمارات الشاهقة. كنا نقضي عطلة الصيف بهذه المدينة، نسافر إليها على متن سيارة رونو 4 فارين من حرارة مدمرة . أول ذكرى أحتفظ بها هي أشغال الحفر التي كانت تخترق الساحة الفارغة المقابلة لبيتنا، بعد عودتنا في السنة الموالية وجدنا الطريق السيار قد نبت هناك، فكنت أقصد الجسر المؤدي نحو “المنظر العام” و “عين الشق”  لأتابع سيولة السيارات فيه. كان مرورها السريع يخطفني و يمنحني إحساسا ملتبسا بالحزن و الفرح. الحفّارين كان محنة حقيقية لي. أرافق الوالدة إليه متذمرا من الزحام ومن الوقت الذي يهدر في التجول بين المتاجر و التسوق عوض اللعب أو الذهاب إلى شاطئ زناتة حيث الأمواج المالحة و الرمال و الشمس. في الحفّارين نمى داخلي كره أبدي للحشود، ونبذ لحقائقهم، و تقزز من الاصطفاف في طابورهم، و اشمئزاز من ذوقهم. مع الحشود كل شيء يبدأ سيئا و ينتهي بكارثة.

الحكاية بيتنا الكبير. نما خيال الطفل الذي كنته في حضن الأحجيات التي كانت تقصها جدة والدتي. حكايات تبدأ برعب التحول و تنتهي بعودة التماثل السعيد، الفتاة تعود إلى جمالها بعد أن تكون الساحرة الحقودة قد حولتها إلى شجرة تبكي، و الشاب الشجاع يعود إلى قوته ونشاطه بعد أن مسخه الشرير إلى صخرة متحسرة. كل إثارة في الحكاية تأتي من نفوذ التحول. هذا ما تعلمته من أحجيات جدة والدتي التي كان من حظي أن عايشتها لأزيد من عشر سنوات. ذلك من حسنات الزواج المبكر حيث تتداخل الأجيال و يحظى الأحفاد بالجد الأول و الثاني. منهم سمعت ما رأوه في عهد مولاي عبد العزيز قبل أن أقرأه في الكتب، و عن الدخول الأول للفرنسيس، و المجاعات و الأوبئة و بطش سي التهامي الكلاوي، وشق أول شارع بجليز و تبليطه بآليات تجرها الجمال. بعد ذلك عوضت جدتي بقصص عطية الأبراشي بعد ان اكتشفتها لأول مرة في واجهة مكتبة صغيرة في رياض العروس. أثارتني الرسوم التي تزين أغلفتها. و عندما صرت في الإعدادي أدمنت على جورجي زيدان. و اليوم كما الطفل الذي كنته تأسرني الكتب بلغزها، أحيا بروايات بول أوستر و هنري ميللر و ترومان كابوطي..

كل ما يرتبط بالعطلة كان عنوانا لسعادة لا تقدر بثمن. اليوم الأخير منها هو يوم الحزن الكبير، طعم الفقد و الموت، كما هو تماما مساء الأحد الذي ظل بالنسبة لي يوم حداد. مع اقتراب شهر مارس كان الانشراح يعم نفوسنا. ليس بسبب الربيع، و لكن لأنه شهر الثالث من آذار. الدروس تتخفف داخل الفصول لتخلي مكانها لإعداد الحفل الذي سيقدم بمناسبة عيد العرش، و العطلة  قد تطول حسب مزاج المسؤولين. كل شيء فيه يناسب شغفنا بالحرية. في أحد الصباحات الباردة و مطر خفيف يبلل رؤوسنا، جمعنا الأساتذة في ساحة المدرسة، مكثنا هناك قليلا مرددين أناشيد تهتف بالملك. فتحت بوابة المدرسة على مصراعيها، فساقنا المعلمون كالقطعان في الشارع إلى أن وصلنا قصر الستينية. وجدنا بالمكان حشد كبير من رجال الأمن و الحواجز الحديدية التي تؤطر الأرصفة. الشرطة حازمة في منع مرور السيارات و الدراجات. اصطففنا مطلين خلف الحواجز. المطر اشتد، لكن شغف اللحظة كان قويا. بقينا نردد الأناشيد. مرت ساعات طويلة قبل أن ننتبه إلى أن الأساتذة الذين كانوا يرافقوننا قد اختفوا. قضينا الصباح بكامله و جزء من الظهيرة هناك و نحن واقفين بلا طعام و لا ماء. بعد أذان العصر حدث تحول بالمشهد، سيارات كثيرة تندفع في الشارع أمامنا، الكثير من سيارات الشرطة التي تصرخ، سيارات للجيش و الدرك، سيارات لامعة في سوادها كما لو دهنت بالزيت، و بعدها كوكبة من الدراجات   الفخمة بأضواء زرقاء مترقرقة  يقودها رجال ببذلة موحدة و خوذات و مسدسات تتوسطها سيارة كبيرة يعتليها نفس الشخص الذي تتحدث عنه كل برامج التلفزيون، و أجد صوره معلقة في كل مكان.ارتفع هيجان الحشود، و احتد تدافعهم لتعقب السيارة و من فيها ملوحين بأياديهم، غناء و زغاريد. كان إلى جانب الحسن الثاني شخص آخر أسود البشرة، عندما كنت في البيت عرفت في الأخبار أن اسمه أحمد سيكوتوري. عادت السيارة السوداء التي تتوسط كوكبة الدراجين من جديد. مرت مسرعة. بعدها ترك رجال الأمن الشارع للفوضى، الحشود تندفع في كل مكان، سيارات و دراجات. و نحن أطفال المدرسة لا نعرف ما نفعل، هل ننتظر عودة أساتذتنا ليرجعونا من حيث أخذونا في الصباح. صدمني أحد الهائجين فارتميت على الحائط و أصبت بخدوش في الرأس. بقينا هناك تتقاذفنا الأرجل. سألَنا شرطي بعدما لاحظ تيهنا ” من أين أتيتم؟ّ” عندما ذكرنا اسم المدرسة دلنا على الطريق. تجاوزت دار الباشا فالتقيت بوالدي يبحث عني. في اليوم الموالي، أيقظتني الحمى و السعال و القيء. أربعة أيام من الألم و الغياب. كان ذلك أول احتكاك في حياتي بالسلطة، بدايته عذاب و جوع ونهايته مرض و ألم.

لست كأدونيس، الطفل الذي كنته لم يأتني ذات يوم، لأنه يسكنني باستمرار، هو البلاد الصغيرة التي أعود إليها لأقتات و أغتني، الكلمة الخافتة التي ما أن ألمسها حتى تصير قصيدة، الشرور البريئة التي لا تنتج إلا الخير، النسيان اللازم لأغفل من أكون. الطفل الذي كنته لم ينم بعد. أينا الذات؟ و أينا الآخر؟ عشب مجنون ومدن هاربة و طريق للموت الجميل..

ـ حي في قلب مراكش العتيقة يتوسط أحياء باب دكالة و سيدي بن سليمان و سيدي عبد العزيز [1]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى