مشاهدات الكاتب لحسن لعسيبي في رحلته إلى كندا(2): حدائق مونريال.. كمن يفسر الماء بالماء
سيكون من باب تفسير الماء بالماء، أن يحكي المرء عن المساحات الخضراء الضاجة حد الترف والتخمة بمونتريال (وكندا بكاملها). لكن، رغم ذلك، لا يمكن الحديث عن مونتريال بإقليم الكيبيك الكندي بدون الحديث عن تنظيم المساحات الخضراء بقلب وأطراف المدينة.
وهي مساحات خضراء تترجم قرارا سياسيا تدبيريا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، غايته مصالحة المواطن المونتريالي مع مجال مدينته، في أبعاده الجمالية والصحية والفكرية والبيئية.
لقد أصبحت هوية المدينة، في معنى تمدنها ورقيها، قرينة بتنظيم المساحات الخضراء بها، يهمني الإشارة هنا لنموذجين منها:
أولها الحديقة الممتدة على كلمترات مربعة بقلب المدينة جوار المدينة الأولمبية والقرية الأولمبية التي بقيت قائمة منذ دورة الألعاب الأولمبية لسنة 1976. وهي حديقة مجهزة ونظيفة خصصت لتكون متنزها للعائلات على مدار اليوم ومدار الأسبوع (تضم أيضا متحفا للمزروعات والنباتات والثروة الحيوانية بكندا).
ثانيها، فضاء مونت روايال (الجبل الملكي)، المطل على مونتريال، العالي بحوالي 300 مترا فقط، الذي ممنوع أن تبنى عمارة أعلى منه في المدينة، حتى يبقى مجسم الصليب المسيحي المتبث في قمته منذ 1874 والذي اكتسب شكله النهائي الحديث سنة 1924، العلامة الثقافية الدينية الكنسية الكاثوليكية الأعلى في كامل المجال المحيط بمونتريال بربواتها ومرتفعاتها العشر.
فضاء مونت روايال، ليس مجرد مزار سياحي اليوم، تلتقط فيه صور للمدينة النائمة أسفله في اتجاه ضفاف نهر السان لوران، بل هو قطعة جنة فوق الأرض من الجمال والخضرة ومختلف أنواع الأشجار وشلالات المياه الطبيعية والاصطناعية. وأن متعته كامنة في المسار المحدد للصعود الى قمته التي تضم مركزا سياحيا به مقهى ومقاعد مريحة ولوحات تعرض تاريخ الجبل، حيث عليك أن تتسلح بكامل طاقتك الجسدية لصعود 521 درجا، بما يوازي صعود أكثر من 30 طابقا في عمارة عالية. وهو صعود يتم عبر ادراج خشبية عتيقة تعود إلى نهاية القرن 19، تاريخ إنجاز ذلك الفضاء الأخضر الفاتن.
لقد دشن موقع فضاء مونت روايال يوم 24 ماي 1876 (تزامنا مع عيد الملكة البريطانية فيكتوريا)، بعد أن صممه ووضع هندسته واحد من كبار مهندسي الحدائق الأمريكيين فريديريك أولمستيد، الذي كان في بداياته الأولى بحارا ثم صحفيا عمل بيومية “نيويورك دايلي تايمز” (التي أصبحت في ما بعد “نيويورك تايمز”)، قبل أن يصبح واحدا من كبار مهندسي ومصممي الحدائق والساحات الخضراء بالمدن. فهو صاحب أكبر حدائق نيويورك “سنترال بارك”، ومحميات شلالات نياغارا في الجهتين الكندية والأمريكية، ومصمم حدائق جاكسون بارك بمدينة شيكاغو وغيرها كثير.
حدائق مونت روايال بمونتريال، تعتبر رمزا للاستقلال الكندي أيضا منذ تأسيس دولة كندا سنة 1867، في اللقاء الذي احتضنته جزيرة الأمير إدوارد كما سبق وكتبت عن ذلك في ورقة سابقة هنا على الفايس. وظلت مجالا للعديد من المحطات النضالية السياسية لأجيال من الكنديين من مختلف الحساسيات السياسية والثقافية.
القيمة الأخرى لفضاء مونت روايال هو أنه مزنر (محاط بما يشبه الحزام) من جهتي الشمال والجنوب، بأكبر جامعات كندا وأرقاها علميا واكاديميا (وأغلاها من حيث رسوم الدراسة للأجانب)، جامعة ميغيل التي الدراسة فيها باللغة الإنجليزية، وجامعة مونتريال التي الدراسة فيها باللغة الفرنسية. وكلا الجامعتين عبارة عن حيين هائلين بمباني كليات متعددة وسكن طلابي وسكن الأساتذة والمكتبات ومجالات خدمات مخصوصة فقط لطلاب العلم.