مستويات و ضرورات مجابهة غول الرأسمال المتوحش
العلمي الحروني، قيادي بالحزب الاشتراكي الموحد
خلافا للإعتقاد السائد بعشوائية وارتباك قرارات الدولة المغربية، فإن تلك القرارات، جميعها، تدخل في إطار رؤية استراتيجية قارة، ببعديها الدولي والوطني، تشمل كل المجالات والحقول الاقتصادية والاجتماعية. فالسياسات المتبعة، منذ الاستقلال، تنحو نحو محو مقومات وجود الدولة نفسها بالمفهوم الكلاسيكي باعتبارها دولة الرعاية الاجتماعية.
كان حقل التعليم، كقطاع محوري، أول قطاع تعرض للاستهداف منذ سنة 1965 بالقرار المشؤوم لوزير التعليم آنذاك القاضي بإقصاء وحرمان التلاميذ الذين يفوق سنهم 17 سنة من متابعة الدراسة بالثانويات مما شكل ضربة لحق 60 في المئة من أبناء الطبقات الشعبية في التعليم. تصدى لها الشعب المغربي بقوة وتعرض إثرها لعنف وحشي خلف آلاف الضحايا القتلى والمفقودين.
وإذا كان موقف ” النخبة السياسية” قد اتسم بخذلان الحركة التلاميذية سنة 1965 ، فقد شكل الشعب المغربي قيادة بديلة على أنقاض تلك النخبة بتأسيس “اليسار الجديد السبعيني” الذي رفع مطلب ” التعميم” و” الالزامية ” و” المجانية”، فإن “حراك التعليم” الراهن الذي يقوده أبناء وبنات الشعب من رجال ونساء التعليم قد تعرض بدوره لخيانات من طرف كل النقابات وأغلب الأحزاب على حد سواء. فهل سيعيد التاريخ نفسه من جديد بتجاوز النخب المتكلسة وتشكيل بدائل وأدوات نضالية جديدة تتأقلم مع ضروراته؟
فقد استمر التوجه القار للدولة في القضاء على التعليم العمومي عبر عدة مراحل ومحطات في ترسيخ نهج تخلي الدولة عن مهمة التربية والتعليم باعتباره قطاعا غير منتج. ومن مؤشرات ذلك، تصريح عبد الإله بنكيران ” حان الوقت لترفع الدولة يدها عن التعليم والصحة”، وبعده في عهد سعد الدين العثماني حيث تم رسم توجه ” فصل التكوين عن التوظيف” الذي واجهته حركة “الأساتذة المتدربين”، وكذا تصريح صاحبه وزير التعليم العالي لحسن الداودي حين قال بلا جدوى العلوم الإنسانية في عالم اليوم لكونها تخرج افواجا من العاطلين!! لا تحتاجهم ماكينة الرأسمال النيوليبرالي الجشع التي لا تشغل سوى أطرا ” تقنية” مرتبطة بالانتاج الآلي كإجرأة لمقولة ” ربط التكوين بعالم الشغل” تمهيدا لخصخصته.
وابتداء من سنة 2016، تسارعت وثيرة تنفيذ خطى خطيرة في نفس الاتجاه بالشروع في تطبيق خطة ” التشغيل بالتعاقد” وتسريع خطوات “خوصصة” قطاع التعليم وتوسيعها لتشمل الجامعات والمعاهد العليا. وطبعا، توجه الدولة هذا بقطاع التعليم نفحته طبقية واضحة المعالم: فلأبناء الطبقة الميسورة مسارهم التعليمي والمهني الآمن، ولأبناء الفقراء والطبقة الوسطى مسارهم الهش في التعليم العمومي، الذي يتعرض بعنف للخنق، وبمخرجاته المهنية الهشة أيضا. وهذا ما يرفضه أبناء الشعب برفع شعار قار خلال العقدين الأخيرين ” بغينا تعليم شعبي ديمقراطي ماشي تعليم طبقي”.
توجه القضاء على التعليم العمومي والمدرسة المغربية وخصخصته تتناوب على تنفيذه الأصولية الدينية والمخزنية ” تيار التمكين وتيار التحكم” وهما معا وجهان لعملة واحدة، تتخذ هذا قطاع مختبرا لتنفيذ سياسة عالمية لا ترى في الإنسان سوى ” دمى” لخدمة الرأسمال وآلة لمراكمة الربح السريع.
إن سياسة الخصخصة والتشغيل بالتعاقد سياسة قارة فعلا وأخذت طريقها وتتمدد في كل القطاعات الاجتماعية الحيوية، قطاعات الصحة، والماء الصالح للشرب وذلك بخلق شركات جهوية للتوزيع، وقطاع إنتاج السكن بخلق وكالات جهوية للتعمير والإسكان. وقد تم التمهيد القبلي لكل هذه السياسيات بـخطاب رسمي وبـ “مناظرات” حول مواضيع من قبيل “اللامركزية واللاتمركز” و ” الجهوية المتقدمة “، وإشاعة مفهوم مضلل لـ ” الحكامة الجيدة” التي روج له بخلق مدارس خاصة، وصولا إلى نشر ثقافة غربية/ليبرالية موضة ” الجودة” وهلم جرا.
هذه السياسة، التي مصدرها ما يسمى ب” العالم الحر “، ماضية على المستوى العالمي كالطاعون الذي لا يبقي ولا يذر، تنفيذا للأمر الرأسمالي الموجه لكل الدول /الأقطار (Mot d’ordre) حيث لا وقت ولا مجال للنقاش، وهذا التوجه تقوى واستأسد بعد جائحة كورونا 19 التي حملها ونشرها الفيروس النيوليبرلي المعولم” أو ” بيكبانغ القرن 21″ الذي فتح إمكانية سيطرة المال على البشرية جمعاء بسهولة وإرغام الناس على المكوث بمنازلهم وإقفالها عليهم لفترة بالقوة والرعب.
هذا التوجه القار الخطير وجد له تربة خصبة ببلدنا وصنع له “وكلاء نيوليبراليين محليين” يركضون مثل الدببة فوق أواني الخزف، لا أخلاق لهم ولا حس وطني، يفتقدون لأدنى جرعة من القيم الإنسانية النبيلة ولقيم العيش المشترك، توجه لا يمكن مقاومة إلا بالرفض المبدئي وبنفس الأسلحة و الأدوات الفلسفية و الفكرية والسياسية.
مجابهة هذا الغول، الذي يبيح كل شيء ويحلل الحرام ويحرم الحلال (قضية تجارة المخدرات حاليا بالمغرب التي يمتزج فيها السياسي بالرياضي والإعلامي و” الفني”، هي احسن تجل لسياسة هذا الغول الذي يعيث في الأرض خرابا)، يحتاج بالضرورة إلى تحالف واسع ببرنامج حد أدنى، فكري وسياسي، عنوانه “المواطنة أولا” داخل كل دولة على حدة من جهة، والدفع بتشكيل تكتلات إقليمية، بدول الجنوب خاصة، وعلى مستوى كوكب الأرض عنوانها “الإنسان أولا” من جهة أخرى.
إن بلوغ هذا الهدف يقتضي ضرورة ” أقلمة النضال وعولمته” ببلورة رؤية استراتيجية بعيدة النظر وذات نفس طويل، كسبيل لبناء عالم تسوده “الاشتراكية” بمفهومها المتجدد “اشتراكية القرن 21” وحقوق المواطن/الإنسان بمفهومها الكوكبي، كضرورة لا محيد عنها لرد وردع غول الرأسمال الجشع الذي يشكل خطرا محدقا على الإنسان والطبيعة معا.