مرايا الظلال لعبد الغني عارف: حلم اليسار في رحلة عبر بوابة العتبات
المصطفى زوبدي
في طبعة ثانية ممتازة أصدرت مطبعة النجاح(CTP)بالدار البيضاء سنة 2022 للكاتب والأديب الأستاذ عبد الغني عارف رواية بعنوان: مرايا الظلال(عتبات محكية).
لعنوان الرواية المتصدر وجه الغلاف – بلمسة ظليلة – توهج يغري بالرغبة في كشف ما وراء تلك الظلال المتموجة، عبر ولوج العتبات المحكية وسبر أغوارها، وفق مسح يستوجب حسن التعاطي مع تموجات الظل وانعكاس المرايا.
وهكذا فما أن فتحت الكتاب ورصدت أول عتبة بعنوان الذكرى، حتى كان لوقع اسمها حافز القيام بمسح استكشافي لصفحاته بحثا عن باقي العتبات، بفرضية أنها بوابات تيسرالولوج إلى ثنايا المتن الروائي، وفعلا فقد أفضى التصفح إلى رصد باقي العتبات تباعا ( الحلم– الطريق) وبذا تكونت لدي فكرة مفادها أن العتبات الثلاثة (الذكرى- الحلم-الطريق) ستشكل جسر ولوجيات لدهاليز المعمار الروائي، ولكل ولوجية مرتكز تتمحور حوله أحداث الحكي في تناغم خلاق بين الزمن والشخوص والأمكنة، وفق آلية أبدع الكاتب في هندستها عبر عناوين فرعية شكلت عنصر شد سلس لمتابعة القراءة ، ثمة مهارة أخرى أتت بمثابة خيط ناظم بين العتبات، وأعني بها لعبة الحواربين السارد وظله، لعبة تنضح قلقا وتطلعا، وعبرها تم تدشين دخول عتبة الذكرى، وعلى النهج نفسه انساب الحوار عبر عتبة الحلم، وبذات المنوال حُضِّر لإنهاء المنجز الروائي عبر عتبة الطريق، إنه نسج جعل العتبات الثلاثية العدد، الدائرية الحركة والتفاعل تشكل في تناغم جميل حاضنة النص الروائي ومظلته في سفرية عبر أمكنة تعذي الذكريات، وتخيل مشحون بالتوجس يبحرفي الزمان سعيا للمسك بحلم مأمول، يتراءى مشرقا في لحظات، ومعتما منفلتا كالزئبق في أخرى، ولتتبع رحلة المسار السردي وفق مقتضيات المتن، كانت العودة إلى البداية والقيام بطلة من كوة أول عتبة.
ـ عتبة الذكرى: عتبة تختزن في جرابها بعضا من متاع دفين، أشعلت جمره الخامد رسالة طلت من شق الباب، دون كشف الستارعن حاملها، فكان التفاعل، وتقرر رحيل العودة من البيضاء عبر مسالك لم تحل منعرجاتها دون التوغل بين ثناي تضاريس مسقط الرأس والنشأة المفعمة بالشغب الطفولي، وحيرة المراهقة، فخيل إلي كقارئ أن حمولة الكلمة توحي بحدث يختلج بوجدان السارد، ويستدعي منه بوحا قد يحتاج إلى متكأ، ويبدو أن الحمولة الإبداعية الموجهة ، ساقته لاختيار النهل من نبع عمالقة الرواية، عبر تجسير العتبة بمقولة الكاتب والروائي الكبير غارسيا ماركيزيقول فيها «الحياة ليست مايعيشه أحدنا، وإنما ما يتذكره ليرويه. ص: 5 » ، وبهذا السند أعطي الراوي المشروعية لحكيه ، من خلال انتصابه للإجابة عن سؤال تمثله وإن لم يكن قد طرح من قبل الظل، فبدا وكان البوح جاء استئنافا لحوار سابق «فاجأت الرفيق– الظل ذلك المساء بقولي: سأفشي بين يديك سرا طالما ترددت في إفشائه / رمقني بنظرة عتاب مستغربا: وهل هناك أسرار بين الشخص وظله؟!.ص7»
– عتبة الحلم : شكلت بوابة عبور تتجسد فيه الرغبة في تخطي الغبن والانكسار، بحثا عما يوصل إلى تحقيق حلم التحرر والانعتاق، ولهذا استلهم ياسين الحلم الأكبر، حلم التحرر والانعتاق الذي يتطلع إليه الفلسطيني، فاستدل بمقولة لمحمود درويش”لدي مايكفي من الماضي وينقصني غدي ص: 147″ استلهاما لحمولة المقولة يستشف أن ذاكرة ياسين بدورها عرفت بعض الإشباع من الماضي، وأنه يفتقر إلى الغد بكل خباياه ، فكانت مقابلة الظل في مفترق الحكاية ، وتمت المواجهة من منطلق سيرة أتعبتها دوامة الأحلام مقابل الرد بصفحات بيضاء تعلن ضمأها ورغبتها في مزيد من الارتواء، يستمر الحوار بمد الظل بكومة أوراق، باعتبارها اللهيب الذي أشعله غيابه أمام عتبة الذكرى، والمطالبة بالانسحاب من اللعبة الحارقة ، بغاية التوغل في أنفاق المتاهة بحثا عن الظل المشترك ، أوالحلم المفقود عبر منعرجات الحكاية:” تاه الظل في لجة الصمت ، وترك السارد على حافة حيرة عميقة ص:149 ” ،رغبة في تبديد الحيرة تمت مغادرة مسقط الرأس في اتجاه المجهول أو الجري وراء الحلم في سفر تطبعه الدهشة والقلق منذ طلب التذكرة وامتطاء قطارالشرق، (السفر الى وجدة)هي إذن رحلة تفاعل فيها الزمان والمكان، وسيكون الوصول وصولا يتسع فيه الحلم الجامع بين الانفتاح على تربة وفضاءات تتباين مع جغرافية الأصول وتقاليدها، وفي رحاب الجامعة سيتم الاغتراف من منابع المعرفة ، والانفتاح على أجواء طلابية تغري بالبحث عما يشبع بعض فضول النزوع التحرري، فكان الانخراط في الفعل السياسي ببصمة يطبعها الحب والمعرفة ، والتكيف مع ثقافة ورياح النجود الشرقية اللافحة ونسمات الأبيض المتوسط ، تلك النسمات التي دبت في وجدان السارد عبرتخيل طيران ثنائي العشق في لحظة وصال حميمي عفيف من شاطئ السعيدية الى جامعة السوربون بعاصمة الأنوار!؟ص:166
–عتبة الطريق: يبدو أنها ثمرة نوع من اختمار لرؤية تشكلت لدى الراوي بحكم الاعتمال والتفاعل الوجداني المتكيف مع تجارب جديدة بحكم الاستقرار الوظيفي، تكيف كرع من مغنم عتبتي الذكرى والحلم، فتم أخذ الزاد من منابع صافية لتغذية الروح والعقل، وكان السعي إلى الاسترشاد بنبراس فتيله التصوف، المفعم بنكهة فلسفية مصدرها القطب الرباني الفيلسوف الشاعر الإمام الشيخ محيي الدين إبن عربي من خلال مقولته “وحنين العارف محبة وشوق، لاحنين عرض يزول بزوال متعلقه.ص:219”
ويستشف من صيغة المقولة وعمق العتبة، إيحاء بدنو انتهاء لعبة السارد وظله، أوبالأحرى تأهب لإعادة تشكلها عبر مؤشرات مفتوحة، يعتمل فيها قلق إحباط وخيبات، ولكنها لاتخلو من بصيص أمل ، وهو ماقد يقتضي تأسيس عتبات جديدة تفضي وعبر مرايا موجهة إلى ظلال وارفة فعلا.
»…انظر أيها الواقف على ظل مأساتي، تجد أن الجنون يضرب بجذوره في تربة عشق يزهرفي قلبي كلما حلت مواسم الذكرى، وأنصت يا ظلي المتناثربين الظلال، وياأنت الذي هو أنا، إذ أسألك: «ترى أي عتبة أفتح الآن جراحها لنقيم جسرا تعبره الأحلام ونرسم في الأفق مرايا ظلاننا الوارفة؟ ص:279»
النص الروائي يعطينا سيرة لمسار تشربته ذاكرة ياسين فطفق يفصح من خلالها زمنيا عن قلق رافق رحلة العمر– منذ الشعور بفتوة النشأة – عبر مسارب عتبات، تبين أن مسارا متشعبا تغذيه أمكنة غنية بالأحدات والتفاعلات، وقد شكل مسقط الرأس والنشأة (أزيلال) نقطة ارتكاز اعتمدها ياسين في رحلته عبر الزمان والمكان، فبدا أن الغياب عنها مجاليا لم يحل دون حضورها في ذهنه ومخيلته زمنيا، وبكل تفاصيل وعلامات وشخوص البلدة بدلالتها الرمزية (الأب–الأقران –حورية – المهدي..)، مما يدل على مدى الوفاء والتعلق بالجذور ذات التضاريس المتباينة، والتمايزات الطبقية، والتي لم يستطع إزاحتها من وجدانه وعقله زمن ممتد، وأمكنة فاقتها جاذبية وتمدنا (البيضاء– بني ملال- وجدة-الرباط..) ويبدو أن عشق المكان والتعلق بالأصول خاصية تقاسمها ياسين وشخصية تنضح أنفة ورفضا للظلم، تحضر وتغيب، إنه المهدي
الكابران، المؤتمن على السر الغامض، سر حورية ، ذلك الطائر الذي وضع الرسالة بالباب؟ وبقي حاضرا في وجدان وذهنية ياسين في حله وترحاله، وهو الإسم الذي ظل مستعصيا عن الحصر، حاملا لدلالات تتخطى مفهوم اختزال العشق في الأنثى، وأنه مفتوح على آفاق رحبة، توحي بأن هناك أمل ماوراء الأكمة، وتحقيقه يغري بركوب التحدي، وتدليل الصعاب، وهذا ما يمكن أن يستشف من مناجاة السارد لحوريته: «ياحورية الموج الصاخب، ياعطشنا الأبدي، يأنت التي من غيابك الممتد ننحت جداول الأمل،لاأحد سواك، أيتها المخلصة الموعودة يمكن أن ينقد الوطن من الرعب الذي يعصف بأحلام أبنائه، وحدها إشراقتك على روابينا التي هجرها الخصب، تكفينا لنعيد ترتيب كينونة الأشياء، لنزيل عن وجودنا جحيم القهر النابت في عيون المعدمين البسطاء الذين مزقت ظهورهم السياط…يامنية القلب الجريح سوى أننا أحببناك ، وهتفنا باسمك في المظاهرات ، وبين شعاب الثورات المجهضة.ص275 »
الثيمات: لقد برع الأستاذ عارف من خلال راويه (ياسين) في بناء فضاء الأحداث عبر المواءمة الخلاقة بين مجرياتها المرتبطة بالمجال والزمان، في سمفونية متناسقة وهجها ثيمة حب ترصع ناصية السياسة والمعرفة، والتي ظلت حاضرة من خلال الشخوص وعبر الاحداث، وظلها يغطي الأمكنة، مع الوفاء للجذور عرفانا بالمنشأ، وهكذا فقد حضرالهم السياسي مكللا بثيمة العشق في معظم النص بدءا بالقلق الجنيني في رحاب أحياء مدينة رابضة بين فجاج الأطلس الكبير، شاء التمايز الطبقي وسطوة الإقطاع أن تكون سفلى، ضدا على أنفة وشموخ أهلها، يتجلى ذلك في حكي السارد، الطافح بالحسرة وهو يستعرض مؤشرات التفاوت الاجتماعي البين بين حي القشلة وباقي الاحياء ، وتستمر الثيمات الثلاثة في تناغم يختلف إيقاعه خلال المسار الدراسي بكل مراحله ، وخاصة مرحلة الدراسة الجامعية بوجدة ، حيث سيكون للطالب ياسين حضورا لافتا في الفعل السياسي عبرالانخراط
في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بلمسة لا تخلو من ركوب صهوة عشق وجداني،يفيض شاعرية ، ويعكسه التلاقي بكل تجلياته، وهي فترة تميزت بصراع محتدم بين تيارين داخل الحزب، أساسه الاختلاف في شأن التعاطي مع المشروع المجتمعي والبنية التنظيمية، والتي كان لها ثمن أداه المناضلون–وضمنهم ياسين – وخلق نوعا من الإحباط على ماآل إليه الوضع الحزبي، وضع جعل الأحلام اليسارية المشرقة تتبخر وتنفلت من بين يد شباب طموح، وقد تضمن النص السردي إشارات قلق يعتمل في وجدان الراوي، ويتضمن تساؤلات في طياتها نقد للصراع الحزبي، يرجح كون ما حدث يعود في معظم جوانبه إلى عدم القدرة في تدبير الاختلاف، يدل على ذلك ماهو متضمن فقرة من النص السردي: (..لاأدري كيف أفسر هذا التجاذب غير المفهوم بين ما تقول به القيادة الحزبية، وبين ما تتم مناقشته من أفكار داخل الخلايا، هل هو ظاهرة صحية أم أنه رياح تنذر بعواصف تقتلع أحلامنا من جدورها؟ هل يمكن للانحراف أن يصل درجة الخيانة؟ ولكن من المنحرف؟ وما الخطوط الفاصلة بين اتهام الآخرين بالانحراف والإيمان بقبول الاختلاف معهم.ص:205)
ثيمة الحب: لقد أبدع الأستاذ عارف عبد الغني وتفنن في تشكيل ثيمة الحب، وجعلها ترفرف بأجنحتها على باقي الثيمات، عبر لغة وجدانية مشحونة بهواجس القلق والتطلع إلى بزوغ الفجر، وقد تألقت براعته السردية بلغة شاعرية تعكس سمو وعفة العواطف، في تحد لذلك التلاقي الذي ينضح بالغواية ، بحكم ملازمة الأنثى للسارد أولظله في حله وترحاله وكانت محط إعجاب وإغراء منذ تملكه لأحاسيس اليافعين تجاه الانثى إلى مرحلة العنفوان والنضج، وتخيل يوحي بكون رحيق العشق ينتقل عبر نسيم تنثره فراشات في مناجاة خُلوات يتغير فيها المعشوق، ويرتقي فيها الوفاء لمن كان له قصب سبق الاستقرار بالوجدان، ثمة سؤال إذن في شأن الانفلات الوجداني من العاشق إلى المعشوقة ، خلال الرحلة الممتدة في الزمان والمكان، أتراه وصال يعكس طبيعته السرمدية المرتبطة بالبشر مند الأزل؟ أم أن الأمرمجرد سعي بأبعاد دلالية مختلفة، يتغيى الانفلات من قلق وجداني فكري، مرده الخيبة والإحباط الناتج عن مأزقة حلم فجر الغد المشرق ، فأتى العشق الهائم هيام ياسين كبلسم يضمد جراحه، وجراح شخصية تبخر حلمها (منى) نتيجة انهيارمشوارعاطفي بفعل سقوط فارس الأحلام في أول منعرج، كان لمكر السياسة واختراق الفكر الظلامي يد فيه(سعيد)، في انتظار غد قد يأتي وقد لايأتي؟ ويبدو أن بصيص أمل قد حث السارد أو ظله على ركوب سفينة العشق في رحلة (كازوية) منطلقها فضاء أب الفنون وتوضيب رحابها في جلسة همس أو قل تمثل مناجاة بمطعم المرسى ص: 242
في الختام أسجل كقارئ وبكل تقدير أن الأستاذ القدير عبد الغني عارف تمكن وبمهارة فنية بناء نص سردي باذخ، كلما أعيدت قراءته كشف عن مكنوناته الممتعة، سيما وأن نسيج المنجز الروائي قد جمع ماتفرق في غيره تخيلا وحبكة عبر حكي جمع بين السيرة والرحلة بلغة تنضح قلقا وتطلعا، وتفيض لغة شاعرية أخاذة.
المصطفى زوبدي