مدائن معلقة لياسين عدنان: احتفاء بالتدوينة ومتعة السفر
لوسات أنفو: عادل أيت واعزيز
بعدما أَلِفنَا من الكاتب ياسين عدنان، كتابة الشعر والمقالة والرواية، يلفت انتباه القراء إلى جنس جديد في الكتابة الأدبية، وينفلت من القوالب السردية الأخرى، ويفتح للأدب في؛ “مدائن معلقة ( تدوينات العابر)”، الصادر عن منشورات باب الحكمة بتطوان المغربية، آفاقا مغاييرة، يحتفي فيها بجنس “التدوينة”، التي تمتح من الشعر والنثر والحوار والمقالة.
وكما «أن الزمن لايكون بشريا، إلا عندما يضبط بطريقة سردية». كما يقول بول ريكو، فإن العابر اختار لتدويناته حرفة السفر وغواية الترحال، يمتهن فيها قياس المساحات، ممتطيا صهوة “دفتر العابر”، الذي يمتد إلى مدائن معلقة، ليشكل يقول الكاتب، جزأه الثاني «فمهما تعددت الأجناس الأدبية وتمايزت، فالسفر واحد وكذلك بهجته».
في معركة تحرير الأدب، يصور لنا ياسين عدنان في أسفاره، التدوينات التي تُوَلِّدها الحدود؛ جغرافية كانت أم ثقافية، ويجعل من لقاءاته خارج مراكش، فرصة ثمينة لمعرفة الذات أمام الآخر المحايد. وبين التعطش لحداثة التجربة، أو في مالذي يعنيه لنا كبشر، حينما ننقل أنفسنا من مكان لآخر على نحو مؤقت؟
يكتب؛« حررت أسفاري من ربقة الشعر، وصرت أخطُّ تدوينات بقلم الناثر هذه المرة. النثر يلائم حركة الجسد الحرّة في الجغرافيا أكثر.. وهكذا صرت أكتب تدويناتي حرَّة خارج التجنيس، بعيدا عن أي تصنيف».
من مراكش – نقطة العودة- يعيش الكاتب مغامرة تجارب مختلفة في مدن متعددة من بلاد العالم؛ بيروت، القاهرة، تونس، الدوحة، نيويورك، بروكسل، امستردام، طنجة، مونتريال، زاكورة، عمان… إلى مدن أخرى متنوعة، كلها تمتد في فهرس الكتاب على شكل يوميات، تبدأ من سنة 2001 إلى شهر يناير 2022.
حاول صاحب “هوت ماروك” في المدائن، أن يُحرك داخل القارئ، الإعتراف بوجود غرابة ممتعة في الأشياء العادية، فيعيد ترتيب علاقتنا مع التاريخ – تاريخنا – ويزور المغرب الذي في العراق، ويصادف روح أبا القاسم الجنيد، المرجع المغربي الذي دفن في العراق، ثم في نجران حيث يعثر على صور لملامح ورزازات والراشيدية، ويلتقط صورة مع تمثال ابن رشد بقرطبة، ومع ظل المتنبي بشارعه في البصرة. وبعدها تدرك أن القاهرة ليست مدينة، بل مدن داخل مدينة بطبقات، وتكتشف أن لكل مدينة شاعر يخشى عليها، يسكنه هاجس ما لا يبوح به الآخرون. ثم تحزم أقلامك وأوراقك لبيروت لتشارك في مهرجان “بيروت 39″، حينما اختيرت عاصمة عالمية للكتاب سنة 2009. هذه المدينة التي لا تكتمل بالنسبة للكاتب بدون ذاكرتها الفلسطينية. وكان الكاتب ياسين عدنان، العربي الوحيد الذي تَمكن من حضور فعالية فيرمونت، أحد أكبر تجمع للأدباء والفنانين من أنحاء العالم.
ولأن أسفار الكاتب، لم تكن مجرد ركوب جغرافي، جعل رؤيته للأشياء التي تبدو من خلال الألفة المتكررة، غير مرئية للمقيم فيها، وأحيانا يجعل من المقيمين مدركين لبعض أوجه القصور في بلادهم؛ الخدمات الرديئة، المواقف، المؤسسات.. فيما ينتبه الأديب أن منتديات الغرب وتظاهراته الثقافية، تتيح جمهورا لايتيحه عالمنا العربي. «في العالم العربي يقول الكاتب؛ بدأت العائلة تتفكك أسوة بكامل المجتمع، الإنسان ذاته بدأنا نغتاله في داخلنا لنتحول بالتدريج إلى حيوانات طائفية وسياسية».
أثناء رحلاته التي أراد أن تكون فيها الثقافة متاحة للجميع، شارك الكاتب إلى جانب فاطمة المرنيسي في “القافلة المدنية” في جنوب المغرب، وشدد على أن نجاح تظاهرة أو مهرجان سينمائي بمنطقة كزاكورة رهين فقط بإرادة جامحة وصادقة.
أقام ياسين في تدوينات العابر، ساحة يتداخل فيها قلق اللغة والأدب، وتتشابك فيه أسئلة الدين والسياسة، وتنطلق منها القصيدة كما في دفتر العابر، داخل المطارات والقطارات ومحطات العبور والمقاهي. كأسئلة النهضة في صيغها المتعددة، وأسئلة المصير والمشترك، وكيف تحتضن الأجيال بعضها، فيما تتباعد وتتصارع داخل المدينة الواحدة، وأسئلة أخرى في الفرد والمثقف والترجمة والديمقراطية، التي اعتبرها، ليس فقط كشعار يقول، بل؛«في تلك اللحظة على الأقل، هي أن تتمكن نسوة وادي درعة من السفر جوّاً من مراكش إلى ديارهم بقصبات الوادي وواحات المنطقة بمقابل مقدور عليه».
يستعيد كاتب المدائن، العلاقات التي مرت بينه وبين رموز الثقافة ورواد الأدب، من طنجة مع محمد شكري والمرابط إلى جانب بول بولز.. إلى الجارة الشرقية، التي تعرف فيها كتاب من أمثال الطاهر وطار وآخرون، و شخصيات أخرى لا َيقِلُّونَ وزنا عن هؤلاء، وعَبَرَ العابر ليس فقط إلى أوطانهم، بل نفذ إلى قلوبهم وعاش معهم لحظات، يستكشفهم كما يستكشف أحياء مدنهم كـ؛ هدى بركات، حسن نجمي، أدونيس، ابراهيم نصر الله والقائمة طويلة.
يعلمنا السفر أن الحياة ترسم أكثر من مجرد زيادة عل إيقاعها، وفي حين أن المستقبل غير مؤكد، فالنظر للعالم بعيون المسافر يمكن أن يجعلنا أقل خوفا. لكن الأيام تمر، والسنوات تتوالى، ويمكن أن يجنح الشخص نحو الشيخوخة والخرف دون أن يندهش أو يفاجأ بأي شيء طيلة حياته. ولقد عاش أغلب كُتابنا حالات من الدهشة، وهذا عبء لايمكن الاستهانة به، لكن بطريقة أهدأ، وربما بطريقة مفيدة بالقدر نفسه، فحتى السائح اليومي يمكن أن ينبهنا إلى مايستحق الانتباه في مساحتنا. أو يجعلنا نفكر مع غوستاف فلوبير في كم هو ضئيلٌ المكان الذي نشغله من العالم!