مذكرات

المخبر .. قصة ليوسف الطالبي

الجزء1

 

منذ استقبله قائد المقاطعة التي يقع بيت عائلته في ترابها في ٱخر يوم من أيام فبراير من سنة إحدى عشر وألفين، لم يعد المهدي هو هو، ولا صارت حياته كما كانت من قبل. تغير الكثير من عاداته اليومية، لكن أهم ما تغير فيه هو ما لاحظه فيه جلساؤه من وجوم وفقدان للكلمات العفوية والتصرفات الخرقاء.

على عادته، كان ٱخر من دخل البيت تلك الليلة. لقد ألف منه ذووه ذلك. لم يعد يزعج الأمر أحدا، رغم أنه أول ما يفعل قبل الذهاب الى فراشه، يقصد المطبخ بحثا عما يراضي به سغبه. تتسبب حركته في بعض الجلبة في بيت بتصميم تقليدي مكون من غرفة وصالون بالطابق الأرضي وغرفة أخرى في الطابق الأول، تفضي أبوابها جميعا إلى فناء مكشوف على السماء، تصميم لا يسمح بالظفر ببعض الخصوصية. صوت أوان معدنية وملعقة تصطك بقعر صحن، ضجيج ماء الصنبور يصطدم بجفنة غسل المواعين يحدث دويا، وقد يعرج على المرحاض. في الغالب يتابع معه الٱخرون هذا الطقس إن لم يكن النوم قد غلبهم. يحاول قدر الإمكان أن لا يفسد نوم النيام، لكن لليل فزياؤه المغاير.

كانت أمه في الغالب تقاوم النوم إلى أن تسمع صوت تحركه في البيت، قد تكون الجلبة التي يحدثها مزعجة للباقين، لكنها مبعث راحة لها، تتأكد أنه رجع بسلام. حكاية المهدي غصة في حلقها وسبب وجع في قلبها. لا يستحق ما ٱل إليه، كان دائما مطيعا ومرحا وخدوما، لا يثير مشاكل ولا متاعب، مواظبا على الصلوات الخمس في وقتها، يجعله ذلك محبوبا ليس فقط من طرف أفراد أسرته، ولكن جل ناس الحي يشهدون بصفاء سريرته وتطوعه الدائم لخدمة الناس، لا يمكن أن يترك جارة تسير في نفس طريقه تحمل قفة مشترياتها دون أن يعرض مساعدتها. يشارك في أعمال تنظيف المسجد، وفي المٱثم يتطوع لجلب النعش، وبعض الكراسي البلاستيكية مما يدعم به ولد الرامي سعة مقهاه ساعة مقابلات كرة القدم العالية المشاهدة.

 حصل المهدي على البكالوريا والتحق بالجامعة. بعد سنة غير موفقة بسبب الاكتضاض ومعاناة النقل والبون الشاسع بين الدرس المدرسي والجامعي وما ينتج عنه من صعوبة التأقلم، تحول إلى المعهد الوطني للتكنولوجيا التطبيقية. تسجل بشعبة الشبكات المعلوماتية. كان يضع نصب عينيه اجتياز امتحان ولوج أسلاك الشرطة، كان ضمن المشاركين لسنتين متتاليتين لكنه لم يوفق. اليوم تجاوز عمره السن المطلوب. لم يعد بإمكانه الترشح للمباراة مرة أخرى. كانت أمه تمني النفس أن يسند إخوته ويغنيها عن العمل في دار الضيافة المملوكة للأجنبيين المثليين. فقد كانت تشعر أن ما تجنيه من العمل معهما مال حرام، ولعل ما يواجهه ابنها من صعوبات في إيجاد عمل هو عقاب إلاهي هي المقصودة به. يعتقد الناس أن أبناء أطعموا من مال حرام لن يفلحوا ولن تسلم أبدانهم من الأمراض. يلازمها الشعور بذنب مزدوج بسبب ذلك، ذنب أمام الله وٱخر إزاء أبنائها، كانت تنوي التوقف عن ذلك العمل بمجرد أن يتقاضى المهدي راتبه الأول. لكن حتى اليوم، لا خيار أمامها غير ما هي فيه، لم تعد تفصلها إلا سنوات خمس عن سن التقاعد، والمثليان يكرمانها بعلاوات خارج الراتب، هي محط ثقتهما إذا ما غابا عن الرياض. منذ مات زوجها سائق الشاحنات في حادثة شغل مخلفا أربعة أطفال أكبرهم المهدي، طلبت العمل من مشغليها اللذين كان قد اشتريا بيتا في نفس الزقاق وأعداه لاستقبال السياح. يحز في نفسها أن تتأخر في العمل حينما يقيمان حفلة يكون أكثر مدعويها مثليين،  يسيل النبيذ وافرا، وتشهد على أمور لا تجرؤ عن الحديث عنها لأحد. لا تريد أن تكون سببا في هيجان الناس ضد من يحسنان معاملتها، ولكن أيضا لا تحب أن تؤدي مشاعر المهدي، ولا أن تسوء صورتها لدى جيرانها، المغاربة بارعون في الوصم وتوزيع الصفات على الٱخر. . ولعل تكتمها ذلك ما جعل كايل وجورج يحرصان على بقائها في الخدمة.

في الصيف تطول سهرات أبناء الحي، خصوصا منهم أولئك الذين ليس عليهم الاستيقاظ صباحا للذهاب إلى العمل، أغلب المتسامرين، إما شباب لم يحض بفرصة عمل أو ممن توقفوا عن الدراسة بسبب العطلة الصيفية. كانت أم المهدي تود لو يتخلى ابنها عن عادة السهر تلك، فقد كانت تقلق من المشاجرات التي تنشب بين الشباب لأسباب تافهة، تعصب لفرق كرة القدم أو نزاعات حول السجائر وجرعات القنب الهندي، أو منافسة حول التقرب من بنات الجيران. وبالرغم من عدم الرضى على تلك العادة فإنها لا تستطيع الضغط على المهدي ليتخلى عنها، تعرف أنه يجد فيها متنفسا يخفف من ٱثار أزمته على نفسيته.

أما في الشهور الباردة، فإن الطقس يطرد المتجمعين في نواصي أزقة الحي إلى بيوتهم، بعدما يكون مقهى ولد الرامي قد لفظهم لتقيده بالتزام الإغلاق قبل الواحدة. فقد تقدم الجيران بعريضة إلى القائد يشتكون من الازعاج الذي يتسبب فيه المقهى مطالبين بإلغاء رخصته. ولولا بعض التدخلات والهدايا لمن له صلاحية البث في الطلب، لكان المقهى الٱن مغلقا بشكل نهائي. دعا القائد ولد الرامي وممثلين عن موقعي العريضة لاجتماع صلحي، كان على رأسهم أحمد الغامري، رجل تعليم معروف بنشاطه النقابي في إطار إحدى النقابات التعليمية، ومنشط للحملات الانتخابية. خلال مسيرات عيد الشغل يكون حضوره لافتا. يرتدي صدرية وقبعة طبع عليهما اسم تنظيمه النقابي، ويوجه عبر مكبر الصوت المشاركين إلى الشعارات التي يجب ترديدها. في الحي يستشيره بعض الناس فيما استعصى عليهم حله في التعامل مع الإدارات العمومية. يعرف أحمد الغامري بصوته الجهوري وحماسه الزائد في الحديث عن الديمقراطية والحقوق، يذكره شباب المقهى بكونه مهاب الجانب من طرف أصحاب الحال لأنه ضليع بالقانون والحقوق، يتقون شر مناضل صنديد قادر على تحريض الناس على التظاهر، حتى أنه بعد تخرجه، لم يقض إلا سنتين في قرية نائية تابعة لإقليم تارودانت حتى نقل إلى مدرسة وسط مدينة مراكش. ثم لم يلبث أن استفاد من تفرغ نقابي أعفاه من الحضور إلى مقر العمل.

لا يتوقف احمد الغامري عن الإلقاء باللائمة على الشعب،  معتبرا أن ما يعيشه الناس من ظلم و خرق لحقوقهم ما هو إلا بسبب خوفهم وخنوعهم وقلة وعيهم والتزامهم الصمت.

ظهر القائد بمظهر من يحرص على تحقيق المصلحة الفضلى، والمصلحة الفضلى هي ما تحققت به مصلحة الطرفين، ليس عدلا أن نقطع سبل رزق ولد الرامي والذين يعملون معه، فذاك لن يرضي الله، وهو في نهاية المطاف واحد من الجيران، والله أوصى على الجار حتى كاد يورثه. ومن جهة أخرى يجب تفهم شكاية السكان، يجب أن تتوفر لهم شروط الراحة في مساكنهم وفضاءات عيشهم، وتقدير الظروف الصحية للمرضى ومواقيت النوم والعمل. لذلك اقترح القائد أن يلتزم ولد الرامي بنزع مكبرات الصوت التي تجعل أصوات المعلقين الرياضيين تبلغ أبعد البيوت عن المقهى في الحي، وأن لا يتعدى منتصف الليل كموعد للإغلاق.

التزم ولد الرامي الصمت مكتفيا بتحريك رأسه بما يفيد موافقته على اقتراح القائد، لم يبد متفاجئا، كان كمن كان على علم بالحكم قبل النطق به، أما ممثلو السكان فقد ذهلوا من تصرف أحمد الغامري، تجرد من كل الحماس الذي كان يبديه حينما دعاهم إلى توقيع العريضة، و تراجعت نبراته التي اعتادوها جهورية، لقد كان يقسم بأغلظ الأيمان حتى يكون سببا في إغلاق المقهى. اكتفى بالتعليق:

– لقد حكَّمنا سعادة القائد في هذا النزاع، ولن نخرج عما حكم به، سنمنح الرجل فرصة أخرى. “إن أريد إلا الإصلاح” كما قال رب العالمين.

رن هاتف المهدي قبل أن يتم طقسه الليلي، تعرف على رقم طالبه، إنه مقدم الحي، ارتعشت يده وهي تمتد إلى الهاتف، جعل الهاتف صامتا لكنه تمهل في الرد، فكر في الموضوع البالغ الأهمية الذي يجعل ممثلا للسلطة يطلبه في الساعة الأولى من الصباح. حين فتح الخط، علم أن المقدم ينتظره بباب البيت يريده في غرض يهمه.

هيج صوب باب البيت وهو يفتح مجددا بعد المكاملة هواجس أمه، شعرت بالقلق، نهضت مسرعة تنادي المهدي لتبين الامر، تصاعدت مخاوفها حين رأت ابنها مع المقدم.

– يا ألطاف الله حلي بنا

حاولت استراق السمع، لكن المقدم كان حريصا أن لا يعلم بموضوع الزيارة غيرهما، أمسك المهدي من ذراعه وابتعدا بضع خطوات عن الباب والدراجة النارية. أطلعه ان القائد يريد ملاقاته غذا صباحا، وأن الموضوع فيه خير، كل خير لحملة الشهادات العاطلين. لكنه أوصاه بالكتمان. لا يجب أن يعلم بذلك أقرب المقربين.

حين استدارا عائدين، رمق المهدي طيف أمه خلف الباب. أدرك أنها لن تهدأ قبل أن تعرف موضوع الزيارة، كان المقدم لا زال يؤكد على أهمية أن يبقى الموضوع سرا بينهما وأن الدولة تريد مساعدة الشباب الصالح حسن السيرة. فيما المهدي كان يشحد كل بديهته لتحضير أجوبة مقنعة لأسئلة أمه. وبسرعة لمع في فكره أن يخبرها أن المقدم جاء يطلب منه أن يكون ضمن مجموعة من الشبان سيلعبون غدا مباراة في كرة القدم ضد فريق ما. فقد كان المهدي أيضا ماهرا في اللعبة.

كانت جل دول العالم العربي تعيش على إيقاع ما سماه الاعلام ربيعا عربيا، بدأ الأمر من تونس، ثم أخذ يتمدد إلى دول مجاورة، طغت أخبار مصر على قنوات الأخبار على إثر ملازمة المتظاهرين ميدان التحرير ونصبهم خياما صاروا يقضون الليل بها. وإذا كانت الاحتجاجات والمسيرات في كل الدول التي عرفت الربيع العربي بشكل من الأشكال تنشط نهارا وتتوقف ليلا، فإنها في مصر كانت كنار متقدة لا تنطفئ لا ليلا ولا نهارا، صارت مصر مرشدا لكل الثوار في العالم العربي، يستلهمون منها الشعارات والصيغ النضالية وكافة أشكال التعبئة والتحريض والتنشيط.

في المغرب راجت الدعوة إلى التظاهر يوم عشرين فبراير على نطاق واسع في منصات التواصل الاجتماعي الرقمية. وبالفعل، عرفت جل المدن المغربية في ذلك اليوم مسيرات حاشدة، شاركت فيها فئات لا قبل لساحات النضال بها.

ورغم أن الدعوة للتظاهر على الانترنيت لا يعرف لها صاحب، فإن تنسيقا مشكلا من قوى اليسار والجماعة الإسلامية العدل والإحسان قد تطوع لتبنيها وتوجيهها. فيما اتسم موقف الأحزاب الديمقراطية الوطنية التقليدية بالغموض، تقر بمشروعية المطالب لكنها تشكك في وطنية القوى المتبنية لها وتحذر من المؤامرات الخارجية التي تدبرها دول معادية.

في مراكش بدأت الأمور عادية تسير وفق ما خطط لها، كانت الشعارات جريئة تخاطب الحكم الفعلي وتطالبه بإسقاط الاستبداد والفساد. وتطالب بالكرامة والمساواة ووضع حد للقمع والاعتقال السياسي والتقسيم العادل للثروة وتندد بالرشوة والمحسوبية. الحشود المشاركة متنوعة، نساء ورجال، أطفال وشباب وكهول، متعلمون وحرفيين وتجار. لأول مرة ستعرف مراكش تظاهرة تستقطب اهتمام كل هذه الأطياف، المواكبة الإعلامية المباشرة لما يجري في الدول المعنية بالربيع العربي من طرف القنوات الإعلامية وخصوصا قناة الجزيرة، فعلت فعلها في مشاعر الناس ووعيهم، ليست الظروف المعيشية وحدها من جيش كل هذه الحشود، إذ كانت دائما صعبة لكنها لم تجعل الناس يخرجون للاحتجاج بهذه الأعداد، كما أن أناس من الطبقات المتوسطة ممن يعيشون في مستوى جيد شوهدوا أيضا بين الجماهير المتظاهرة.

على غير عادتها، غابت قوى الأمن عن الشارع. لم يلحظ أي أثر لأي نوع من أنواعها المختلفة ولا لسيارات تابعة لها ولا لٱلية من ٱليات مواجهة الشغب. أثار هذا الأمر قلق المشرفين على التنظيم، تهامسوا، ترى أي مفاجأة يخبئها النظام من وراء تصرف كهذا؟! لقد اعتاد المناضلون من مختلف القوى الحية أن تسبق جحافل قوات القمع المحتجين إلى الساحة التي ستعرف تحركا ما. تصطف مستعرضة القوة فيما يتعلق الأمر باحتجاج لن يتجاوز عدد المشاركين فيه المائة. صناع السياسة القمعية لا يهمهم تخويف تلك الكمشة من المناضلين، ولكنها تهتم بإرسال رسائل الى المارة والمجتمع وبث الرعب في نفوس الناس.

تداول المشرفون عن التظاهرة ذلك اليوم، أن احتمال دفع المخزن بالامور إلى أسوإ سيناريو أمر قوي الورود، سيترك الأمور تخرج عن السيطرة و تتطور إلى فوضى ونهب وتخريب وإضرام للنيران في المنشٱت العامة والخاصة. سيكون ذلك أقصر طريق إلى وضع الناس أمام الخيار التقليدي، إما المخزن أو الفوضى.

انطلقت المسيرة من ساحة باب دكالة في اتجاه ساحة البريد المركزي بجليز، وعبر شارع محمد الخامس إلى ساحة جامع الفنا. كان المنظمون يشكلون موانع بشرية بين المتظاهرين وبعض الإدارات والأبناك، حين بلغت المسيرة مقر مؤسسة العمران، ارتفع حماس الناس وتوجهوا إلى مسؤوليها بالسباب والاتهام بالفساد والسرقة، بل وأصابت بعض الحجارة بوابتها الزجاجية دون أن تكسرها. كان عدد المشاركين القاطنين في التجمعات السكنية العشوائية والدواوير المتضررين من مخططات إعادة الهيكلة العمرانية كبيرا. وكانت مؤسسة العمران هي مخاطبهم الذي لا يصغي إلى مطالبهم.

وجد المنظمون أنفسهم أمام تحد فاق قدرتهم في التوقع والتنظيم، لقد اعتادوا على تنظيم تظاهرات أقل حجما بكثير مما عليهم التعامل معه اليوم، أكبر ما مر عليهم تنظيم احتفالات عيد الشغل، حيث المشاركون عمال معروفون بالنسبة لممثليهم النقابيين ومسار محدد ومؤمن من طرف قوات الأمن، ومع ذلك تحدث انفلاتات وارتباكات نتيجة تمرد طلبة ومناضلين جذريين على السقف المسموح به في الشعارات. وفي مرات علم اعتقال البوليس لطالب أو أكثر بعد نهاية المسيرة. التعاقد السياسي المفروض بالبلاد المصطلح عليه بالاجماع، يقضي عند توجيه سهام النقد المعارض، أن يتوجه للحكومة والأحزاب دون ما أعلاها، الأصوات الأكثر جرأة تتحدث عن النظام أو المخزن. ما فوق ذلك طريق سريع نحو السجون والتنكيل والمٱسي.

كانت الأجواء في مقر المقاطعة مختلفا عما عهده المهدي، في العادة يحضر الموظفون متأخرين إلى مكاتبهم، يتبادلون دردشات الصباح حول أباريق الشاي وأصناف الخبز والجبن قبل البدء في استقبال المواطنين. وإذا تعالت بعض أصوات عدم رضى بعض المرتفقين، يواجهونها جماعة مستنكرين أن ينكر عليهم أحدهم حاجة طبيعية. المكاتب في تلك الصبيحة مختلفة، الموظفون منهمكون على بين أيديهم من اوراق، وموظف يقصد كل من دخل المقاطعة عن حاجته، يرافقه حتى المصلحة المختصة بطلبه ويوصي به خيرا.

ببهو المقاطعة، وجد المهدي المقدم في استقباله، تفاجأ عندما أخبره أن القائد قد وصل مبكرا. وطمأنه أنه سيستقبله بعد شخصين.

حينما طرق الباب ودخل، رحب به القائد باسمه الشخصي ودعاه للجلوس، وبعد حديث دون نسق عما يجري في البلدان المجاورة، والابتهال إلى الله كي يجنب مغربنا الحبيب الفتن والفوضى. ذكر بأن كل شيء موكول إلى أبنائه الوطنيين البررة. وأن تحالف الشعب وملوكه هو معجزتنا التي طردنا بها الاستعمار وحررنا بها أقاليمنا الصحراوية وحققنا بها الاستقرار والأمن.

– السي المهدي، التقارير التي تصلني عنك كلها إيجابية وتتحدث عن لطفك وحسن سيرتك وديناميتك وعلاقاتك الطيبة مع الجميع في الحي. لهذا سأدرج اسمك ضمن لائحة الشباب الذين يجب الوثوق بهم ومساعدتهم. بين يدي تقرير يقول أن اجتزت امتحان الشرطة لكن لم توفق. كان عليك أن تتصل بي.

كان المهدي يتابع القائد وهو يتحدث إليه ببشاشة غير معهودة، يكتفي بتحريك رأسه علامة على الموافقة، وبين الفينة والأخرى كان يهمم بعبارات الشكر والامتنان مما يدرج استعماله في لقاءات غير متكافئة كهذا اللقاء. لم يستطع إخفاء علامات الحيرة التي تهيمن عليه في فهم غاية هذا الاستقبال. في حين كان القائد يحرص على ألا يترك له متسعا للحديث، كان مصمما على إكمال عرضه اولا

– اعلم انك تجاوزت السن المحدد لاجتياز المباراة، لكن لابأس سنساعدك في ذلك، وأعدك أنك ستكون شرطيا يشرف مهنته ووطنه. لكن في انتظار ذلك يجب أن تتظافر جهودنا جميعا حتى تجتاز بلادنا هذه الظروف ،  أعداؤنا يتربصون ببلادنا بغية إلحاق الأذى بها، لكن للأسف يجدون حاقدين يمدون لهم يد المساعدة ويستطيعون التغرير بالبسطاء محدودي الوعي.

لا يستطيع تذكر مساره مقفلا من مقر المقاطعة إلى الحي، تكاد رأسه أن “تبوگي” كبرنامج معلوماتي طلب منه معالجة ما يفوق طاقته من المعلومات. لا يستطيع ترتيب أفكاره. القائد كان واضحا، الأجهزة الأمنية ترتئي أنه عنصر مناسب للتعاون معها لتجاوز هذا الخطر المحذق. هل عليه أن يقبل العرض، أن يصبح عين وأذن الدولة في الحي؟ أن ينقل محادثات الناس في المقهى وفي ناصية الزقاق إلى من يهمهم أمرها؟ كانت التوجيهات ألا يستهين بأي جزئية مهما بدت له هو غير ذات أهمية. في مكاتب، خاصة هناك أناس على مستوى عال من الأهلية لفرز المهم من الثرثرة. فكر أنه ربما تقود معلومة نقلها عن شاب أخرق يتلفظ بحماقات في مناقشة الربيع العربي إلى إيذائه وإدخاله وعائلته في دوامة المحن. تذكر 2002، حين وجد أبرياء أنفسهم يقضون عقوبات حبسية بلغت في حالات ثلاث سنوات بتهمة الإشادة بالارهاب. هل عليه أن يشي بأحمد الغامري الذي لا يتوقف عن التبشير بالوطن الذي يسع الجميع.

عاد واستدرك، وماذا لو نجح في اجتياز مباراة الشرطة وألحق بمصالح الاستعلامات، ألن يكون دوره في هذه الحالة هو استشعار ما يحدث على مشاعر الناس وأفكارهم من تغير؟ تساءل عما سيكون رأي أمه، لابد إن علمت أنه سينجز ما هو مطلوب منه مقابل تيسير التحاقه بأسلاك الشرطة، ستدفعه إلى القبول. لا ضير في ذلك، هو عمل من صميم عمل الشرطة، فليكن مرحلة تدريب ميداني.

وصلت به قدماه ساحة المسجد بالحي، لا يستطيع وضع حد لحالة الشرود التي يغرق فيها. يتفحص وجوه الناس، بدت له مختلفة عما ألفها، كأن بها غما يجعل الابتسام يتوارى. لم تلتق عيناه عيني أي منهم، هل علموا أين كان؟ هل يتفادونه احتقارا ؟ لا يستطيع تبين إن كان الأمر كذلك أم هي مجرد وساوس من الشيطان؟

لعله كان أميل إلى القبول بالعرض، لم يكن ليمانع لو طلب منه ذلك وهو شرطي، ولم يكن ليخطر بباله أن الأمر غير أخلاقي، إذن كيف يفكر في الأمر اليوم بهذا الشكل؟ ثم ما عساه سيتغير إن هو رفض أو حتى قبل؟ هل سيتحدد مصير هذه الحركة التي تسمي نفسها اليوم بحركة العشرين فبراير بالموقف الذي سيتخذه؟! أصحاب الدولة لهم كل القدرة على ترجيح كفتهم في كل نزاع، دائما يتغلبون على غضب الفقراء الظرفي والمؤقت.  قد يفقدون السيطرة على الأمور لبعض الوقت لكن سرعان ما يستعيدون إدارة الدفة. الفقراء لن يحكموا أبدا، لا سلطة لمن ليس معه سلطة الثروة. من الغباء تجربة طريق سبق وأن سلكه أناس من قبل ولم يفض إلا إلى السجون والاعتقالات والمنافي والاغتيالات. عندما غادرت فرنسا المغرب، كان المقاومون أمام خيارين، إما الانضمام إلى الملك معسكره، أو الاستمرار في حمل السلاح حتى التوافق على شكل عادل للحكم يخلف نظام الحماية، ولأن الثروة كانت في يد المعسكر الأول فقد كان هو الفائز. نفس القاعدة ظلت تتأكد على مسار نصف قرن الموالي.

في المقهى لم يعد ولد الرامي يستجيب لطلبات الزبناء بتثبيت التلفزيون على قناة الجزيرة، يظهر حزما قاطعا في ذلك، كان يبرر ذلك بأن ما بكل واحد منا من هموم الحياة يكفي، لسنا بحاجة إلى متابعة أخبار المٱسي والحروب، النفسية محتاجة لكل ما يبعث على الفرح ويروح عن النفس. حينما لاحظ المهدي نفس السلوك في عدد من المقاهي فهم أن الأمر يتعلق بتوجيه من جهة ما.

كلما سلم المهدي تقريرا لمولاي ادريس مقدم الحي، ربت الأخير على كتفه، مبلغا إياه رضى القائد ومن هم أعلى منه رتبة، كان يحرص على أن يخبره أن القائد لم ينس موضوع وعده بمتابعة توظيفه في الشرطة، وأنه سيستفيد من إدماج مباشر دون مباراة. عندما سلمه تقريرا حول احمد الغامري، كان رد المقدم، لا تكترث لأمره، وأن هناك من يتكفل به.

عمدت الدولة ضمن ما عمدت إليه لتجنب الاحتمالات الأسوإ من وجهة نظرها لحركة عشرين فبراير، التساهل في مراقبة احتلال الملك العمومي وغض النظر عن البناء العشوائي وتمكين كل طالب لرخصة سياقة سيارات الأجرة وتوزيع الوعود بالاستجابة للطلبات الشخصية للناس، كما وعدت المرشدين السياحيين غير النظاميين بتمكينهم من رخص رسمية لمزاولة المهنة، ومع الفتور الذي بدأ يدب في أوصال حركة عشرين فبراير بحيث صار ظهورها يقتصر على أيام الٱحاد ويتناقص عدد المشاركين فيها من أسبوع إلى ٱخر، شكلت السلطات المحلية فرقا للاصطدام بالمتظاهرين، كانت مكونة من الباعة الجائلين والمرشدين السياحيين غير النظاميين والمتعيشين مما يقتنصونه من ساحة جامع الفنا باختلاف الأنشطة والباعة بالبازارات … كانت الخطة في جزء منها استلهاما لما تناوله رواد مواقع التواصل تهكما بموقعة الجمل، في تناص مع المعركة الشهيرة في التاريخ الاسلامي التي اشتبكت فيها جيوش عائشة زوجة الرسول بجيوش علي بن ابي طالب. في مصر هاجم أناس في وضع معيشي طفيلي المعتصمين بميدان التحرير في القاهرة، وكان ضمنهم من يركبون جمالا، عرفوا عادة بعرضها على السياح بالجيزة حيث توجد الاهرامات الفرعونية. يدعون السياح إلى القيام بجولة على ظهورها أو أخذ صور تذكارية. أفهموا أن المعتصمين هم سبب ما هم فيه من بوار سلعتهم وركود السياحة عامة.

مع كل تقرير يسلمه للمقدم مولاي ادريس، كان يتوقع أن يحمل له هذا الأخير بشارة بخصوص موضوع تشغيله بأسلاك الشرطة، كان يبعث عبر تقاريره برسائل مبطنة إلى من يتلقاها ويقرؤها ويحلل معطياتها، يعمد إلى استعمال لغة واضحة بسيطة بمفردات واضحة المعنى غير قابلة للتأويل مبتعدا عن الصياغات الأدبية، يصوغ تقاريره بلغة بوليسية. يحاول أن يجعلها تثير الانتباه إلى كفاءته واستعداده لأن يكون شرطيا متحمسا للدفاع عن البلاد والمؤسسات.

حين أخبره المقدم ذات لقاء أنه مدعو للحضور إلى إلى ولاية الأمن، كاد يجزم أنه نال ما كان يطمح إليه، وأن الرسائل المضرة في تقاريره قد وصلت المرسل إليه.

في قاعة انتظار فسيحة ساد صمت إلا مما تحدثه حركات الأجساد والأشياء، أجال بصره يمسح أوجه الحاضرين، كان قاسمهم المشترك، هو تجنبهم تلاقي نظراتهم، ما يكاد يحصل ذلك حتى يهرب الواحد منهم الى تصفح ما بيده من أوراق أو تنظيف أظافره دون أن تكون في حاجة إلى ذلك. تساءل المهدي إن كان كل هؤلاء قد حضروا سعيا وراء نفس الغاية، ترى هل كلهم تلقوا وعدا بالالتحاق في أسلاك الشرطة، وهل هذا هو كل العدد أم هناك متعاونون ٱخرون؟ كلما كان العدد كبيرا كلما قلت حظوظ الوفاء بالعهد. حاول الهروب بتفكيره من هذا الاحتمال، يجب أن يكون كامل الحضور في لقاء من جاء ليلاقيه، أن يوظف كل تركيزه في دعم الٱثار التي يمكن أن تكون خلفتها الرسائل التي بعث بها عبر التقارير.

وهو يهم بدخول مكتب الضابط المكلف باستقباله، لاح له وجه أحمد الغامري يغادر باب مكتب مماثل في نهاية الممر. صعقه الأمر! أيعقل أن يكون هو أيضا متعاونا، لا بد أن في الأمر لبس ما، قد تكون مجرد مصادفة جعلتهما يكونان في نفس الزمان والمكان، الجميع يعرف أنه مناضل نقابي ومعارض سياسي. وهو يخطو خطواته الأخيرة المرتعشة نحو مكتب الضابط، مر بذاكرته  توجيه المقدم مولاي ادريس أن ينسى موضوع الغامري لأن هناك من يتكفل به. تعززت شكوكه وهو يسترجع غموض الانتقال من قرية نائية الى مركز مدينة مراكش والتفرغ النقابي الذي يعفيه من الحضور إلى العمل.

جلس على كرسي من الكرسيين اللذين وضعا مقابلين للضابط، كان الأخير بشوشا، أشاد بطريقة المهدي في تحرير التقارير، أثلج صدره أن الرجل فضلها على تقارير أنجزها شرطيون مرسمون منذ عقود، حثه على المزيد من اليقظة وأن يعتبر ما يقوم به هو مرحلة تكوين قبل الترسيم. أسعده أن تكون رسائله الثاوية في تقاريره قد وصلت لمن يهمه الأمر. وهو ينزل السلم توقف نظره عند المسدسات والأصفاد والنياشين التي تزين عناصر من الشرطة.

خفت صوت حركة عشرين فبراير شيئا فشيئا، وزاد من حدة ذلك، إعلان جماعة العدل والإحسان الانسحاب من كل ما له صلة بها، من تنسيق مع باقي الفرقاء اليساريين ومن حضور مسيراتها التي صارت بلا تهديد للنظام، لقد استطاع المخزن أن يشل الحركة بخطة بدأت بخطاب الملك في التاسع من مارس، يعلن عن تعديلات دستورية في اتجاه دولة ملكية برلمانية، وزيادة في أجور بعض القطاعات، و إطلاق وعود بالاصلاح دون أي تنفيذ.

وقد سهل هذا التراجع في الحركة على المخزن إطلاق حملة اعتقالات في صفوف نشطائها من الشباب، وساق عددا منهم إلى السجون بتهم الشذوذ الجنسي والمخدرات، يظهر أنه استفاد من ماضيه في القمع الذي كان يجر عليه الانتقادات الدولية بسبب التضييق على حرية الرأي والتظاهر، فقرر تحرير صكوك اتهام بقضايا أخلاقية، تخرج أصحابها من دائرة المعتقلين السياسيين وتشوه صورتهم أمام عموم المواطنين.

يتبع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى