ثقافة

محمد شكري : فتنة اليومي التي تفتح شهيتنا للحياة

عبد الإله إصباح 

هناك كتاب لا تمل من إعادة قراءتهم، وفي كل مرة تعيد القراءة تحس كما لو أنك تقرؤهم لأول مرة، تستمتع من جديد بأجوائهم الروائية، وبفضاءاتهم، بحواراتهم وتأملاتهم. محمد شكري من بين هؤلاء. الجزء الثاني من سيرته ” زمن الأخطاء ” يشد قارئه من الصفحات الأولى، يندمج في عوالمه، ويتمنى لو أنه لا ينتهي من القراءة، بل احيانا يظطر هذا القارئ إلى عدم التسرع في إنهاء السيرة ليحافظ على استمتاعه، وبيقى منغمسا  مع محمد شكري في عوالمه. خاصية الكتابة عنده اكتسبها من قراءاته المتعددة لأدباء من اجناس مختلفة. علاقته بأدباء جيل البت لا يخفيها. تعرف على العديد منهم عندما زاروا طنجة. في كتابه ” بول بولز وعزلة طنجة رسم بورتريهات مختصرة لجاك كيرواكوغسنبرك وغيرهما استمدها من كتاباتهم وسيرهم و مما كتب عنهم من طرف النقاد وكتاب السير. البوح الصريح عن ذواتهم ومغامراتهم، عن إدمانهم للكحول و المخدرات، عن روابطهم العاطفية وعن أزماتهم النفسية، كل ذلك جعل ادبهم يحدث نقلة نوعية في تطور الأدب الأمريكي وخاصة جنس الرواية وجنس السيرة الذاتية. محمد شكري اطلع على منجزات رواد هذه المدرسة،  وبما أنه عانى الضياع والتشرد في طفولته وشبابه، انجذب إلى إبداع هؤلاء، فحضر البوح والتلقائية في التعبير من خلال جمل مختصرة و لكنها تتسم بالصدق و الصراحة لأنها تصور اليومي الذي يصبح ممتعا عندما يتحول إلى أدب.

حديث شكري عن النبيذ، يفتح شهيتك على الشرب، تماما كما يحدث عندما يتحدث عنه همنغواي في ” الوليمة المتنقلة. وصفه لأجواء حانة يجعلك تتمنى لو دخلت إليها،أو ربما يدفعك لأن تضع ما بين يديك  وتخرج باحثا انت الآخر عن حانة مشابهة لها  في مدينتك. ى لا يكف شكري عن استحضار اليومي، لأنه منبهر به، فاليومي يرتفع عن ابتذاله عندما يصبح موضوعا للتامل، وعندما يتحول إلى متعة حقيقية تشدنا إلى بهجة الحياة. انبهاره باليومي هو الذي دفعه إلى تسجيل يومياته مع جون جينه في كتابه  “جون جينه في طنجة ” وكذلك فعل مع تنيسي وليامز . تحدثت عنهما ولكن في الحقيقة تحدث عن نفسه من خلالهما. و وحده من يستطيع أن يكتب بتلك البساطة الآسرة الممتنعة والمتمنعة لآنها لا تتأتى إلا لمن كان مبدعا حقيقيا.

شكري يدفعك  أيضا لاستحضار هنري ميلر، هو يحيل إليه في العديد من استطراداته عن الأدباء والكتاب.

هنري ميلر عانى العوز والجوع، وشكري تجرع من مرارتهما. وصف ادب هنري ميلر بالفضائحي، وكادت سيرته أن تمنع من التداول إن لم تكن قد منعت بالفعل، وشكري صدر قرار بمنع سيرته ” الخبز الحافي ” هنا بالمغرب ومنعت مرة أخرى في مصر. هو إذن مصير مشترك بين أديبين  تفوقا في تصوير اليومي وفي التعبير عن ذاتهما  وكسرا معا طابوهات الرقابة المجتمعية والأخلاقية.

كتابه عن بول لولز له نفس الخاصية، كتاب بوح عن بولز وعن ذاته، كلما اعدت قراءته يمنحك متعة القراءة الأولى، مبهر، فتان يعيد صلتك ببهجة الحياة، وتلك هي اسمى وظيفة للأدب والفن عموما، وشكري كان فنانا وأديبا عظيما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى