الحدث

محمد بهجاجي: هؤلاء جميعهم يرددون “كلنا فلسطينيون”

تكلفة الطوفان ستظل هي الأكثر ضررا بالنسبة إلى دولة كانت تتصور نفسها من أقوى جيوش العالم

محمد بهجاجي (كاتب و مسرحي)

بعد خمسة أيام على اندلاع “طوفان الأقصى”، لا تزال الوقائع تؤكد أن ما يجري هو بالفعل حدث غير مسبوق في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
نعم. ستكون التكلفة لاحقا أكثر ضررا على غزة، ساكنتها وأرضها وهوائها لأن عقل المهزوم لا رشد له، لكن تكلفة الطوفان ستظل هي الأكثر ضررا بالنسبة إلى دولة كانت تتصور نفسها من أقوى جيوش العالم المدججة بالسلاح النووي، وبسند الأمريكيين غير المشروط. وبذلك سيظل يوم السابع من أكتوبر جرحا عميقا في جسد إسرائيل وضميرها بما يضاهي، من حيث جسامة الخسارات العسكرية والسياسية والنفسية، أكثر من يوم 6 أكتوبر 1973 الذي كان قد أعلن عن سقوط أسطورة التفوق على العالم.
اليوم لم تسقط الأسطورة فقط بعد أن جسمت الخسارات واستفحلت. بل سقطت كذلك معنويات المحتلين مثلما سقطت قواهم الناعمة، أذرعهم الإعلامية والسينمائية والتلفزيونية التي صورت فلسطين بلادا محكومة بسيكولوجية الهزائم القديمة والحديثة، ومسكونة بذكاء مخابرات الاحتلال التي تدعي القدرة على التسرب إلى مخابىء الفلسطينيين وأعراسهم وأحلامهم وأسِرّتهم الحميمية كما يصور ذلك مسلسل “فوضى” على سبيل المثال.
المرتبك اليوم ليست فقط إسرائيل التي لم تتردد في خوض الحرب على قطاع لا يفوق طوله المسافة بين الدار البيضاء وبرشيد، ويتراوح عرضه فقط ما بين خمسة كيلومترات إلى خمسة عشر.
الأنظمة العربية منشغلة بتأكيد الحاجة إلى العودة إلى المفاوضات سبيلا لقرار السلام المؤجل.
الأمريكيون مرتبكون لأنهم راهنوا على “غواية” إيران، وعلى السعودية من أجل إغناء منسوب التطبيع. وها هم قد تركوا أوكرانيا خلفهم، وصاروا نحو شرق المتوسط.
السلطة الفلسطينية في وضع إشكالي محدود التحرك والإمكانيات.
وحده الغرب الذي سقطت أقنعته بعد أن نظر إلى “الطوفان” بعين واحدة تحاول عبثا “دعشنة” فلسطين غير عابئة بمضامين ما يسمى الشرعية الدولية التي كانت أقرت حق الفلسطينيين في الوجود بعد إثبات حقهم في إقامة الدولة المستقلة على حدود 1967، وعلى حل الدولتين. ومن داخل هذا الغرب تنفرد أصوات قليلة تنبه إلى أن ما يحدث اليوم إزاء اسرائيل هو قطرة فقط من دماء الفلسطينيين، المسلحين والمدنيين، التي أهرقت باردة منذ ما قبل اتفاقيات أوسلو وما بعدها.
نستحضر هنا صوت فرنسا الأبية وزعيمها جون لوك ميلونشون الذي صرح في تدوينة، بعد بدء “الطوفان” بيوم واحد، بأن “من حق الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي أن يعيشا جنبا إلى جنب في أمن وسلام”، مضيفا بأن الصواب “هو حل الدولتين وفق ما تقره قرارات الأمم المتحدة”. ومن ثم صار يتعرض الى تهم التخوين واللاسامية (!؟). في نفس السياق تقريبا اندرجت كلمة الأمين العام للأمم المتحدة التي أكدت “أن العنف لا يمكن أن يوفر حلا للصراع، وأن المفاوضات التي تؤدي إلى حل الدولتين وحدها الكفيلة بتحقيق السلام”. وفي السياق ذاته نادت التنظيمات الأممية، الحقوقية والغذائية والصحية والمكلفة بشؤون اللاجئين، بحماية مدنيي غزة.
أما المقاومة الفلسطينية التي حظيت إلى الآن بانخراط فعلي من الجهاد الإسلامي وفصائل فلسطينية أخرى، وبدعم أولي من حزب الله، وبإيران أساسا، فلا تملك بعد ذلك سوى صبرها وصمودها، وبشكل خاص، ورقة الأسرى والجثث في أحسن الحالات، وذلك بالضبط ما سيرسم ملامح خريطة ما سيجري.
تحية إلى المقاومين الذين لا يفعلون سوى مجابهة قوى الاحتلال الذي تعبث بالشرعية الدولية مضاعفة تنامي الاستيطان، عابثة بالمقدسات، وبمسجد الأقصى تحديدا، وبذاكرة الصراع الدموي، منكلة بسكان الضفة والقطاع، بالأطفال والنساء والشيوخ قبل المقاومين.
تحية إلى كل المواطنين ذوي الإرادات الطيبة من المغاربة والعالم العربي والإسلامي، وفي فرنسا والعالم التي تصرخ أمام ملء الروح والضمير داعية إلى النظر الى ما يجري باعتبار جذور المشكل المتمثل في إثم الاحتلال، وفي ظلمه التاريخي، وفي تمزيق اتفاقيات أوسلو، وفي كل مشاريع السلام التي تبنتها الأنظمة العربية.
هؤلاء جميعهم يرددون “كلنا فلسطينيون”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى