مذكرات

محمد النواية يكتب عن حفل الشاي

" لا يمكن أن نشبع من اثنين ؛شرب الشاي  وَرِضَى الوالدين" 

محمد النواية

منذ الصغر بدأنا نستحسن مذاقه؛ نتذوق نكهته ونمتص ما بقي في فمنا من هذا المسكوب اللذيذ الذي هو شراب الجميع،الكبير والصغير ؛الغني والفقير . ففي طفولتنا كبرنا على قولة نرددها دائما ” لا يمكن أن نشبع من اثنين ؛شرب الشاي  وَرِضَى الوالدين”  .

   فطريقة تهيئ الشاي ؛تقديمه ؛استهلاكه ؛احتفاليته والقوانين والأعراف الجاري بها العمل بين المجتمعين بدأ ترسيمها مع أواخر القرن التاسع عشر ،إلى درجة أنها كانت من بين مواضيع البرنامج التعليمي التقليدي في المدارس العتيقة بفاس ومراكش.

   اما دخول هذا المشروب فكان على يد البريطانيين في القرن الثامن عشر حسب كتابات الرحالة توماس لوجندر(le gendre ( كان أول ظهور للشاي أيام الغالب بالله السعدي .وقد عُرِف أولا عند المغاربة باسم “لوندريز” نسبة إلى مدينة لندن البريطانية .

قال عنه الوزير ” بن إدريس ” (وزير الدولة العلويه المشهور اواخر القرن 18) :

” الشاي منعش للروح فلْتَضَعْه في مكانة عالية في أحسن تقدير،فَتذَوُّقُه والطقوس التي ترافقه يفوق لذة الخمر”  كما كان مصدر إلهام العديد من الشعراء وشيوخ الملحون والزجالين والكتاب في إبداعاتهم وما يُحدِثُه في الإنسان من نشوة وزهو وهيام كما في قصيدة شرب الشاي يقول عبد السلام الزموري :

    خُده فَدَتْكَ النفسُ من قبل الطعامِ       أو بعده فما عليك من مَلامِ

     ووقته وقْتُ سرورٍ وانبساط          وحيثما دُعِيٌ لِشُرْبِهِ النشَاط

     وقْتَ الصباحِ عندهم مُسْتَحْسنُ        لَكِنٌه بعدَ العَشاءِ أحسَنُ

       إذ وَقْتُه وَقْتُ  فَرَاغِ البالِ           وراحةُ القَلْبِ من الأشغالِ

   اما أدوات الشاي أيام زمان فتتمثل في البراد ؛الصينية ؛الكؤوس ؛الزنبيل ؛الربَايْع؛ البقراج أو البابور ومجمر الصفر بأربعة أرجل يجمعهم مكان زاهي باهي وجميل، دارأو رياض أو جنان فائح برائحة بخور العود من مبخرة ؛ وماء الورد ؛ وزهر البادنج وزهر الليمون .

يحكم هذا الحفل  قواعد من بينها أن تعلن الجماعة مْعَلٌم الشاي الذي يجب أن يكون بارعا في تهيئه وذو دراية بطقوس الحفل. للعِلم فقد كان إعداد الشاي في القصور مثلاً كان يتولاه موظف سامي يسمى “قايد أتاي” . وقبل أن يتكلم الناس الجالسين حول الصينية يفتتح البراد الكلام بِصبِيبِه في الكؤوس مُحدِثًا معزوفة تمهد لحفل الشاي ؛ وبعد شُربِ الجرعة الأولى ينطلق ألحكي حكايات من فم لأخر تقطع بجرعات من هذا المشروب الساحر . تَطُولُ المنادمة وتحلى لذة الجلوس والكلام .

قدم الشاعرسليمان الحوات الشفشاوني في بضع أبيات شعرية نصيحة الإدمان على الشاي لما فيه من منافع صحية :

       وكونوا عليه مُدْمِنين لأنه          شِفاءٌ للنٌفوسِ إن عَرَاها سَقَمُ

إلى أن يقول :

   يكسو الوجُوهَ حُمْرة في نعومة            كأَن بها ورداً سقَاهُ غمامُ

بينما جَمعُ حفل الشاي لكي يكون مستحبا ،يجب أن لا يتعدى خمسة أفراد لأن الكثرة تُذهِب رونق الجلسة وتعكر صفوها إلا إذا كان الزائد مطربا أو مغنيا أو ذو عذوبة وملحة ووجه حسن مقيما ومهيئا للشاي بحسنه .  ومع أن البراد هو من يفتتح الكلام ، لذا ففي حلقة “مول  لحمام” مثلاً لا يدورالكلام بين الشرقاوي وصاحبه الضريرإلا حينما يأتي القهوجي بالصينية والبراد الذي يحدث في الكؤوس أمواجا من الرغوة التي تعلو كلما ارتفع إلى الأعلى فيبدأ التراشق بالكلام المأثور والمعاني الموزونة. كما كانت تُغَنِّي الشيخة واصفة القايد العيادي :

    “دَايْر بَرٌادو في قَبُو فين مٌا ولاه إشرْبُو   دَايْرشيخاتُو في جَنْبُوفين مٌا رْشَقْ ليه إلَعْبُو”

 كانت الصينية والبراد تجمعان الأحباب والعائلة الكبيرة والأصدقاء والشلة والٌلمٌة ،ويؤثتان المجالس في الدور وبين أشجار و أحواض الرياض أيام التشبث بالألفة والمؤانسة بين أحضان الأحبة، خلافا للعزلة والانزواء الذي سرقنا إلى الشقق في العمارات  وخشونة الاسمنت. اليوم بدل البراد المايسترو طلع علينا الإبريق يجسم ويتناغم مع الفر دانية والعزلة والصينية بعدما كانت دائرية تجمع حولها الجمع صارت مربعة وأحيانا مستطيلة ومنبطحة أرضا بلا أرجل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى