محمد النواية يكتب عن الدٌكٌانة
لوسات أنفو: محمد النواية
بحي ضباشي أمام درب الجديد كنا نجلس بمدخل منزل صمموه أصحابه على شكل مقاعد حجرية؛ ربما قصد استراحة الضيوف حيت يظهر المدخل كمنصة تشبه قاعة انتظار. دأبنا على احتلال المكان أو “الدكانة” بشكل يومي نراقب حشود المارة؛ العربات والكوتشي، نسجل ما يشهده هذا الزقاق من أحدات وطرائف ومشاجرات من جراء الزحمة التي يعيشها في المساء.
على هذه المقاعد كانت تُحَلٌ الخلافات والخصومات وتبرمج اللقاءات والمباريات وفي الصيف تُنَظٍمُ المجموعات على اختلاف أعمارها برامجها للسفر إلى مصطاف الجديدة أو المخيمات. كان على يمين الدكانة دكان ببابين؛ لا تفتح منهما إلا واحدة ولا نعرف ماذا يجري بداخله. في المساء كانت تأتي إلى مسامعنا من داخله تقسيمات العود وصوت إيقاع الدف وأحيانا نغمات الناي. يتوافد عليه حرفيون بجلابيب قصيرة وطاقيات مراكشية. حين يتعالى ضجيجنا فوق مقاعد الدكانة ويقوى صخبنا يخرج رجل طويل القامة ذو شعر أسود قاتم وشارب ممتلئ يسكتنا ويطالبنا بالانسحاب بعض الوقت أنه الفنان المرحوم حميد الزهير صاحب الدكان، يشتغل فيه ويستقبل زبنائه لإقامة الحفلات والأعراس والمناسبات. كان الرجل مهووسا بالموسيقى الشعبية التي ألفنا بروفاتها التي يصلنا صداها إلى أدننا الصغيرة والتي تزداد متعة حين تكون مملحة بصوت نسوى.
بدأ حميد الزهير مشواره الفني الذي تميز بإحياء التراث الغنائي الشعبي المراكشي مزج فيه بين الأهازيج المراكشية العتيقة التي تعتمد على الغناء الفردي والجماعي وآلات العود؛ الإيقاع؛ الدف؛ الناي وإيقاعات الكف المراكشي وبعض المشاهد الغنائية المسرحية التي تحكي بشكل ساخر أحوال الناس. في السنة الأولى من حكم الحسن الثاني (1962)؛ سيزور مراكش وسيغتنم الفنان هذه المناسبة ليلحن أغنيته الشهيرة “را مراكش ياسيدي كل فارح بيك” التي دشنت لمرحلة جديدة في مساره. ستهدى له سيارة من نوع “فوك سفاكن ” ومنحة مالية بعد انجاز هذا العمل. سيتوافد المراكشيون رجالا ونساء على الدكان المغمور ليروا ويكتشفوا الفنان ومجموعته. ستفتح له أبواب الإذاعة الوطنية والتلفزة المغربية لتسجيل وتوثيق الأغاني المستمدة من روائع التراث المراكشي لإعادة الاعتبار إليه والى ما تزخر به الذاكرة الغنائية الشعبية. لم يمكث طويلا في دكانه بعد هذه الطفرة التي حققها لكثرة انشغاله في أواسط الستينات التي عرفت مرحلة ازدهار الإذاعة والتلفزة بالحفلات الأسبوعية التي كان يحييها مع باقي الفنانين وفي المسارح ببلدان المغرب العربي الكبير. ولم نعد نرى مجموعته إلا نادرا حين يعبرون الحي صوب مساكنهم بالأحياء المجاورة. لم يكن حميد الزهير وحده الذي مر بدرب ضباشي لقد سبقه الملحن عبد الله عصامي؛ والجديري وآخرون. اللون الغنائي الشعبي الذي بصمه السي حميد أراد بعض المطربين أن يركبونه كالعباسي حسن؛ ومحمد السفياني لكن استماتة هذا الفنان في اشتغاله كانت أقوى. الاشتغال على التراث والإيقاعات الشعبية المراكشية قادر على إنتاج وتجديد ظواهر فنية كادت أن تندثر. لقد أحيا هذه الفنان جزء من الأنطولوجية الغنائية لمدينة مراكش وحافظ عليها بتوثيقها بأغانيه ومقطوعات ضاربة في متون التراث المراكشي الشعبي.