محكيات الطاكسي في زمن كورونا 7
يثير أعصابه أن يصطف الناس ويرفعون الدعاء لمن يسرق قوتهم ويتصدق منه عليهم
يوسف الطالبي
رتيبة هي مهنة الطاكسي، سلسلة لا متناهية من تكرار لا يتطلب كثيرا من إعمال ملكة الذكاء، يشعر أن دماغه تتقلص حتى أن ذاكرته ضعفت إلى حد مقلق، حاول في أكثر من مرة إبداع ما يسمح بتوظيف مكاسبه المعرفية من خلال الاهتمام بالأداء الجمعي، لكن دون جدوى، حين تشتغل بمهنة الطاكسي، أمامك أمران، إما أن تحافظ على تركيزك وبحثك الدائم على حفر ثقب للفرار، وإما أن تستسلم لتكرار مميت، ليس الأيام ما يتشابه ويتكرر فحسب، بل يومك ينقسم إلى جملة قصيرة تأخذ في التكرار، زبون يلوح فسيارة تتوقف فوجهة تعلن فأجر يسدد. عجلة تدور دون تجديد، إنه الموت البطيء كما وصفه بابلو نيرودا
الاتفاق بينه وبين السائق الذي يتناوب معه يقضي أن يتولى أحدهما الطاكسي من ظهر اليوم إلى ظهر الغد، عندما ينتهي دوامه يمر على الثاني في بيته يقصدان محطة الوقود يملأ من أنهى ساعات عمله خزان السيارة بما استهلكه من بنزين، فتنتقل السيارة الى عهدة الثاني، ثم تنطلق نفس الجملة في التكرار.
إيقاع العمل هذا يفرض عليه نظاما في النوم والاستيقاظ والأكل. قبل الظهر يجب أن يكون في أتم الاستعداد، تناول وجبة غذائه وأفرغ أمعاءه ومثانته مما تجمع بهما، يستحسن ألا تناديه الطبيعة خلال ساعات العمل، الأماكن حيث يمكن الاستجابة لندائها شبه ناذرة، وإن توفرت تكون غير لائقة ولا تمنح إمكانية نظافة كاملة.
بسبب طوارئ بسيطة لم يتناول غذاءه في البيت ذلك اليوم، انتظر حتى إلى ما بعد العصر، توقف عند با حسون، أحسن من يبيع الفاصولياء والعدس وقوائم وأحشاء البقر، عند باحسون يمكن أن يحظى المرء بشبع بأقل من خمسة عشر درهما، لك الحق في طلب زيادة إذا لم يكفك ما قدمه لك في الطبق، وحدة الكيل عند باحسون هي الشبع، كل حتى تشبع، ما ستؤديه وأنت تغادر هو نفسه، بالإضافة إلى الطعام، لك الحق في متابعة تعليقاته الساخرة التي لا تتوقف، يخيل لمن يتابعة أنه يخزنها في فمه وليس في دماغه، تعليقات سريعة لا تتطلب منه طويل وقت للتفكير فيها أو إعدادها، لكنها دائما موفقة في إثارة الإعجاب به.
وضع أمامه صبي با حسون طبق فاصولياء منسمة بإيدام أحشاء البقر، تنبعث منها رائحة الكامون والثوم والحامض المخلل، با حسون لا يطبخ الفاصولياء والعدس في طنجرة أليمنيوم، بل يحضرها في طنجية، تبيت الليل كاملا مدفونة في رماد الفرناطشي حتى يتبخر كل الماء الذي وضع فيها، حين يقدمها لزبنائه تكون حباتها قد تفتح غشاؤها وصارت متلاحمة كالزبدة، وتحت الطلب يضيف إليها إيدام الأحشاء. يرفقها بكأس شاي بأعشاب خاصة، إذا تذمر زبون من أعشاب با حسون عاجله
– وا ..اشرب أوا وبييتها فايقة
جواب كحجر يقذف به با حسون محدثه لكنه يصيب كل المستمعين، فيرتفع الطلب على المزيد من كؤوس الشاي.
اقترب منه شاب قدر أن يكون في منتصف العقد الثالث من عمره، انحنى عليه، وهمس في أذنه أنه جائع ويحتاج من يؤدي عنه ثمن وجبة. دعاه إلى الجلوس إلى طاولته وطلب له أيضا نفس مايتناول هو، كانت استجابته لطلب الشاب استثنائية، فقد كان يميل إلى ألا يستجيب لطلبات المتسولين. منذ مدة صارت أعدادهم كثيرة، وفي سنة كورونا تضاعف ما كان كثيرا أصلا، كان دائما مقتنعا أن الإحسان لن يحل قضية بؤس البؤساء، تثير غضبه صور الناس يقفون صفوفا في رمضان من أجل آنية حساء، ومدعون للإحسان يقدمون عطايا تافهة وسط تصفيقات بلهاء، سياسة حدا حدوها متبرجزون تافهون يحملون ملابس مستعملة لأطفال الأرياف أمام عدسات الكاميرات، يثير أعصابه أن يصطف الناس ويرفعون الدعاء لمن يسرق قوتهم ويتصدق منه عليهم، يكره الإحسان حينما يعوض حق الناس في مجتمع عادل، وفي مرات أخرى يفكر أنه ليس من العدل أن يكدح هو النهار وجزءا من الليل من أجل مبلغ بسيط، فيما يقف متكاسل عند أول إشارة مرور طالبا المساعدة من الناس، ليتحصل في نهاية يومه على ما يضاعف دخله هو ثلاث مرات. ثم إن الإحسان يقتل كرامة وأنفة الناس، فيعتادون على المال السهل، وبدل أن يخرجوا للمطالبة بما هو حق لهم بما يتطلبه ذلك من شجاعة وتضحية، يستسهلون السعاية، كان دائما ينظر الى الإحسان كمعيق لسيرورة التاريخ. وفوق هذا وذاك، ما عسى يفيد درهم واحد إن رميناه في محيط من الحاجة.
يتأسف رحو من قرار الدولة إغلاق منتجع أوكايمدن بدعوى الحد من انتشار فيروس كورونا، لقد فوتت عليه وعلى عائلته وسكان المنطقة فرصة مهمة لادخار ما يكفي لتغطية مصاريفهم العائلية لجزء مهم من السنة، وتزيد حسرته لكون السماء جادت هذه السنة بثلج وفير تساقط على قمم الأطلس كان يعد بموسم يمتد على الأقل ثلاثة أشهر، وهي أطول مدة يمكن أن تبقى فيها الثلوج على قمة مضمار التزلج ببلدته، لكن الحكومة لم تلتفت للضرر الذي لحق الناس.
في فصل الشتاء، تغطي الثلوج قمة جبل أوكايمدن والقمم المحيطة به، وفي السنوات الباردة ينزل الثلج حتى مناطق يقل ارتفاعها عن ألف وأربع مائة متر، يمنح ذلك فرصة لسكان تلك المناطق لكسب مال مهم، إذ تصير الجبال قبلة للزوار من المغاربة والأجانب للتزلج والاستمتاع بالألعاب الثلجية، يخلق ذلك فرصا للعمل، يعرض السكان معدات التزلج للكراء، وتنشط محلات تقديم الأكل والمقاهي، يسرج بعضهم بغالهم ويعرضون على المتنزهين جولة أو صورة فوق ظهورها، وتوفر المآوي والمطاعم فرص عمل موسمي للرجال والنساء، حتى الجدات والأطفال يبيعون النباتات الجبلية من زعتر وشيح وجوز.
في أيام الثلج يلازم رحو قريته، يقدم دروسا في التزلج للمتنزهين ويتكفل برعاية أطفالهم وتعليمهم تقنيات التزحلق، وحين يذوب الثلج ينزل إلى ستي فاضمة حيت يشتغل مرشدا جبليا يقود السياح في جولات على الأقدام إلى الشلالات السبع، يعبر بهم الدواوير. بما يدره موسم الثلج على رحو وعائلته وأهل بلدته، يقتني سكان أوكايمدن بعض العنزات، التي ستلد لهم جديانا، سيبيعونها واحدا واحدا لتأمين حاجياتهم، يستثمرون جزءا في الإصلاح السنوي الضروري لمساكنهم المصنوعة من الطين والأحجار حتى تقاوم قساوة المناخ، دون تلك الصيانة ستتهاوى الأسقف تحت ما سيتراكم عليها من ثلوج، ويتضرر كل البناء بما يتسرب من ماء ناتج عن ذوبانها.
الحياة في الجبل قاسية، وتزداد قساوة إذا ما ضعفت موارد العائلة، يرى رحو أن الدولة لم تنصف الأمازيغ قط، تتركهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم، لقد سمع من بعض أبناء بلدته ممن ساعدتهم ظروف خاصة على مواصلة تعليمهم وبلوغ مرحلة الجامعة، أن الدولة تراهن على الزمن والإهمال من أجل تآكل هذا المكون الثقافي وتلاشيه، تحاول أن تضرب عناصر الاستقرار، لدفع الناس إلى الهجرة والذوبان وتضييع مقومات هويتهم الجماعية، من أجل ذلك تتركهم في أعالي الجبال دون طرق ولا مدارس ولا مشافي، وفي حين تدعم الفلاحين في السهول بتمويل كلي لمشاريع الري وتجهيز الأراضي الفلاحية، تهمل سكان الجبال الأمازيغ.
بإغلاق منتجعي أوكايمدن وستي فاضمة بوادي أوريكة، انعدمت أمام الناس سبل العيش، أرسل بعضهم بناتهم الصغيرات للعمل خادمات في البيوت بالمدن، والذكور مساعدين في المتاجر، وهاجر اليافعون والبالغون من الرجال للعمل في أوراش البناء. لم يفلح رحو في العثور على عمل ضمن مساعدي البنائين، طاف المدينة كلها، كلما رأى ورشا سأل عن المكلف به وطلب عملا، لكن دون جدوى، لم يسلم قطاع البناء أيضا من أضرار بسبب الجائحة، فقد مسه الركود، وتأثر سوق العقار.
خلال طوافه بحثا عن عمل، صادف رحو رجلا يدعى الحاج الوافي، كان يتابع أشغال بناء فيلته، التي أوكل بناءها لمقاول، أظهر الحاج الوافي لرحو تعاطفه معه، ووعده بعمل يجني منه ربحا جيدا، ولا يتطلب منه تعبا وعناء كما في أعمال البناء، وعده بتشغيله حارسا للسيارات، اعتبر رحو الأمر فرجا وتدبيرا من ألطاف السماء، أخذه الرجل معه في سيارته رباعية الدفع إلى شارع عبد الكريم الخطابي، عين له مقطعا يمتد على مائة متر
– ها انت هاد البلاصة ديالك…اللي بغا يبلاصي بان ليه…وملي يبغي يخرج تخلص منو…مولا ميا، مولا ألف فرنك…كاين كاع اللي كيكرم بعشرين درهم.
شعر رحو أن الله لم ينسه كما اعتقد في حالة يأس، وأن ما قضاه من أيام يطوف المدينة باحثا عن الأوراش إنما كان يقوده إلى رزقه، قضى الليل يتقلب على جنبيه دون أن ينام نوما مسترسلا، أفكار كثيرة مرت بخاطره، فكر بوالديه وإخوته وأخواته الخمس الذين يصغرونه سنا، ومنهم رقية العائدة إلى بيت العائلة بطفلين من زواج فاشل، تعيِّن التقاليد التي فتح فيها عينيه الإبن الذكر الأكبر مسؤولا على والديه وإخوته، ومن العقوق التخلي عن مسؤوليته. قضى ليله يهيئ العبارات التي سيتوجه بها للسائقين الذين يركنون سياراتهم
– زيد زيد زيد …براكي كولشي…باراكا
كان الحاج الوافي مرحلة وسطى في سوق مواقف السيارات، بين حسن الروداني ملك القطاع والصغار المكلفين بالتحصيل من السائقين، يحضر حسن الروداني المزادات التي يعلن عنها المجلس الجماعي للمدينة، يتبعه مساعدوه يحملون أكياسا من تلك التي يباع فيها الدقيق مملوءة أوراق نقدية، لا يستطيع أحد منافسته في رفع الأثمان، لا يترك لهم إلا ما خبر بتجربته أن عائدها لا يستحق، عندما يرسو عليه مزاد، يومئ لأحد مساعديه بدفع المبلغ في الصندوق، يعرف الجميع أنه في اليوم الموالي سيكون بمرآب بيته بحي المسار، يوزع الشوارع والأزقة على الوسطاء من أمثال الحاج الوافي، لم يتوقف حسن الروداني عند كراء مواقف السيارات، بل هيمن على كراء الأسواق الأسبوعية، وأسواق بيع أضاحي العيد، ويتقدم لشراء محتويات المحجز البلدي وما يحجز ويباع بمقتضى حكم قضائي من عقارات ومنقولات.
كان على رحو أن يدفع خمسمائة درهم يوميا للحاج الوافي، مبلغ لا يمكن التحصل عليه بسهولة، خلال يومي السبت والأحد حيث تخفت حركة السير، يحدث أن لا يفيض عن ذلك المبلغ ما يحتفظ به لنفسه، وحتى الكرم الذي زعم الحاج الوافي أن رحو سيلاقيه من السائقين، لم يجد منه شيئا، كان عليه أن يتعامل مع أناس يظهرون الكثير من العصبية، وفي حالات كثيرة كالوا له ألوان السب والإهانة، والتهديد بالضرب.
كانت خطة الحاج الوافي ذي اللحية المشدبة بعناية والشارب المقصوص، أن يوظف شبابا جددا لا تجربة لهم في مجال حراسة السيارات، تضمن له هذه الخطة أن يرفع الوجيبة الكرائية اليومية إلى أقصى حد ممكن، وما أن تبدأ علامات عدم الرضى والسخط تظهر على سلوك العمال حتى يستبدلهم بآخرين، ساعدته كرونا على ذلك، فالمدينة تعج بالشباب العاطل عن العمل بعدما شلت قطاعات كثيرة ورمي بالناس إلى غمار البطالة والبحث عن حلول بأية شروط.
وهما يتناولان طبقي الفاصولياء، بدا رحو جد يائس، لقد أوقفه الحاج الوافي قبل أيام، بعث مبلغا بسيطا استطاع جمعه إلى أبيه مع سائق شاحنة تنطلق مرتين في الأسبوع من ساحة سيدي ميمون إلى أوكايمدن، وحدثه عن نيته ركوب قوارب العبور إلى أوروبا، فقد تعرف خلال مدة عمله مع الوافي على سعيد السرغيني، الذي اقترح عليه أن ينضم إليه ومجموعة تنوي الهجرة، أخبره أنهم سيقتفون طريق من سبقوهم، يذهبون إلى الداخلة ويشترون زورقا ومحركا، ثم يبحرون إلى لاص بالماص، تستغرق الرحلة ستة وثلاثين ساعة في البحر للوصول إلى الجزيرة، عليه أن يتدبر مبلغ عشرة آلاف درهم ليشاركهم تمويل شراء الزورق والمحرك، المجموعة الآن تضم سبعة أشخاص، لا زال ينقصهم ثلاثة يائسين ليكتمل العدد وتبدأ الرحلة.