ما الذي يقولونه عنا من وراء ظهورنا؟ الخطاب السري لزوار مراكش حول أخلاق سكانها
البلطجة و النصب و عبادة المال

لماذا يحب السياح الغربيون زيارة مراكش؟ ما الذي يجدونه فيها ساحرا و ممتعا و مغريا؟ كمغاربة نعرف جيدا ما يقولونه علنا في وجوهنا عنها، مديح الشمس و الثقافة و الناس، ولكن ما هو الخطاب السري الذي يجري بينهم حول تجاربهم فيها؟ أي وجه لمراكش صادفوه خلال مقامهم فيها، الحفاوة أم النصب؟ وأي تجارب فيها صارت راسخة لديهم حتى أصبحت العملة التي يسعون لترويجها باسمها؟
نجح كثير من الكتاب و الصحافيون و الفنانون في أَسْطرة مراكش في أعمالهم، و حولوها إلى رغبة حية في خيال الغربيين يحلمون بزيارتها و اقتناص عطلة تحت شمس نهارها، أو خلف أسوار لياليها الصاخبة التي يغطيها الجنون و السهر. وزادت جاذبيتها بفعل نجاعة الحملات الدعائية بإغراء الصور المثيرة التي تملأ المجلات و الجرائد و الملصقات الضخمة لشركات بيع الأسفار، و لمكاتب الترويج السياحي. لكن هناك دعاية أخرى تكشف واقعا آخر يسري كخطاب بين عدد من عشاق المدينة من الزوار الأجانب، فمن عادة الغربيين أن يدونوا تحركاتهم في المكان، و يتقاسموه عبر مذكرات السفر و المدونات التي يحفل بها الأنترنيت بلغات مختلفة، يحكي فيها أصحابها حياتهم في مراكش، و يحذرون بعضهم البعض من مصائد الاحتيال والنصب التي قد تستهدفه، ومنهم من يحذر حتى من زيارتها جملة و تفصيلا، حسب طبيعة التجربة التي عاشها فيها.
في مراكش، كل شي يدور حول المال
في إحدى مدونات السفر، تحكي سائحة بريطانية عن خلاصة تجربتها في مراكش بنبرة مؤسفة، قائلة :
مباشرة بعد وصولي سرعان ما علمت أن كل شيء في مراكش يدور حول المال. إذا التقطت صورة دون دفع المال، كنت أتعرض للسخرية. كل يوم، إذا توقفت ولو للحظة واحدة لألقي نظرة على خريطتي، كان يلاحقني مرشدون “متعاونون” ويضايقونني لأدفع لهم مقابل أن يدلوني على الطريق. وبالدفع أعني 150 درهمًا (18 دولارًا أمريكيًا) أو أكثر. وحتى الأطفال الذين كانوا يتعلمون هذه الخدعة في سن مبكرة كانوا يضايقونني. وإذا كنتَ من محبي كتاب The Drifters ، فإن شخصية جمال المحتال ستصادفها كثيرًا و في كل مكان، وقد حطم قلبي أن أرى أطفالًا يتم تربيتهم منذ سن مبكرة ليعيشوا حياة مليئة بالكذب والجشع…”
لم يفلت من هذا التقدير السيء لهذه السائحة البريطانية حتى جامع الفنا برحابة الفرجة والفرح التي تميزها، حيث تقول:
“اشتهر مروضو الثعابين في ساحة جامع الفنا، الساحة الرئيسية في مراكش، باحتيالهم، لذا حاولت الابتعاد عنهم. ولكن في أحد الأيام، اقتربت كثيرًا من المكان وواجهت تجربة مرعبة عندما طاردني رجل بثعبانه. كان يحاول لف الثعبان حول رقبتي وإجباري على التقاط صورة معه، حتى يتمكن من ابتزازي للحصول على المال. شعرت وكأنني في كابوس وأنا أندفع بين القرود المقيدة بالسلاسل والرجال الذين يرتدون ملابس الراقصات الشرقيات وسيدات الحناء ورؤوس الأغنام المقطوعة والبهلوانات للهروب من هذا الرجل.”
الطاكسي: بلطجة تحول حب مراكش إلى جحيم
أغلب الانطباعات السيئة عن المدينة التي تروج في مدونات السفر، تدور عن الطاكسيات وتجارب الاحتيال التي يحس الزوار الغربيون أنهم يقعون ضحيتها عندما يطلبون خدمة نقلهم إلى مكان ما بسيارة الأجرة. يبدأ ذلك بمجرد وصولهم ، أي مباشرة بعد الخروج من قاعة الاستقبال بمطار المنارة. في مدونة ” travel scamming” تحكي سائحة أخرى عن أول لقاء لها بالمدينة بعد مغادرة المطار، تقول:
ما هذا الجحيم الذي وصلت إليه للتو؟”، تساءلت عندما وجدت نفسي في جدال حاد مع كل سائقي سيارات الأجرة في المطار بعد خمس دقائق من وصولي إلى مراكش. تعرضت للنصب والاحتيال. لا يوجد ما يجعلني أفقد متعتي ببلد ما أسرع من الشعور فورًا بعدم قدرتي على الثقة في الأشخاص الذين يعيشون في هذا البلد. السعر الرسمي لسيارة أجرة من المطار إلى منطقة جامع الفنا في مراكش هو 70 درهمًا في النهار و150 درهمًا في الليل. ومع ذلك، عندما سألت عن سعر سيارة الأجرة، قيل لي إنه سيكون 300 درهم. لحسن الحظ، سمع أحد المغتربين المحليين عرضهم وجاء مسرعًا إلى جانبي لمساعدتي في تجنب التعرض للاحتيال. أخبرت سائقي سيارات الأجرة أنني لن أدفع أكثر من 100. اندلع جدال كبير، وسرعان ما أحاط بي حشد من سائقي سيارات الأجرة. كان المغترب بحاجة إلى الذهاب إلى المدينة أيضًا، وقررنا مشاركة سيارة أجرة، وبعد عشر دقائق من المفاوضات، تمكنا من إقناع السائق أخيرًا بالموافقة على سعر 100. ومع ذلك، بمجرد أن دار المغترب حول سيارة الأجرة ليركب معي، أغلق السائق الأبواب، ولم يسمح جميع سائقي سيارات الأجرة بالخارج للرجل بمشاركة سيارة الأجرة معي. انطلق سائق التاكسي مسرعًا مما جعلني أشعر بعدم الأمان والانزعاج الشديد.
بمجرد أن ابتعدنا عن أنظار المطار، أخبرني السائق أنني سأضطر إلى دفع 200 درهم له للوصول إلى المدينة. كنت قد سئمت من الجدال، فقلت له إنني سأدفع 150 درهمًا فقط ولا أكثر. فجادلني. أخبرته أنه بحاجة إلى إيقاف سيارة الأجرة وإعادتي إلى المطار. هز رأسه. سألته عما إذا كانت الطريقة غير النزيهة التي يعاملني بها هي الطريقة التي يريد أن يفكر بها الزوار في أهل بلده. وافق أخيرًا على 150 درهمًا، وهو ما كان أيضًا غير نزيه، لكنني كنت منهكًة، ولم يكن لدي ما يكفي من القوة للمقاومة. قال وهو يبتسم: “مرحبًا بك في المغرب”. لم أكن أعلم أن هذا “الترحيب” سيكون الموضوع الأساسي لزيارتي بأكملها إلى مراكش.”
الابتزاز في كل مكان
لا ينتبه بعض السكان الذي تكون من خصوصية حياتهم التعامل مع الزوار الأجانب، أنهم في كل حركة أو سلوك مهما كان بسيطا يخلقون سمعة للمدينة قد تعزز جاذبيتها أو تضر بمصلحتها. في بعض الحالات يواجه بعض السياح الغربيون مواقف ترسخ لديهم انطباعات سيئة عن المدينة و أخلاق سكانها يعملون على تقاسمها في مدونات السفر الذائعة الانتشار. في إحداها يروي سائح هولندي تجربة مريرة كان سببها صاحب عربة لنقل البضائع. يقول”
“بمجرد وصولي إلى الساحة المركزية ( يقصد جامع الفنا) ، كان عليّ نقل حقائبي على متن عربة . وبما أنني كنت ذاهبًا إلى الرياض، فقد قررت ألا أسأل حتى عن المبلغ الذي سأدفعه. لقد سئمت من الجدال، وقررت أن أترك لأصحاب الرياض مساعدتي في تحديد التكلفة. عندما وصلت إلى الرياض، قيل لي أن أدفع ما بين 20 إلى 40 درهمًا، لذا دفعت 40 درهمًا لإراحة نفسي من المشاكل. تصرف السائق بغضب، وحاول أن يجعلني أدفع المزيد. أعطى مديرُ الرياض للسائق 10 درهم أخرى وطلب منه المغادرة. ومع ذلك، عندما غادر المدير الرياض بعد عشرين دقيقة، كان السائق لا يزال هناك. كذب على المدير وأخبره أنني دفعت 20 درهمًا فقط لمحاولة الحصول على المزيد من المال منه.
كل يوم يحاول الناس في مراكش الاحتيال عليّ. لم أستطع الذهاب إلى أي مكان دون أن يحاول أحدهم ابتزاز الأموال مني. “
في مدونة أخرى لللسفر تقول سائحة “هناك أشياء أخرى يمكن القيام بها في مراكش، لكن النشاط الرئيسي هو التسوق. هذا في حد ذاته هو تصوري للجحيم. حتى أنك لا تستطيع السير في أي مكان دون أن تجد على جانبيك أشياء معروضة للبيع. في الواقع، كان هناك باعة يسحبونني من ذراعي إلى داخل متاجرهم لإجباري على “إلقاء نظرة”. بدا الأمر وكأن هذا المكان لا يستشعر الحدود.”
السائح الهولندي الذي ذكرناه أعلاه، يخرج بخلاصة غريبة عن هذه السلوكات الشاذة ، حيث يقول في تدوينته ” مع هذه الاحتيالات في مراكش، قد تظن أن هيئة السياحة المغربية ستفعل شيئًا لتغيير طريقة معاملة السياح، لكن الأمر الوحيد الذي بدا أن أي شخص يهتم به هو جني المزيد من الدراهم. إن زيارة مراكش تجربة مثيرة للاهتمام حيث لا يوجد مكان مثلها في أي منطقة أخرى في العالم، لكن بالنسبة لي كانت تجربة ملطخة بعدد كبير من عمليات الاحتيال التي حاول السكان المحليون خداعي بها كل يوم. اذهب إلى هناك على مسؤوليتك الخاصة.”
و يورد مجموعة من التحذيرات لمن يرغب زيارة مراكش من الغربيين، أولها :
“لا تبدو حتى تائهاً أثناء التنقل في شوارع مراكش. ففي اللحظة التي تفعل فيها ذلك، ستكون هي نفسها التي سينقض عليك فيها مرشدون “مفيدون” ليدلوك على الطريق. وبمجرد أن يرشدوك إلى وجهتك، سيتوقعون منك الدفع. وبالدفع، أعني 150 درهماً (18 دولاراً أمريكياً، أو أكثر). حتى الأطفال يتم تعليمهم مضايقتك “ليظهروا لك الطريق”. لقد أصبح الأمر مزعجاً للغاية، وجعلني أرغب في البقاء بعيداً عن الشوارع. إذا ضللت الطريق، فاذهب واسأل أصحاب المتاجر و المقاهي، حيث لا يمكنهم مغادرة متجرهم ولن يحاولوا تحصيل رسوم منك مقابل إعطائك معلومات . أيضاً، أي شخص تعتقد أنه ودود ويرشدك عبر متحف أو أي منطقة أخرى سيطلب منك أيضاً أن تعطيه المال حتى لو لم تطلب منه إرشادك في المقام الأول.”
المشكل أنه في هذه التحذيرات يعين مناطق محددة يدعو السياح الغربيين إلى اليقظة عند زيارتها، أو تفاديها نهائيا، كما الحال بالنسبة لما يقوله عن الدباغين في عمق المدينة: ” احذر الدباغين. سيغريك المرشدون المزيفون بزيارتها، و سيدفعون تحت ضغطهم إلى ارتياد الدروب الضيقة للوصول إليها، و عندها سيختفون، و تضل طريقك، و حينها سيخرج آخرون، و يفاوضونك لإخراجك من هذه المتاهة، لأنك وحدك بينهم في هذه الدروب الخالية من الناس، و تحت ضغط الخوف و الحيرة، ستدفع ما يطلبونه منك ..”
رغم كل شيء، فهي رائعة
السائحة البريطانية التي حكت تجربتها مع الابتزاز و الاحتيال، تعود إلى الإقرار بأنه رغم كل ما حدث معها في المدينة الحمراء، فإن تجربتها تظل مميزة، و المدينة رائعة. و تقول في تدوينتها : ” عليّ أن أعترف بأنني لم أزر مكانًا غريبًا مثل المغرب من قبل. رائحة زهر البرتقال والقرفة والمسك تملأ الهواء، والتوابل النابضة بالحياة في أهرامات مثالية، والأقمشة الحريرية الملونة بألوان قوس قزح. كل هذا امتزج في سيمفونية في ذهني جعلتني أشعر وكأنني اكتشفت نوعًا من الواقع البديل. إن التواجد هناك جعلني بالتأكيد أكثر وعيًا بكل حواس جسدي المادي.”
هذه الخلاصة الجميلة التي تُنسي القصص السيئة، تزيدها جاذبية الطبخ المغربي الذي يشكل واجهة مصقولة لثقافة المغاربة، حيث تقول نفس السائحة “
“علمني الطعام المغربي كيف يتم توظيف التوابل لصنع النكهات المثيرة. تعلمت أن أتناول الطعام بيديّ وأنا جائعة، وتذوقت الطعام أولاً بأطراف أصابعي. لقد ملأت فمي بالزيتون الحار والليمون المخلل والتين المجفف والعسل المقطر. لن أنس أبدًا الوجبات التي تناولتها في مراكش. حصلت على جولة رائعة في المدينة القديمة وتعرفت على تاريخ رائع للطعام المغربي. تعلمت أن الطبخ هو أهم شيء يجب على المرأة المغربية تعلمه، وأن مهارات الطبخ لديها تحدد نجاحها بالكامل في الحياة. كما تعلمت أن الرجل يستطيع تحديد مزاج زوجته من خلال طبخها فقط. لقد رأيت العديد من التوابل التي تشكل المطبخ المغربي، وغيرها من المواد الغذائية الأساسية مثل الزيتون والفواكه المجففة والمكسرات. الألوان نابضة بالحياة، ورائحة التوابل تملأ المدينة بأكملها برائحتها.”
تحكي هذه السائحة عن تجربتها المثيرة مع أكلة ” الشواء” بحي القصابين، التي زادت إحساسها بسحر الحياة بالمدينة :
“أتجول في شوارع المدينة القديمة الفوضوية، ومعدتي تقرقر من الجوع. يحيط بي الباعة باستمرار في محاولة لإقناعي بشراء السجاد وزيت الأركان والتوابل النابضة بالحياة. تمسك النساء المسنات بملابسي طالبات المال. حتى أن أحد الرجال يطاردني في الساحة، محاولاً دفع ثعبان في وجهي. لا أتوقف عن ذلك. لا ألتقط أي صور. أنا في مهمة للعثور على أحد مطاعم لحم الضأن المشوي التي قرأت عنها من قبل جيمي أوليفر . لحم الضأن شوي عبارة عن لحم ضأن كامل تم طهيه في فرن تحت الأرض الأرض. بدا هذا المكان وكأنه المكان المثالي الذي أحبه. لكنني تائهة ومذعورة من فكرة أنني قد لا أجده أبدًا. (نعم، عدم القدرة على العثور على لحم الضأن المشوي في الأرض طوال اليوم أمر يستحق الذعر.) ثم استدرت عند الزاوية، فوجدت نفسي محاطًة بعشرات رؤوس الضأن الموضوعة فوق الطواجن. أدركت أن هذا هو المكان المناسب. كان هناك رجل يمزق الضأن بيديه العاريتين. نظرت حولي بحذر، بينما كانت معدتي تقرقر بصوت أعلى. لم يكن هناك أي سائح آخر. هذه علامة جيدة. قلت: “واحد من فضلك”، ثم تقدمت بجرأة نحو المنضدة.أخذوني إلى طاولة أخرى حيث قام رجل آخر بتقطيع المزيد من لحم الضأن، وسألني عن الكمية التي أريدها. وافقت على 250 جرامًا (رغم أنني أستطيع أن آكل ضعف هذه الكمية)، وقام الرجل بوزن اللحم، ووضع قطعة من الخبز فوقه. لم يكن لدي أدوات مائدة، ولا مناديل (قطعة من الورق – “المناديل” التقليدية في المغرب يتم إحضارها في نهاية وجبتي لأستخدمها كمناديل)، لذلك رششت خليط الكمون والملح في الأعلى وبدأت في تناول الطعام. كان دهن لحم الضأن الطري يقطر على ذقني بينما أبتسم ابتسامة امرأة جائعة .. أخيرًا حصلت على الطعام. كان شاي النعناع الحلو الذي تم إحضاره هو المرافق المثالي. لقد أكلت كل قضمة شهية، ولا أستطيع أن أصدق مدى لذتها. لقد رفعت إبهامي لجميع الرجال الذين يراقبونني، بينما كنت أستمع إلى الألحان القادمة من الراديو القديم…”
تقول هذه السائحة إن لحظة مراقبة غروب الشمس من سطح الرياض و سماع أصوات المؤذنين تتصادى في السماء، تجربة مبهرة تزيل كل آثار القصص السيئة عن الاحتيال والابتزاز و الخداع، و تجعلها تحس بالفخر لزيارة مراكش.
يبدو الخطاب السري بين السياح الغربيين حول مراكش، موجعا في بعض الحالات، لكونه يحفل بانطباعات خاطئة و استنتاجات مخادعة، لكن معرفته مفيدة لمن يهمه مصلحة المدينة، و في مقدمتهم سكانها. فكون السياحة مجالا للرزق، لا ينبغي أن ينسي أن السخاء الأخلاقي و السمعة الجيدة، هي أهم رصيد يمكنه أن يعزز ثقة الأجانب في هذا الحلم الذي يسمى مراكش، و الذي ينبغي أن يظل جميلا و مدهشا حافلا بالتجارب التي تساهم في تعزيز الطابع الأسطوري للمدينة.