تحليلات استراتيجية

ما الذي يتهدد الاقتصاد العالمي خلال عام 2024

نشرت “وحدة استخبارات الإيكونوميست” تقريراً بعنوان: “توقعات المخاطر التي تواجه الاقتصاد العالمي عام 2024″، في 19 أكتوبر 2023، الذي استعرض عدداً من المخاطر التقليدية وغير التقليدية التي من المُرجح أن تؤثر على الاقتصاد العالمي خلال العام المقبل.

تطرق التقرير إلى جملة من المخاطر التقليدية التي يتوقع أن يكون الاقتصاد العالمي بصدد مواجهتها خلال العام المقبل، على اختلاف درجة ترجيحه لكل منها، وحدود تأثيرها؛ وذلك على النحو التالي:

1- استمرار تشديد السياسات النقدية وترجيح حدوث ركود عالمي: منذ أوائل عام 2022، سعت البنوك المركزية الكبرى إلى اتباع سياسات نقدية متشددة من أجل السيطرة على ارتفاع معدلات التضخم، من خلال رفع أسعار الفائدة، وتقليص حجم ميزانياتها العمومية. ومع ظهور اتجاه لخفض معدلات التضخم، فإن من المفترض أن ينتهي تشديد هذه السياسات النقدية، غير أنه ثمة احتمال “متوسط” – وإن كان مرجحاً أن يكون ذا تأثير كبير – بإمكانية تسارع معدل التضخم مرة أخرى في عام 2024، مدفوعاً بالطلب العالمي القوي، وارتفاع أسعار السلع الأساسية الرئيسية، بسبب نقص العرض.

وقد يدفع ذلك البنوك المركزية إلى الاستمرار في تشديد السياسة النقدية خلال العام المقبل، ورفع أسعار الفائدة إلى مستويات من المرجح أن تؤدي إلى تراجع أكبر بكثير في الطلب الاستهلاكي والاستثماري. وفي الأسواق الناشئة، يمكن أن تؤدي أسعار الفائدة المرتفعة إلى انخفاض حاد في قيمة العملة؛ ما يؤدي إلى زيادة معدلات التضخم، ومن ثم الضغط على النمو الاقتصادي. وعلى الجانب الآخر، فإنه في الدول المتقدمة الكبرى، يمكن أن يؤدي تخفيض الميزانيات العمومية للبنوك المركزية إلى عمليات بيع حادة في سوق السندات السيادية، وارتفاع علاوات المخاطر في عام 2024، خاصةً في الاقتصادات الأوروبية المثقلة بالديون، وهو أمر من شأنه أن يتسبب في ركود عالمي.

2- انتكاس جهود الاقتصادات المتقدمة لدعم التحول الأخضر: هو سيناريو متوسط في درجة أرجحيته، لكنه قد يكون ذا تأثير مرتفع؛ ففي حين تقدم الاقتصادات الغربية حوافز سخية للشركات من أجل الاستثمار في تكنولوجيا الطاقة النظيفة، بهدف تعزيز القدرة الصناعية المحلية، ودعم قدرتها التنافسية في مواجهة الصين التي تحظى بالريادة في إنتاج العديد من التقنيات الخضراء، فإن أغلب هذه الحوافز تتضمن متطلبات صارمة بشأن مصادر مدخلاتها، خاصةً في الولايات المتحدة، وقد أثارت هذه المتطلبات الصارمة بالفعل توترات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ومن المرجح أن تؤدي إلى ارتفاع تكاليف المدخلات، ومن ثم ارتفاع أسعار التقنيات الخضراء ذاتها.

وإذا شهدت العلاقات الغربية مع الصين تراجعاً حاداً، فقد تلجأ الاقتصادات الغربية حين ذاك إلى زيادة التعريفات على الواردات الصينية، أو تسريع العمل بالتدابير الخاصة بمكافحة الإغراق والاستيراد؛ ما يزيد نمو الأسعار. وبالتبعية، من المرجح أن ترد الصين بسياسات انتقامية، قد يكون ذلك عن طريق حظر صادرات المواد الخام التي تشكل أهمية بالغة لأجندة التحول الأخضر؛ ما يجعل جهود إزالة الكربون أكثر كلفة بالنسبة إلى الاقتصادات المتقدمة؛ ما قد يدفعها إلى التفكير في العودة مجدداً للاعتماد على التقنيات القائمة على الكربون، والحد من دعم تمويل تحول الطاقة في الأسواق الناشئة، فتتأخر الجداول الزمنية لتحقيق صافي الانبعاثات.

3- بروز الاحتجاجات والإضرابات الصناعية وتراجع الإنتاجية: إن هذا السيناريو محتمل بنسبة كبيرة، لكنه ذو تأثير متوسط؛ حيث قد يتسبب ارتفاع أسعار السلع العالمية، واستمرار اضطرابات سلاسل التوريد، وتراجع قيمة العملات الوطنية مقابل الدولار الأمريكي في بعض الدول، في تأجيج السخط الجماهيري خلال الفترة (2024-2025)؛ نظراً إلى الفجوة القائمة بين معدلات زيادة الأجور وتسارع معدلات التضخم في معظم الدول، بما يحد من القدرة الشرائية للأسر الفقيرة، بما في ذلك قدرتها على شراء السلع الأساسية؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى إثارة اضطرابات اجتماعية، وتوسيع نطاق الاحتجاجات الصغيرة، والإضرابات الصناعية.

وفي سيناريو أكثر تطرفاً، يمكن أن تتطور الاحتجاجات العمالية في الاقتصادات الكبرى إلى إضرابات واسعة النطاق، للمطالبة بزيادة الرواتب بما يتناسب مع معدلات التضخم؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى شل صناعات أو خدمات عامة بأكملها لفترة طويلة، وقد تمتد الاحتجاجات والإضرابات إلى قطاعات أو بلدان أخرى؛ ما يؤثر على النمو العالمي ككل.

4- تآكل الثقة بالسياسات الطويلة الأجل للولايات المتحدة: وهو سيناريو متوسط في درجة أرجحيته وكذلك تأثيره؛ ففي حين أن إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” الديمقراطية، تدعم الحضور الأمريكي في المؤسسات الدولية متعددة الأطراف، وتنخرط بقوة على الساحة الدولية مع الشركاء الأمنيين والاقتصاديين الرئيسيين، فمن المحتمل أن تُسفر انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2024، عن إدارة يقودها الجمهوريون؛ ما قد يؤدي إلى بعض التحولات المفاجئة في السياسة الخارجية الأمريكية بشأن هذه المواقف الدولية.

وفي هذا الصدد، يمكن أن تتسبب الإدارة الجديدة في عرقلة الجهود العالمية للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، وانسحاب واشنطن من تحالفات قائمة منذ فترة طويلة، والتراجع المفاجئ عن الدعم المالي والعسكري لأوكرانيا، بما قد يعزز موقف روسيا في الحرب، ويزعج بعض حلفاء الولايات المتحدة، مثل الاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، وأستراليا، واليابان. وعلى هذا النحو، ليس مستبعداً أن يؤدي تزايد التقلبات في عملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية إلى تآكل الثقة بقدرة البلاد على وضع سياسات طويلة الأجل. وبالتوازي مع ذلك، ربما تحاول الصين الاستفادة من ذلك الوضع، من خلال السعي إلى إقناع شركاء واشنطن بتجنب تبني السياسات الأمريكية المتشددة تجاه الصين.

5- تخلي الصين عن اقتصاد السوق وتبني اقتصاد الدولة: لقد أدى تأخر استجابة الصين لتفشي فيروس كورونا عام 2019، والتباطؤ اللاحق في مرحلة ما بعد الجائحة، إلى زعزعة الثقة بقدرة الحكومة الصينية على توجيه السوق الاقتصادية. وإذا واجهت بكين ركوداً اقتصادياً، فقد تضطر الحكومة إلى تبني سياسات التحفيز الكبير، بدلاً من الاعتماد على آليات أكثر محدوديةً لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد والأسواق. ويمكن أن تشمل التدابير التوسعية، التيسير النقدي، أو إنقاذ شركات التطوير العقاري، أو تخفيف القيود على شراء المساكن في مدن الدرجة الأولى.

وفي هذا السياق، ربما تدفع الانتقادات العامة التي قد تنجم عن هذا النهج، الحزب الشيوعي الصيني الحاكم إلى الحد من دعمه لاقتصاد السوق، والاتجاه نحو الاقتصاد المخطط مركزياً (اقتصاد الدولة)، وقد يشمل ذلك إعادة فرض ضوابط صارمة على أسعار السلع الأساسية، أو تأميم قطاع الإسكان بعد جهود متجددة لتقليص الديون. ومن ثم، قد تتضاءل الإنتاجية الاقتصادية، وتتضاءل أيضاً إمكانات النمو في الصين، وهو أمر من شأنه الحد من آفاق الاقتصاد العالمي.

عقبات استثنائية

استعرض التقرير جملة من المخاطر غير التقليدية التي من المتوقع أن تواجه الاقتصاد العالمي بحلول عام 2024، على اختلاف درجة ترجيح كل منها؛ وذلك على النحو التالي:

تسبب تغير المناخ في تعطيل وإجهاد سلاسل التوريد العالمية: تشير نماذج تغير المناخ إلى زيادة متوقعة في تواتر الظواهر المناخية المتطرفة، وفي حين تتزايد احتمالية حدوث هذا السيناريو، فإن درجة تأثيره ستكون متوسطة. ورغم أنه حتى الآن كان حدوث مثل هذه الظواهر غير متزامن، وفي أجزاء مختلفة من العالم، فإنه من المرجح أن تبدأ هذه الظواهر في الحدوث بوتيرة متسارعة ومتزامنة؛ ما قد يؤثر سلباً على خطوط الإنتاج لبعض الصناعات والمنتجات، كالمحاصيل الزراعية، ويؤدي إلى نقص حاد بها، ومن ثم يتسبب في إجهاد وعرقلة سلاسل التوريد العالمية.

وكما أضرت موجات الجفاف الشديدة وموجات الحر القاسية بغلات المحاصيل، فمن شأن بعض العوامل الجيوسياسية، كانهيار صفقة تصدير الحبوب بين روسيا وأوكرانيا على سبيل المثال، أن تفرض أيضاً ضغوطاً تشغيلية على الصناعات المعتمدة على السلع الأساسية.

 انقطاع صناعة أشباه الموصلات عن سلسلة التوريد العالمية: رغم تراجع رجحان هذا السيناريو، فإنه سينطوي على تأثير كبير حال حدوثه، وجوهره هو احتمالية اندلاع صراع مباشر بين الصين وتايوان في عام 2024؛ وذلك في ضوء التوترات المتزايدة لدى جميع الأطراف المعنية بشكل مباشر بالصراع، باعتبار أن زيادة التدريبات العسكرية الصينية بالقرب من تايوان قد يزيد من خطر حدوث سوء تقدير؛ ما قد يتطور لاحقاً إلى صراع أوسع نطاقاً. كذلك فإن احتمال إعلان استقلال تايوان رسمياً، من شأنه أيضاً أن يُعجل بالهجوم الصيني.

وبغض النظر عن الأسباب التي ستُسهم في تأجيجه، فإن صراعاً واسع النطاق كهذا – وربما يتضمن مشاركة عسكرية من قِبَل شركاء الولايات المتحدة في المنطقة، كأستراليا وكوريا الجنوبية واليابان – قد يؤثر بشكل كبير على اقتصاد تايوان، وربما يتسبب في انقطاع صناعة أشباه الموصلات “مؤقتاً” عن سلسلة التوريد العالمية؛ هذا فضلاً عن التداعيات العالمية الأكبر للحرب، التي قد تدفع الاتحاد الأوروبي وغيره من الحكومات المتحالفة مع واشنطن إلى فرض قيود تجارية واستثمارية على الصين. وفي المقابل، يمكن أن ترد بكين بفرض إجراءات انتقامية، بما قد يضطر الأسواق والشركات الثالثة في المناطق الأخرى حول العالم إلى الاختيار بين الصين والاقتصادات الغربية.

 تقويض تقنيات الذكاء الاصطناعي الثقة بالأنظمة العالمية: لقد بدأت الشركات والحكومات العالمية بسرعة، في اختبار ودمج تقنيات الذكاء الاصطناعي (AI)، بما يعمل على تعزيز القدرات البشرية بدلاً من استبدالها، ويوفر فرصة للشركات لتحسين الإنتاجية. ومع ذلك، فإن الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع، سيزيد من مخاطر انتشار حملات التضليل، وتأجيج الشكوك الحالية لدى بعض المواطنين تجاه الحكومات في السنوات المقبلة.

هذا ومن المرجح أن يكون للذكاء الاصطناعي دور في التأثير على نتيجة الانتخابات الكبرى المقرر إجراؤها حول العالم في عام 2024، لا سيما في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والهند، وتايوان، وانتخابات برلمان الاتحاد الأوروبي، ومن ثم، تقويض ثقة الناخبين بالأنظمة السياسية العالمية على نطاق أوسع.

بروز تأثيرات ممتدة للصراع الراهن بين إسرائيل وحركة حماس: رغم كون هذا السيناريو أقل ترجيحاً، فإنه قد ينطوي على تأثير كبير؛ فإذا تطور الصراع العسكري بين إسرائيل وحماس، وقامت إسرائيل باحتلال غزة، فقد ينخرط فاعلون إقليميون في الصراع، على غرار إيران ووكلائها في المنطقة – وإن كان هذا احتمالاً ضعيفاً – التي قد تستخدم نفوذها على وكلائها لإطالة أمد الصراع وتوسيع نطاقه. ومن شأن تحقق إسرائيل من التورط الإيراني في الصراع، أن يدفعها إلى اتخاذ إجراءات مضادة قد تحول الصراع إلى صراع إقليمي أوسع، ذي تأثير اقتصادي وجيوسياسي ممتد.

وفي سوق نفط شحيحة بالفعل، سيكون لتعطيل إنتاج النفط وشحنه من الشرق الأوسط، تأثير تصاعدي كبير على أسعار النفط العالمية؛ ما يزيد من ضغوط تكاليف المعيشة، خاصةً بالنسبة للاقتصادات الناشئة المستوردة للنفط، لا سيما أن الصراع الإقليمي في الشرق الأوسط قد يتأجج مع انخراط قوى دولية خارجية، على غرار الدور المحتمل للولايات المتحدة وحلفائها من ناحية، الذي قد يقابله دور مناظر من جانب الصين وروسيا من ناحية أخرى.

تحول الحرب الأوكرانية الروسية إلى مواجهة عالمية أوسع نطاقاً: رغم ضعف رجحان هذا السيناريو، فإنه قد يكون ذا تأثير كبير حال حدوثه؛ حيث أثارت التوترات المتزايدة في العلاقات بين الدول الغربية وروسيا العديد من المخاطر العسكرية، بما في ذلك الهجوم السيبراني على البنية التحتية الحيوية. ومع تزايد مخاطر سوء التقدير على حدود الناتو مع روسيا، واتجاه الحلفاء الغربيين إلى تشكيل جبهة موحدة ضد موسكو، قد تلجأ روسيا في المقابل إلى إقناع الدول الأخرى الحليفة لها، خاصة الصين وإيران، بالانضمام إلى المواجهة. ولا شك أن تأجج مثل هذا الصراع سيكون مدمراً بالنسبة لتبعاته العالمية، وربما يؤدي إلى انزلاق الاقتصاد العالمي نحو ركود عميق، مع ما يترتب على ذلك من عواقب إنسانية وخيمة، ووفيات متصاعدة على نطاق واسع، على أن المخاطر قد تتزايد سوءاً حال اتخاذ الصراع طابعاً نووياً، بما قد ينطوي على عواقب كارثية.

المصدر:

.Risk outlook 2024, The Economist Intelligence Unit (EIU), October 19, 2023

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى