مارك توين…سخرية متنقلة من طنجة إلى القدس
لوسات أنفو: إلياس أبوالرجاء
“إن السيد الحقيقي للإنسان هو المصادفة”، هي قولة لمارك توين، وكأنه اختارها عنوانا للقائي به، فقد قادتني الصدفة لأحمل سيرته الذاتية كهدية لصديق عزيز دونما معرفة مسبقة بالكاتب، أما المصادفة الثانية فكانت عندما بعث لي صديق آخر بصورة لقولة مارك توين، افتتح بها المخرج فيلم The Equalizer، بعدما لاحظ أني كنت أحمل كتابا له في أحد لقاءاتنا، ومن هنا بدأت قصتي مع كاتب، أولى إنجازاته كانت لحظة ولادته، حيث أدت إلى زيادة عدد السكان في قريته بنسبة واحد في المائة، إذ كان تعداد سكانها مائة بالضبط. وهي مساهمة يرى مارك توين أنها تفوق ما كان يمكن أن يسهم به كثير من أفضل الرجال في التاريخ لقراهم ومدنهم.
ولد مارك توين في الثلاثين من نونبر عام 1835 بقرية فلوريدا، ثم انتقل إلى هانيبال التي تقع على ضفاف نهر المسيسيبي عام 1939، بعدما عين والده جون كليمانس محاميا هناك. قد تتساءلون الآن عن السبب وراء اختلاف الأسماء بينه وبين والده، مارك توين ليس سوى اسم مستعار اختاره لنفسه ليوقع به الرسائل التي كان ينشرها بإحدى الصحف في نيفادا عام 1963، والاسم يعني “قدمان”، حيث كان النوتي في المسيسيبي يطلق هاتين الكلمتين إعلانا منه عن عمق الماء. بينما اسمه الحقيقي هو صمويل كليمانس.
توفي والده وهو في الثانية عشر من عمره، ولم يترك شيئا لأنه خسر كل ما يملكه قبل وفاته. ترك مارك المدرسة مباشرة بعد وفاة والده، وأرسل للتدرب على الطباعة في مقر صحيفة “هانيبال كورير”، لكنه سرعان ما غادرها بعدما اشترى شقيقه أوريون صحيفة أسبوعية بهانيبال، ليعمل عنده مقابل ثلاثة دولارات ونصف دولار في الأسبوع. كان مارك يقتنص فرصة غياب أخيه لينشر في الجريدة ما كان يكتب من تعليقات لاذعة على الحوادث المحلية، ورغم ما يتعرض له من تأنيب من قبل أخيه، إلا أن أغلب القراء لا يشترون الجريدة سوى للاطلاع على ما يكتبه مارك، الذي سرعان ما أحس بحاجته إلى الحرية ونزوعه للتجوال، فقرر الفرار في ليلة من الليالي، ليبدأ رحلته في مشاهدة العالم على حد تعبيره. تنقل بين مختلف المدن الأمريكية كما تنقل بين وظائف عدة، فاشتغل نوتيا في قارب بخاري بنهر المسيسيبي وجنديا وعاملا في المناجم، ثم صحفيا.
ألف مارك توين العديد من القصص التي اختار لأغلبها أسماء غريبة، كان أولها “ضفدع مقاطعة كالافيراس النطاط الشهير وقصص أخرى”، ونشرت في العديد من المجلات والصحف عام 1865، ليجد اسمه يوضع بجانب كبار الأدب العالمي. وتوالت بعد ذلك إصداراته، فبدأ في إلقاء الكثير من المحاضرات، كما زار عددا من الدول الأوروبية وفلسطين كذلك، ليضع تجربته خلال هذه الرحلات في مؤلفين هما “أبرار في الخارج” و”مكابدة شظف العيش” الذي صدر عام 1872، حيث يروي فيهما قصة رحلاته بين الشرق والغرب.
تزوج عام 1870 من أوليفيا لانجدون، وهي سيدة مثقفة وأنيقة وذكية، كان لها التأثير الواضح في زوجها، حيث شهدت فترة زواجهما الأولى غزارة في إصدارات مارك، بين “مغامرات توم سوير عام 1876، و”الحياة على ضفاف المسيسيبي” عام 1883، و “مغامرات هكلبيري فين عام 1885″، التي وصفت بأنها الرواية الأمريكية العظيمة، فهي التي قال عنها إرنست همنغواي “يندرج الأدب الأميركي الحديث من كتاب واحد يسمى هكلبري فين، فهو أفضل ما لدينا من كتب، وتنطلق منه أعمال السرد الروائي الأميركي، ولم يبزّه في هذا أحد”.
مارك توين وبول أوستر…الكتابة من أجل لقمة العيش
جنى مارك توين ثروة هائلة من كتبه، لكنه أضاع كل ذلك تقريبا في استثمارات فاشلة، حيث أنفق في الاستثمار على آلة تنضيد أوتوماتيكية حوالي 200000 دولار حسب بعض التقديرات، ويقال إنه أتيحت له الفرصة من أجل الاستثمار في اختراع جديد وهو الهاتف، ولكنه رفض مبتكره (ألكسندر جراهام بيل). حل به الإفلاس عام 1890، فشرع في القيام بمجموعة من المحاضرات حول العالم، بغية تصريف ديونه، وهو ما دفعه كذلك لكتابة سيرته الذاتية، إذ يقول مارك توين أنه كتب تلك السيرة من أجل لقمة العيش، وهو الأمر الذي يذكرنا بما كتبه مواطنه بول أوستر في آخر جملة من سيرته الذاتية “تباريخ العيش سيرة الشباب” حيث يقول:” ها هي الكيفية التي نؤلف بها الكتب من أجل الحصول على المال. ها هي الطريقة التي نباع بها”.
توفي مارك توين في الحادي والعشرين من أبريل عام 1910، ورحل من كان يسمى بالعبقري الشعبي لزمانه ومكانه، بعدما توالت عليه المصائب واستبد به الحزن، حيث فقد ابنته الكبرى، ومرضت ابنته الصغرى، ووقعت زوجته فريسة لمرض مزمن ثم فارقت الحياة، وهي التي قال عنها توين إنها أنبل وأرق وأجمل مخلوق عرفه في حياته، فكانت وفاتها مأساة حياته الكبرى.
أبو الأدب الأمريكي
حظيت كتابات مارك توين عن مغامرات الصبيان والمراهقين، بشهرة عالمية لا يضاهيه فيها كاتب عالمي آخر، وترجمت أعماله إلى معظم اللغات ويتميز أدبه بالروح الفكاهية الساخرة، الروائي ويليام فوكنز وصفه ب “أبو الأدب الأمريكي”، كما قال عنه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما: “منذ أن انكببت على قراءة أعمال مارك توين، صار فهمي لأميركا أفضل من ذي قبل”.
وقد ارتقى بفن استخدام اللغة الدارجة إلى الحد الذي جعل ظهور المفردات العامية أمرا عاديا ومتوقعا، حيث صرح بنفسه ” ليس هناك ما يسمى بلغة الملكة”.
مارك توين وغربة طنجة
في كتابه “أبرار في الغربة” وهو نص رحلة حج إلى الأراضي المقدسة عام 1867، نظمتها “جمعية الأصدقاء الدينية” المتشددة المعروفة بالاسم “كويكرز”، نالت مدينة طنجة حظها من كتابات مارك توين، الذي زارها خلال قدومه من جبل طارق في الثلاثين من يونيو عام 1867. يقول محمد شكري في كتابه “بول بولز وعزلة طنجة” عندما زار مارك توين طنجة عام 1867، لم يبق فيها أكثر من 36 ساعة.” والأمر منطقي جدا إذا تمعنا في وصف مارك لطنجة كما ورد في كتابه “أبرار في الغربة” حيث يقول: “طنجة مثيرة للاهتمام في يوم واحد، لكن بعد ذلك فهي سجن مرهق”.
فمارك أعجب بالمدينة التي وجدها جنة كما كتب لأصدقائه، وقد علق عليها في كتابه «الغريب البريء» بما يلي: «طنجة هي المكان الذي كنا نرغب فيه من قديم… كنا نريد شيئا كاملا ومختلفا تماما»، ويضيف شكري: “لكن سرعان مغادرته لها بقيت مبهمة حتى اليوم”.
استرسل مارك في وصف مدينة طنجة في “أبرار في الغربة”، ولم يستثن من ذلك لا زخرفاتها ولا طرقها ولا أثاثها كذلك. يصف مارك تنوع سكان طنجة فيقول: “ثمة كثير من بدو الصحراء الأقوياء هنا، هؤلاء الذين يفتخرون بتاريخ يصل إلى القرون الوسطى، وهناك اليهود الذين فر أسلافهم إلى هذا المكان منذ قرون عديدة، وهنا السمر الريفيون، المشهورون بالقسوة، والقادمون من الجبال، وهناك الزنوج القادمون من أصول لا تشوبها شائبة، وأيضاً الدراويش، والكثير من العرب من كافة المشارب؛ ممن يحملون ملامح غريبة لافتة للنظر”.
قام مارك توين بزيارة القنصل الأمريكي بطنجة، فلاحظ وجود مجموعة من ألعاب التسلية في غرفة الاستقبال، توقع أن الأمر يشير إلى الشعور بالوحدة، وتأكد من ذلك حين علم أن القنصل هو العائلة الأمريكية الواحدة التي تعيش بطنجة، سخر من الأمر قائلا: ” أود أن أوصي بشدة حكومة الولايات المتحدة أنه عندما يرتكب رجل ما جريمة شنيعة لدرجة أن القانون لا ينص على عقوبة مناسبة لها، فليجعلوه قنصلًا عامًا في طنجة”.
يختتم مارك كلامه عن طنجة بقوله: ” يسعدني أن أرى طنجة، ثاني أقدم مدينة في العالم. لكنني على استعداد لتوديعها، على ما أعتقد”.
السخرية حتى الموت
لم تكن السخرية تظهر في كتاباته فقط، بل هي طريقة عيش اختارها مارك، حيث يروي في سيرته الذاتية، أن مرض الحصبة تفشى في قريته عام 1945، وكانت والدته شديدة القلق عليه، ولكن الأمر لم يعجبه، إذ جرد الخوف من الموت حياته من كل بهجة ومتعة، فقرر وضع حد لذلك بطريقته، حين تسلل إلى بيت أحد المصابين وتقاسم معه السرير، حتى تنتقل إليه العدوى، فكان له ما أراد، وأصيب إصابة قوية بالحصبة وضعته على أعتاب الموت، لكنه لم يكن يهتم بالأمر، بل كان مستمتعا، حيث علق قائلا: ” لم أجد في حياتي بعد ذلك على الإطلاق متعة توازي تلك المتعة التي عشتها في تجربتي مع الموت”.
وكان الهزل دأبه في كل اعماله وتصرفاته. دخل مرةً مجلس النواب الامريكي بثياب بيضاء كلها. فاستغرب النواب ذلك لأنهم يحضرون بثياب سوداء دائماً وأخبروه بذلك،خأ فقال عندي كثير من هذه الثياب البيضاء وانا أفضل الالوان الزاهية على الألوان القاتمة، كما أشار إلى الأمر في سيرته الذاتية قائلا: “أفضل أن أكون نظيف الملابس في عالم قذر”.
ونظم مرة شعرا خاليا من الهزل ولم يطبعه لأنه كله جد. ودعي للخطابة في جامعة للسيدات فلما أتم خطبته قال لهن لقد نظمت شعرا خاليا من الهزل وأريد ان أتلوه على مسامعكن، فصفقن له وضحكن، فقال صدقنني إنه خال من الهزل وليس فيه شيء يضحك فزدن ضحكا فطوى الشعر ووضعه في جيبه قائلاً “إن كنتن لا تصدقنني فلا داعي لقراءته”، فاغربن في الضحك حتى كاد يغمى عليهن.
مواقف متقلبة
“وكان يغير اتجاهاته السياسية أيضا، فاليوم مؤيد للثورة على إنجلترا، وفي الأسبوع المقبل تجده ديمقراطيا، وفي الأسبوع الذي يليه، يتبنى أي جديد في السوق السياسية.”
هكذا وصف مارك توين في سيرته الذاتية، شقيقه أوريون، وصف يمكن إسقاطه على مارك توين نفسه، فمواقفه متقلبة ومتناقضة أحيانا، فعلى الرغم من أنه كان إمبرياليًا أمريكيًا متحمسًا في البداية، وتحدث بقوة لصالح المصالح الأمريكية في جزر هاواي، إلا أنه أصبح فيما بعد نائبًا لرئيس الرابطة الأمريكية المناهضة للإمبريالية من عام 1901 حتى وفاته في عام 1910، وعارض بقوة الحرب الفلبينية الأمريكية.
نظرة استشراقية طافحة بالسخرية
لاقى الجزء الذي خصصه مارك توين لفلسطين في كتابه “الأبرار في الخارج” والذي ترجمه عبد الباقي بركات عام 2013 إلى اللغة العربية واختار له عنوان “رحلة الحجاج إلى الأرض المقدسة”، لاقى انتقادات لاذعة، بخصوص الطريقة الساخرة التي كتب بها الكتاب والتي قيل إنها تنم عن التعالي والازدراء، وكذلك الطريقة التي صور بها فلسطين والقدس، حيث يصف الأخيرة بأنها مدينة ” تثير الشّجن والأسى والوحشة. لم تعد لديّ الرغبة في الحياة في أورشليم”، (ص 506).
يستمر مارك في ذم فلسطين قائلا: “فلسطين هي البؤس والبشاعة، فلماذا يتوجب على النقيض؟ أيمكن للعنة الرب أن تجمّل بلداً؟ لم تعد فلسطين اليوم شغل العالم الشّاغل، إنها مقدسة في الشعر والرواية الدينية القديمة إنها أرض الأحلام”، (ص 548).
عكست أفكار توين بعضاً من التصورات التي يحملها الغرب اتجاه فلسطين، حيث يقول: ” لقد كانت أفكاري جامحة كثيراً. لقد ارتبطت الكلمة فلسطين، في ذهني، على الدوام، بصورة غامضة لبلد كبير بحجم الولايات المتحدة. لا أعرف لماذا، ولكن هكذا بدا لي الأمر. وأغلب الظن أن سبب ذلك كان، باعتقادي، أنني لم أتخيل أن بلداً صغيراً يمكن أن يكون له مثل هذا التاريخ العريق”. غير أنه يستدرك، فوراً، لينقلب إلى التهكم الساخر: “لم تتغير فلسطين، منذ تلك الأيام، لا في أخلاقها ولا عاداتها ولا عمارتها أو شعبها”.
هذا ونشرت صحيفة “هآرتس” سابقا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حمل معه فقرتين من هذا الكتاب سنة ،2009 لعرضها أمام الرئيس الأميركي آنذاك، باراك أوباما، كي يقنعه بزيف الحق الفلسطيني في الأرض المحتلة، باعتبار أن تلك البلاد كانت مهجورة وقتها.
فيما يرد المدافعون عن القضية الفلسطينية على هذا الأمر بأن فلسطين تشتهر بكثرة القرى والبلدات والتجمعات الزراعية وبالتالي من الطبيعي أن يصف مارك توين تلك المناطق بأنها مهجورة، كما أن عدد الفلسطينيين قبل النكبة بلغ مليوناً ونصف المليون نسمة.