فن

مارتن ايدين: بناة السجون لا يعبرون عن أنفسهم كبناة للحرية

 

لوسات أنفو: محسن برهمي 

“أفضل أن أحيا متشردا على أن أموت عبدا” بهذه الجملة كان يقف مارتن ايدين في الفيلم الإيطالي “مارتن إيدين” (Martin Eden) الذي أنتج عام 2019، وعرض في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية السينمائي في دورته الـ 72 عن رواية بنفس الاسم للكاتب الأمريكي “جاك لندن” وسيناريو وإخراج “بيترو مارسيللو”. صدا منيعا أمام البورجوازية التي كانت تجعل من الفرد عبدا.

المرء دوما لديه سيده:

بشاشة سوداء وألوان حمراء بين الفينة والأخرى. يبتدأ فلمنا كأن المخرج يقول لنا بطريقة غير مباشرة أن الأسوأ قادم وأن أحداث الفيلم سيغلب عليها طابع الاشتراكية والحزن والألم والفوضوية كذلك. بمشهد نرى فيه “مارتن إيدين” الممثل لوكا مارينيلي في الزمن الحاضر للفيلم، وهو مُمسك بجهاز التسجيل يسجل فيه مذكراته، ثم ننتقل للمشهد التالي ونرى فيه “مارتن” شابا وهو على متن إحدى السفن في عرض البحر، لينتقل السرد نحو الماضي، فقد عَمد السيناريو إلى جعل التاريخ مجهولا، فالأفكار التي سيناقشها الفيلم أكبر من حصرها في إطار زمني معين، بإنقاذ الطفل أرثورو بعد أن اوسعه حارس الميناء ضربا سيدخل مارتن ايدين عالم البورجوازيين بعد الدخول الى قصر العائلة ، حيث ستركز الكاميرا على أعين مارتن الذي يبدو مندهشا بتصميمه قبل أن يرى حب حياته إلينا البورجوازية والمثقفة الصغيرة التي ستقلب حياة مارتن رأسا على عقب، لينتقل بذلك الى شقة أو ان صح القول غرفته التي يكتريها من زوج أخته الذي يرفض فكرة مارتن الكاتب و يشجعه على مارتن السباك أو البحار موضحا الفكرة ، أن الكتب لن تشتري له الأكل .ليصبح هذا المشهد هو حجر الأساس، في المقارنة التي يُجريها السيناريو بين العالمين الذين تدور الأحداث؛ بين عالم الأثرياء التي تمثله الينا وعائلتها وكذلك بإتقانها لغة الحب والرومانسية “الفرنسية” ، وعالم الفقراء الذي يمثله مارتن كونه انسان غير متعلم و عبثي.

يصور لنا الفيلم بدايات الحركات الاحتجاجية العمالية في المدن الإيطالية، تلك الحركات التي بدأت من القرن الماضي وتبلورت مع بزوغ الحزب الشيوعي الإيطالي الذي يأخذ منه مارتن موقفا محايدا الذي سيتغير بعدما التقى صدفة مع روس بريسندن” (الممثل كارلو كيشي) الذي سيترك بصمته الخاصة في حياة مارتن الذي  سيصبح في نهاية الفيلم أحد أكبر ممولي الاشتراكية ماديا رغم عدم الاقتناع بها، فرؤيته نحو المنهجين الفكريين متساوية، إذ لا فرق بينهما إذ في أحد المشاهد سنرى مارتن في إحدى تجمعات الاشتراكيين يقول:” المرء دوما لديه سيده، وهذا السيد رجل آخر، هذا ما أراه فيكم جميعا عبيد”.

لا وجود لفرصة ثانية في الحب:

بكتاب لبودلير ستنشئ علاقة حب بين الين ومارتن الذي تخلى عن فتاة تحبه ومن طبقته، ليغامر في علاقة غير ممكنة أو مستحيلة وذلك راجع أولا للفوارق الاجتماعية التي بينهما وثانيا الى رفض الأم لهذه العلاقة من بدايتها. علاقة الحب بين “مارتن” وإلينا” بشكل جذاب يتسم برومانسية الهادئة التي تنساب إلى المتفرج برقة، حيث نرى أن المخرج يركز على لقطات مقربة للوجه لدلالة على حالتهما معا، لكن الاختلاف في الأفكار سيعجل بنهاية هذه العلاقة بعد حوار ساخن بين مارتن والقاضي حول البورجوازية والاشتراكية. ليعود بذلك الى حبيبته السابقة مارغريتا التي ستظل معه وتؤمن بقدراته الكتابية عكس الينا التي غادرت ورفضت التحدث أو الاتقاء به مرة أخرى، بعد النجاح الذي حققته كتب مارتن وتحسن حالته المادية سيرى المتفرج أن الزواج تجمعه بمارغريت ليس عن حب، حيث أن في أحد المشاهد سيقول مارتن: أنت كالألم يا مارغريتا، حبك مؤلم. إذا سيقول المشاهد مع نفسه أنه لا يزال يكن حبا لحبيبته الأولى، فكما يقول أبو تمام “ما الحب الا للحبيب الأول”. لكن يرفض مارتن احياء علاقته مع الينا التي أتت اليه تشجيعا من أمها التي كانت رافضة تماما علاقتهما. مستخلصين فكرة من مارتن ايدين مفادها لا وجود لفرصة ثانية في الحب.

أريد أن أصبح واحدة من تلك العيون التي ترى العالم من خلالها:

أريد أن أصبح واحدة من تلك العيون التي ترى العالم من خلالها هكذا أعرب مارتن في حديثه مع الينا عن رغبته في أن يصبح كاتبا. متسلحا بكتب سبنسر، وتعليم ذاتي، و قرار تخليه عن مهنته كبحار، سيبدأ مارتن مسيرته الأدبية بنشر قصص قصيرة في الصحف المحلية، وسرعان ما لفت انتباه القراء بأسلوبه السردي المميز وقدرته على صياغة حكايات تلامس أعماقهم. ومع مرور الوقت، تطور إيدين ككاتب وأصبح له قاعدة جماهيرية واسعة من المحبين والمعجبين.

ما ميز إيدين ككاتب هو قدرته على تقديم قصص تأسر العقول وتلامس القلوب. يجسد في كتاباته تجارب البشرية والصراعات الداخلية التي يواجهها الأفراد في حياتهم اليومية. ومن خلال تصويره الواقع بأسلوبه الخاص، يتمكن من إلهام القراء وتحفيزهم للتفكير في مسائل مهمة وقضايا عميقة. مطبقا قولة الكاتب ، وكاتب السيناريو نيكولاس سباركس “أنا لا أكتب الخيال ، أنا أكتب الحقيقة. كما أن رواياتي لها جذور في المآسي اليونانية وعلى هذا النحو ، يجب أن تكون هناك مأساة”.

لكن قبل ذلك يجب الإشارة الى استقراره في الريف عند ماريا والكتابة من هناك على الحياة الريفية ومعاناة الفرد الإيطالي، كما ساهم في تدريس وتعليم أطفال القرية. “لماذا أخجل من كتابتي على هؤلاء” أو “بيع الوهم للبؤساء” بهذه العبارة أجاب مارتن الينا بأنه لن يغير أسلوبه في الكتابة، وأن الاشتراكية هي التي ستعطي معنى للكتابة، كما قال سبنسر. بعدما قبلت مجلة لا أوريكا نشر مقالة بعنوان “المرتد” مقابل تعويض قيمته 20.000ليرة، سيتحرر مارتن من قيود الحياة، ستنفجر كتباته لتتعاقد معه بعد ذلك إحدى دور النشر، ليتحول بعد ذلك من شخص محب للحياة، الى انسان كئيب ومدمن يتمنى العودة الى مارتن القديم، هذا ما تجلى في مشهد الشباك إذ ينظر الى نفسه وفي يده كتابه المفضل.

بعد النجاح الباهر، يتلقى مارتن دعوة للذهاب الى الولايات المتحدة الأمريكية الأمر الذي رفضه في البداية، لكن بسبب ضغط الناشر له بسبب العقود وكذلك رغبته في نقل معركته ضد الفكر الإمبريالي من إيطاليا التي قد بدأت بها الحرب كما يظهر جليا في احدى المشاهد الأخيرة للفيلم، إلى منطقة أكبر “الغرب”. مما يدل على أنها بداية للحرب الباردة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى