لعبة الملاك: الحقيقة العاطفية لكارلوس زافون
لوسات أنفو؛ عادل أيت واعزيز
حين يقول رولان بارت بأن السرد متتالية لا نهائية، يفرض الحضور في الزمان والمكان، وفي كل التجمعات البشرية، نجد رواية لعبة الملاك، قطعة ملحمية من رباعية أدبية للأديب الإسباني كارلوس زافون؛ كينونة تختزل الزمان والمكان وتختصر وجودا بوعي مدرك. هذا الزمن الذي طالما وصفه بول ريكو على أنه لا يمكن أن يكون إلا محكيا.
في لعبة الملاك لاوجود لزمن يخرج عن تجربة إنسانية، عبَّر عنها زافون من خلال فعل ورد فعل، عبْر شخصية داڤيد مارتين، الذات التي تحكي عن حياتها داخل النص، والتي توجد في انسجامها ووحدتها، بتبايناتها وتمزقاتها، قبل أن تعبِّر عن نفسها داخل اللغة.
لم تمنع أوضاع الحرب الأهلية الإسبانية، خلال عشرينيات القرن الماضي، كارلوس زافون بإعادة بناء معنى العلاقات الإنسانية، وحياكة ثوب جديد يقارع البرد القارس في برشلونة، وسماجة الحياة في استقرارنا وترحالنا للعوالم الأخرى. فها هوا ذا داڤيد مارتين يحمل معه حفنة مفقودة من الآمال العظيمة، ليبدأ حياته في الفصل الأول من الرواية التي تمتد لحوالي ست مائة وثمانون صفحة، بعنوان؛ ” مدينة الملاعين “، وهو في السابعة عشر من عمره، شاب موهوب واعد يكتب أحسن مما يتكلم، فيشرع في تجربته المهنية مع جريدة صوت الصناعة. وينال دفعات تحفيزية من پيدرو ڤيدال، أحد أقلامها البارزة. وحينا، متلقيا نظرات فتاكة من طرف الموظفين الآخرين بها.
أما في ” النور الأبدي”، الفصل الثاني من الرواية، حيث تصفق جدران برشلونة بشدة، وتتواصل علاقة مارتين بشخصية ظلت تسكن الرواية إلى أن فارقت أنفاسها في صفحاتها؛ أندرياس كوريلي، ناشر ثري يلجأ لداڤيد عبر مراسلات ولقاءات مُدلَهِمَّة، بصناعة دين جديد! يرغم الناس على الحياة أو الموت، على القتل والهلاك، وحينا على التضحية والتفاني والفذاء، مصِراً على مارتين بمائة ألف فرنك لتأليف حكاية تتجاوز الخيال لتكون حقيقة ساطعة يسلِّم بها الجميع.
تتوالى الأحداث وتتسلل الشخصيات لتبحث عن نفسها، وتقتص لجهلها، ليبحر القارئ في رحلة إثراء روحي عبر نوائب الدهر ولذة الإكتشاف، ويرتحل ويتأمل في مناظر المدينة وسراب أضوائها وشوارعها وضبابها وكاتدرائياتها ومبانيها وأبراجها وقصورها العريضة المحبوكة في متاهات الظلال، ويضع رفقة مارتين أرجله فوق غروبها القرمزي وهو يزحف فوقها.
فيجعلنا نكره إيرينا سابينو، الوقحة التي أرادت أن تكبح جماح الحكاية، وكريستينا عاشقة مارتين وخلاصه الأخير ، كتلة ثقيلة من الخذلان، والشبحية التي فشلت فشلين؛ الأول في إخافة الجميع، والثاني في انتشال مارتين. أما عن إيزابيلا، الفتاة الصغيرة الفارَّة من والديها إلى مارتين ليعلمها الكتابة، فكانت لوحا من الغرابة والريبة والبراءة، الصديق الذي لانرخي له حقا رأسنا على كتفه. والآخر السيد سيمبيري، النور النحاسي، بائع الكتب ومعيرها والمحافظ عليها أمام طيِّ النسيان، العزيز على مارتين والذي يؤمن دائما بأن الله يسكن أيضا في الكتب، وأن استمرار الحياة مضمون طالما هناك إنسان واحد قادر على قراءة الكتب.
في الفصل الأخير، الذي يحمل اسم ” لعبة الملاك”، نتعقب سيل حبر زافون. في لعبة الملاك، تحاصرنا رؤية مانحْتَجُّ على عدم رؤيته في أنفسنا، إنها عملة نقدية تسقط في بئر لا قرار لها، فنسمع صداها داخل ذواتنا، هي صوت مشرّخ وتكشيرة من الصدمات والفرح، شكلت صفحاتها قطعة جسد من الكاتب. ونبتلع خلالها ريقا بين ثناياها، لكنها تأشيرة من مقبرة الكتب المنسية – تأشيرة لكل روح هائم بالإيمان يرغب في الإيمان به – الإحالة والإيماءة التي تحفظ دفق حياة الكـِتاب والمؤلِفين، التي تركناها في الجزء الأول من الرباعية وستظل تأتينا دائما في مقبرة الكتب المنسية، حيث كل كتاب يقول زافون على لسان زوارها؛ «يعيش فيه روح من ألفه وأرواح من قرؤوه وعاشوا وحلموا بفضله».
لعبة الملاك، قصة زافونية تحكي عن كتاب “ما” ، يُصِر دوما على انتقاء صاحبه ليحيا أحداثا سطرها الكاتب بهوس عن الإيمان الذي اختُلف معناه من شخص لآخر، وعن الوجود في سبيل الرغبة في الحياة والموت، ويجعلنا القاتلون داخل عقل داڤيد مارتين نحتضن أفكار الخطر والدماء والجنون. لكن زافون أبَى إلا أن يجعلها جسرا يعبُره مارتين، السيرورة البشرية والإيمان بما نصدق، والشخصية التي تدعونا وتلح علينا لامتهان قياس المساحات.
ونحن نغمض عين الصحفة الأخيرة التي أحيَت فِينا “ظل الريح”، نجد لوعة أخرى لجزء ثالث يقذف بنا من جديد نحو الاشتباكات والمتعة التي تستنزف طاقتنا في قراءة “سجين السماء”.