عبد العزيز بومسهولي/فيلسوف مغربي
تنبيه المحرر: ألقى الفيلسوف عبد العزيز بومسهولي هذه الشهادة في احتفالية ” محمد الشارخ من الكويت إلى العالمية” التي أقيمت بالعاصمة الكويت بمقر جمعية الخريجين في 22 أكتوبر من السنة الجارية، بحضور شخصيات من عوالم الفكر والثقافة و الاقتصاد و البحث العلمي و الدبولوماسية من بلدان مختلفة من العالم العربي.
نص الشهادة
ما الذي يمكن لي أن احتفظ به من صداقة رجل عظيم، كما هو شأن صداقة رجل استثنائي من طينة أصيلة نادرةكمحمد عبد الرحمن عثمان الشارخ 1942- 6 مارس 2024 ؟
يبدو أن هذا السؤال يحيل على سؤال أعظم، لعله مرتبط بالتاريخ، أكثر من ارتباطه بما نحتفظ به كأفراد إزاء شخصيات تملك من الاقتدار، ما يجعلها تغير مجرى التاريخ؟ إذ أن العلاقات البيإنسانية تظل عابرة، أما ما ينشأ عنها من تأسيس لنمط الكينونة، فيظل دوما محتفظا بما يمكن أن يقوله للمستقبل. ذلكم هو السؤال الأهم، لأننا ونحن نستحضر ذكرى رجل عظيم، فإننا لا نكتفي باسترجاع صور الذاكرة وأشكال الحضور، بل ننفتح على ذلك الأثر الحي الذي بصم شكل وجودنا وعلاقتنا، خاصة عندما يكون هذا الأثر الحي داخلا في صلب بيت كينونة أمة أو شعب، أعني في فتح أفق يجلب إمكانيات هائلة للتعبير داخل لغة ما. وهنا بالضبط يكمن الإنجاز الفريد للرائد الكبير محمد عبد الرحمن الشارخ، وهذا ما سأعود للحديث عنه لاحقا.
شخصيا كنت محظوظا جدا، بالتعرف على هذا الرجل العظيم، والفضل في ذلك كله، إنما يرجع للفيلسوف الكبير المرحوم محمد عابد الجابري، الذي اتصل بي على هاتف المنزل في أواسط شهر دجنبر 1999، والتمس مني أن أستقبل رجل أعمال كويتي الأستاذ محمد عبد الرحمن الشارخ ومثقفا بارزا ومستثمرا رائدا في مجال صناعة البرمجيات، مؤسس شركة صخر وأول من أدخل اللغة العربية إلى الحواسيب، بالإضافة إلى إسهاماته في دعم المشاريع الكبرى المتعلقة بالترجمة، وفي المساهمة في نشر وتعميم الكتاب العربي والمجلات على أوسع نطاق؛ كما اقترح علي المرحوم الجابري أن أقدم لهذا الرجل نخبة من مفكري ومبدعي مدينة مراكش، بقصد التعارف وتبادل وجهات النظر حول الفكر والثقافة والسياسة في المغرب والعالم العربي، ومن أجل تمتين روابط الصداقة، فالجابري كما أكد لي أننا سنقابل شخصا يمتاز بتواضع جم بالرغم من مكانته وموقعه الرائد في العالم العربي.حينها كنت رئيسا لفرع اتحاد كتاب المغرب بهذه المدينة، وبحكم علاقتي بعدد منهم، فقد وقع اختياري على الفنان أحمد بنسماعيل، والصديق عبد الصمد الكباص. كما لن أنس أن الجابري رحمه الله اختار أن يكون لقاءالليلة الأولى مع أشخاص معينين اختارهم بنفسه، أذكر منهم الشاعر الكبيرعبد الرفيع جواهري، والشاعرة الكبيرة مليكة العاصمة، والأستاذ والناشر والسياسي الكبير عبد الصمد بلكبير.وللإشارة فقد كان الشارخ في أغلب زياراته للمغرب وفيا لعلاقته بالجابري، فهو لا يتوجه إلى مراكش التي افتتن بها، إلا بعد زيارة الجابري في بيته، فقد كان يعتبره صديقا وأخا كبيرا، بالإضافة إلى كونه معجبا إلى حد كبير بفكره، لذلك كان داعما لمجلة فكر ونقد التي كان الجابري رئيس تحريرها، فيما كان المرحوم إبراهيم بوعلو هو مديرهاالإداري ، وكان سكرتير التحرير هو الفيلسوف بنعبد العالي، فيما كنت أنا من كتابها الذين دأبوا على النشر في بعض أعدادها والمساهمة أحيانا في ملف فكري من ملفاتها.
في الحقيقة منذ الليلة الأولى شعرت أنني كنت محظوظا بالفعل، لأنني اكتشفت في هذا اللقاء الذي جمعنا على مائدة العشاء بأحد مطاعم بالمدينة العتيقة، أنني أجالس شخصا من طينة نادرة، شخصا تلتمس فيه خصالا فريدة، قلما تجتمع في شخصا ما. شعرت بالفعل وأنني أعرف هذا الشخص معرفة قديمة حتى قبل أن التقيه، فالرجل يتسم بفضيلة تقدير مجالسيه، يحدثهم ويحادثونه بألفة وكأنها نابعة من صداقة من نسج زمن عريق، ألفة لا يشوبها أي تعال على الغير، بل على العكس من ذلك، لمست تواضعا جما في الرجل، ورحابة أفق، واستعدادا تاما لتبادل وجهات النظر، ناهيك عن مدى إعجابه بالتجربة المغربية، وكانت الفترة آنذاك هي الفترة المسماة بالتناوب الديموقراطي، أي تلك الفترة التي عاش فيها المغرب على وقع تحولات كبرى، بما فيها اعتلاء الملك محمد السادس لعرش المملكة المغربية، والتي تميزت بترؤس الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي كوزير أول للحكومة المغربية في أواخر عهد الحسن الثاني وبداية عهد محمد السادس، محملة بمنظور سياسي للتغيير والمساهمة في ترسيخ البناء الديمقراطي المنشود.
في هذه الأجواء تلقينا هدية الجابري، فقد كنت أظن أنا وأصدقائي أن الأمر سيتعلق فقط بلقاء بروتوكولي لا يتعدى عتبة التعارف وتبادل المجاملات وتنتهي القصة عند هذا الحد، كما هو الشان بالنسبة لعدد من اللقاءات التي عقدناها مع كثير من الأشخاص من الشرق والغرب، والتي آلت إلى مجرد ذكريات عابرة بلا أفق، أو هكذا تخيلنا مصير هذا اللقاء في البداية.
اكتشفنا أنا وأصدقائي، عبد الصمد الكباص وحسن أوزال وأحمد بنسماعيل، والأستاذ عبد الصمد بلكبير والنقيب إبراهيم صدوق، وآخرين ممن سبق أن التقاهم سي محمد كما كنا نسميه في مراكش، أن رغبة الرجل في زياراته المتكررةللمدينة الحمراء التي عشقها، لم تكن من أجل مجرد الترفيه، أو الاستجمام، أو مجرد قضاء وقت مع أفراد يلتقيهم على مائدة العشاء من أجل تزجية الوقت بما لذ من طعام شهي، حتى وإن كان عاشقا للطبخ المغربي الأصيل؛ بل إن هذه الرغبه مبنية على توجه أصيل في تمتين روابط الصداقة الأخوية وترسيخ تعاون ثقافي وفكري واجتماعي بين المشرق والمغرب، أي في فتح أفق في بنية هذه العلاقة بما يجعلها جديرة بالاعتبار والتقدير.
لقد كنت شاهدا على ذلك بالفعل، فالرجل الذي كان يدعم مشاريع للتنمية الاقتصادية بالعالم العربي والمغرب، بحكم موقعه المهني المتميز، والذي كان يدعم مشاريع فكرية كبرى في الوطن العربي، هو الذي اختار أن يدعم مجلة فكر ونقد التي يشرف عليها الجابري، وقد حرص شخصيا على توزيع أعداد كبيرة منها في مؤتمر الفكر العربي الثالث الذي انعقد بمراكش أيام 1_2_3_4 دجنبر 2004، ما يزيد على ألف و500 نسخة، وقد كان عدد المؤتمرين ألفا. وكنت قد تسلمتها شخصيا بتوصية من الجابري، وبتنسيق مع الصديق المرحوم محمد صبري الذي كان مسؤولا عن توزيع المنشورات بشركة سابريس آنذاك، من إدارة فرعها بمراكش والذي كان الصديق جمال ميكو مسؤولا عنه، وذلك في صبيحة اليوم الثالث للمؤتمر، أي3 دسمبر 2004, رغبة من محمد الشارخ في التعريف بهذه التجربةالفكرية الرائدة في المغرب، كما أذكر أنه شاركنا أنا وعبد الصمد الكباص في توزيعها على الضيوف، وكان حريصا أيضا على تقديم أعداد منها لرئيس مؤسسة الفكر العربي ولنخبة هامة من المفكرين العرب، وهذا ما كان له أثر بالغ في مسيرة هذه المجلة التي توالى صدورها شهريا وبدون توقف لسنوات إلى أن توقفت بشكل نهائي بعد وفاة الجابري رحمه الله في 2010. هذا الأمر وثق صلتي بهذا الرجل، لأنني شعرت به في هذه اللحظات الفارقة من تاريخ المغرب الثقافي بأن هذا الرجل الذي يرعى هذه المجلة ليس لأنه مستشهر فيها فقط، بل وكأنها مشروعه الفكري الكبير، لهذا كان متحمسا جدا لتلك الحركة الفكرية التي يحملها مشروعها الطموح، وهذا مما جعلني أقدره تقديرا خاصا، وجعلني أوثق علاقتي به، لا سيما وأنه شديد الشغف بمقالاتنا الصادرة هنا وهناك في مختلف منابر الفكر، كما أنه كان شديد الاهتمام بالكتب الفلسفية التي نصدرها، إن كل كتاب نهديه له أثناء لقاءاتنا يستقبله بحفاوة بالغة، فلا يكتفي بوضعه في محفظته، وفي غالب الأحيان يواجهنا الرجل بمجموعة من التساؤلات حول المحاور التي نشتغل عليها، وبالطبع فلكل حدث فكري حديث ولكل أثر ما بعده. وتلك هي ميزة هذا الرجل الشهم. أعني أنه في كل مرة يزورنا، نجد في الطريق الذي رسمناه لانفسنا، خاصة بعد تاسيسنا لمركز الأبحاث الفلسفية بالمغرب، أنا وصديقي عبد الصمد الكباص واوزال، أننا انخرطنا في علاقة فكرية جديدة، بفضل هذا الرجل. وهو ما لن ننساه له قط.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فإن مؤتمر الفكر العربي الثالث، شهد حدثا متميزا، وهو تكريم محمد عبد الرحمن الشارخ، وتتويجه بجائزة الرواد، وهي الجائزة التي سبق أن تسلمه إدوارد سعيد، ومؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وعبد الله الغدامي، وآخرون ممن كانوا مبتكرين في مجالاتهم العلمية والإبداعية. وأذكر أن ابنته المصون العانود الشارخ هي التي حظيت بتسلم الجائزة نيابة عن أبيها، بسبب تعذر حضوره في اليوم الأول المخصص لتوزيع الجوائز بقصر المؤتمرات بمراكش تحت رعاية ملكية سامية وبحضور الأمير مولاي رشيد، شقيق محمد السادس؛ للإشارة فقد حضر محمد الشارخ في اليوم الثاني وواكب جلسات المؤتمر. وقد كانت كلمة الشارخ التي تلتها الدكتورة العانود قوية جدا، وبالغة الاهمية ومما جاء فيها:
“إن التخطيط والتطوير التقنيين، والمساهمة العربية في صناعة البرمجيات، مسائل ذات أولوية ثقافية ومعرفية لا تقل عن الامن الغذائي والأمن الاجتماعي، والتعليم الإلزامي، مثلا. بل هي توازي في أهميتها مسالة الأمن القومي والدفاع عن الوجود. فثمة فرصة حقيقية في أن يكون هذا التطوير بمثابة قاطرة للتقدم الاجتماعي في عصر المعلومات…” هذه الرؤية كانت استشرافية بالفعل لأنها أدركت إلى أبعد الحدود عتبة التغيير المنشود.
على هامش هذا الحدث تعرفنا على شخصية الدكتورة العانود الشغوفة بالاستكشاف والمعرفة والقدرة على إثارة تساؤلات مدهشة، أذكر أنها أعجبت بكثير من الأفكار التي ناقشتها معنا، حول الحرية والجسد والفلسفة والتغيير و مستقبل العالم في ظل التحولات الرقمية، أنا وعبد الصمد الكباص. وأذكر اننا تعرفنا أيضا على شقيقها الدكتور فهد الشارخ، الذي كان هو بدورها حاضرا في هذه المناسبة، لكن لم نتمكن من مجالسته بما يكفي بسبب التزامه ببرنامج زيارة المدينة وضواحيها. لكن مع ذلك فقد حرص الشارخ على توتيق معرفتنا بابنيه البارين، كما حرص قبل عامين فقط من هذا اللقاء من توتيق علاقتنا بزوجته المصون مضي، وهي العلاقة التي استمرت لحد الآن، ومازالت زوجتي فوزية ابن يامنة تفتخر باستقبالها لرجل عظيم رفقة زوجته ببيتنا الكائن آنذاك بحي المسيرة بمراكش استجابة لدعوة غذاء، في غضون شهر نونبر 2002، وهي ذكرى لا يمكن نسيانها قط، لأنها مفعمة بروابط أخوية إنسانية فريدة قل نظيرها.
ولأن محمد الشارخ يكن للصداقة مكانة عظيمة، فهو يعتبرها علاقة مقدسة، لأنها بالنسبة له ليست مجرد وسيلة للتعارف فقط، بل هي أسلوب للتقدير والاعتبار وتكريم الصداقات. أذكر هذا واستحضر حرصه على أن يفتح لأصدقائه أفقا رحبا يمكنهم من التعرف على أصدقائه الآخرين من بلدان أخرى، بل وعلى تمكينهم من المشاركة في مؤتمرات علمية وفكرية في بلدان الأخرى. هذا ما لمسته أنا وصديقي الكباص، وكنا شاهدين عليه. وتحضرني واقعتان لا يمكن نسيانهما.
الواقعة الأولى تعود إلى 2002، والثانية تعود إلى 2005. أذكر أن أي لقاء مع الشارخ لا يخلو من حديث شيق عن الأمكنة التي سبق وأن زارها، وعن الوجوه التي التقاها، وعن الطرائف التي يصادفها شرقا وغربا، ولكنه لا يخلو أيضا من حديث عن أصدقائه الأوفياء الذين يكن لهم تقديرا خاصا. في يونيو من العام 2002طلب منا أنا والكباص أن نوجه دعوة لصديقيه العزيزين الكاتب المصري إبراهيم داود والفنان المصري جميل شفيق، وذلك من أجل تمكينهما من زيارة المغرب والمشاركة في برنامج ثقافي ومن أجل تمتين روابط صداقة مغربية مصرية برعاية خاصة للشارخ، وقد كانا هذان المبدعان من أعز أصدقائه اللذين سبق وأن حدثنا عنهما.
أذكر أنني كنت في غضون شهر غشت من العام 2002، أقضي عطلة الصيف مع أسرتي بمدينة أصيلة، عندما اتصل بي محمد الشارخ ليخبرني بزيارة بموعد وصول الصديقين، ويلتمس مني ترتيب استقبالهما وإقامتهما في هذه المدينة الشاطئية لمدة أسبوع واحد، قبل توجههما إلى مراكش لقضاء ما تبقى من إجازتهما، في هذا الوقت بالذات كانت اصيلة قبلة سياحية وثقافية بامتياز، فعلى مدى شهر بالكامل يستقبل موسمها الثقافي الدولي ضيوفه من مختلف بلدان العالم، وقد بلغ آنذاك دورته 24، من 26 يونيو إلى 18 غشت 2002. وهي مناسبة لتتبع مختلف الأنشطة الفنية والندوات الفكرية والالتقاء بالكتاب والمفكرين والفنانين، بالإضافة للاستجمام والاستمتاع بشاطئها الساحر.
لم يمر أزيد من يومين على استقرار الضيفين المصريين بأصيلة، حين اتصل بي الراحل محمد الشارخ، وقد اعتقدت أن اتصاله من أجل الاطمئنان على ضيفيه الكريمين، ليفاجئني بأنه ينتظرنا جميعا على مائدة العشاء بفندق ميراج الواقع على الساحل على مقربة من مغارة طنجة، وهو فندق شهير يحل به المشاهير وشخصيات وازنة من عوالم الفن والسياسة والرياضة والثقافة. لم يحدثنا الشارخ عن هذه الزيارة قط، ولكنه فضل أن تكون مفاجئة. امتطينا جميعا سيارة بيجو 309 التي كنت امتلكها آنذاك، وتوجهنا جميعا نحو طنجة، وكان الوقت غروبا عند وصولنا الفندق، وقد وجدنا بعد ولوج ساحته الفسيحة المطلة على البحر، صديقنا الشارخ مستغرقا في تامل أجمل وأبهى لحظة غروب في العالم،على حد تعبيره. لم تمض سوى دقائق معدودة حتى استدار نحونا- وهو في حال من الغبطة والانتشاءعظيمين من شدة التأمل- مهللا بمقدمنا في هذه اللحظة الباذخة في هذا الفضاء الساحر. ولأن الشارخ يرتب لقاءاته بعناية فائقة لا تخلو من مفاجئة، فقد كانت مفاجئة الليلة هي لقاؤنا بالروائي الكبير المرحوم بهاء الدين الطود على مائدة عشاء بمطعم الفندق الذي كان بصحبة فنان بارع في العزف على العود، لم أتذكر اسمه في هذه اللحظة، لكني ما زلت أتذكر تلك المقاطع الجميلة التي عزفها بعشق نادر بين الفينة والاخرى. الجميل في الأمر أن الشارخ لا يترك فرصة تمر دون ينسج من خلالها علاقات تنتهي بصداقات متينة، وكأن لسان حاله يقول أن الصداقة إمكانية مفتوحة على ما تجود به العلاقات التي تحكمها الرغبة في تقدير الغير. لقد اتاحت لنا هذه الفرصة التعرف عن قرب على بهاء الدين الطود، صاحب رواية البعيدون التي صدرت عن دار الهلال سنة 1991، وطبعتها الثانية سنة 2001، كان شخصا لطيفا محبا للفكر والفن، وكما أخبرنا بهاء فهو أخ غير شقيق لمحمد بنعيسى رئيس مندى أصيلة ووزيرا للثقافة وللخارجية لسنوات مضت، وسفيرا للمغرب بالولايات المتحدة الأمريكية. كما حكى لنا عن مخطوطة البعيدون التي اكتشفها صدفة الدكتور جابر عصفور في إحدى زياراته لبيته. من خصال محمد الشارخ في كل جلساته التي كان لي شرف حضورها، هو قدرته المدهشة على النبش في أدق تفاصيل حياة عاشها باقتدار على ابتكار أسلوب فريد للعيش، لم تخل أحاديثه الشيقة من التقاط بعض المواقف الطريفة إلى جانب المواقف الجادة التي عاينها أو كان في خضمها، كواحد من صناع الحياة، إن لم أقل من صناع القرار، أي مما مكنته تجربته الطويلة وحنكته الواسعة في الابتكار. وهذا هو السر في عشقه للفكر والإبداع.فقد كان الرجل مغرما شغوفا بالفنون عموما، والموسيقى على الخصوص، عاشقا للقراءة التي يمارسها في أوقات الفراغ، وأثناء سفرياته الطويلة على الطائرة، عاشقا للطرب الأصيل وللموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الجاز، كما كان عاشقا للفنون التشكيلية.
أما الواقعة الثانية التي ترجع لعام 2004، فبعد انتهاء مؤتمر الفكر العربي، بيومين كان قد خصصهما للتجول مع ابنه البكر فهد وابنته المصون العانود، استدعاني الشارخ أنا وزميلي عبد الصمد الكباص من أجل تناول كاس شاي بأحد المقاهي في شارع محمد السادس، وذلك لتوديعنا قبل سفره إلى الكويت، وكانت المفاجئة غير متوقعة، ولم يدر في أذهاننا أن هذا الرجل الذي كان معجبا ببعض الأفكار التي نطرحها للنقاش في جلساتنا، أو التي يطلع عليها في كتبنا التي نحرص على إهدائه إياها في كل مناسبة يزورنا فيها، وكان معروفا على الرجل أنه لا يجامل قط، بل يكون في بعض الأحيان مشاكسا متمرسا على إثارة المفارقات، أنه يعرض علينا المساهمة في ندوة كبرى من تنظيم بيت الحكمة في تونس حول التنوير والتسامح وتجديد الفكر العربي بتنسيق مع جمعية الفكر العربي المصرية، كما حثنا على المساهمة في برنامج تكريم المفكر الكبير هشام شرابي، وهو من أيضا من أعز أصدقائه الذين يكن لهم تقديرا خاصا، وكان في ذلك الحين على تواصل معه، يتتبع أخباره وأحواله الصحية، أي قبل وفاته بأيام معدودة من تكريمه، أي في 13 يناير 2005.كان أمر مشاركتنا يهمه جدا، لذلك لم يأل جهدا في تهييء جميع الظروف لذلك، بدءا من التنسيق مع المرحوم عبد الوهاب بوحديبة المدير العام لبيت الحكمة آنداك، ومع المفكر الكبير هشام شرابي- وقد كان الشارخ بالمناسبة يتصل به من حين لآخر للاطمئنان على صحته، فالتكريم المخصص له كان سينعقد على شرف حضوره، لولا الرحيل- وانتهاءباقتناء تذاكر السفر ذهابا وإيابا لكلينا معا أنا وصديقي عبد الصمد. قبيل توديع صديقنا سي محمد الشارخ في ذلك الصباح أهدانا الشارخ بعض كتب هشام شرابي، كما أهدانا الأعداد الكاملة للمجلة الفلسفية المحكمة “أوراق فلسفية” والتي يشرف عليها المفكر المصري أحمد عبد الحليم عطية، الذي التقيناه في تونس ونشأت بيننا صداقة فكرية مثمرة، مازالت مستمرة لحد الآن.
أذكر هذا وأنا أشعر بكل امتنان وفخر بصداقة هذا الرجل الذي فتح لنا أفقا مع إخواننا المغاربيين في تونس ومع إخواننا العرب في المشرق العربي. بفضل هذه البادرة انفتحت لنا أفق تعاون بناء نتجت عنها كثير المشاريع، ومنها الانخراط في المشاركة في المؤتمرات التي نظمتها جمعية الفكر العربي بجامعتي القاهرة والزقازيق، أو المساهمة كذلك في ملفات أوراق فلسفية حول لفيناس وهيجل وكانط والفينومينولوجيا وإعداد ملفين ضخمين عن الفلسفة المغربية. وبالفعل كانت محطة تونس مفيدة لنا، كسبنا منها المساهمة في كتابين أحدهما عنوانه “تحية إلى هشام شرابي” وقد صدر العمل في حينه عن بيت الحكمة ، والثاني تحث عنوان “التنوير والتسامح وتجديد الفكر العربي” صدر بعد ذلك بشهرين فقط من انعقاد اللقاء المصري التونسي-المغربي، في قرطاج من 8 إلى 11 فبراير 2005.كان اللقاء مصريا تونسيا، وبفضل الشارخ صار اللقاء مصريا تونسيا مغربيا، فهو من كان خلف هذا التغيير. وللحقيقة التاريخية فقد لمسنا من إخواننا في تونس وإخواننا المصريين اهتماما بالغا وتقديرا خاصا، ظهر ذلك بالملموس في هذه العلاقات التي نسجناها مع أصدقائنا في تونس ومنهم فتحي المسكيني وعلي صالح وعبد العزيز العيادي وفتحي التريكي وفتحي أنقزو وغيرهم، ومع أصدقائنا المصريين ومنهم أحمد عبد الحليم عطية، حسن حماد، صلاح قنصوة وغيرهم.
ذلكم هو ما استفدته شخصيا من الشارخ الذي اعتبره هدية من الفيلسوف الجابري على صعيد العلاقات الفكرية التي عمل هو نفسه على ربطها وتمتين أواصرها وتتبع نتائجها، يظهر ذلك من خلال تواصله الدائم معنا، وفي نقاشه للعديد من الأطروحات التي كنا ننشغل بها. أما ما استفدته من حواراته الشيقة اثناء لقاءاتنا، فقد عملت على طرحه في بعض كتاباتي الفلسفية المبكرة. أذكر أن من بين الأفكار الملهمة والاستشرافية التي طرحها الشارخ في وقت مبكر عشية الثورة الرقمية التي نعيشها الآن بالتمام، وكان ذلك في إحدى لقاءاتنا الأولى التي ترجع لسنة 1999، تلك الفكرة المدهشة التي سماها “سقوط حاجز اللغة”، وكنت آنذاك منشغلا بتحرير خلاصة لكتابي “الأسس الفلسفية لنظرية نهاية الأخلاق” الذي صدرت طبعته الأولى عن سلسلة أبحاث فلسفية – مطبعة وليلي بمراكش سنة 2001. هذه الفكرة أضاءت لي جانبا مهما من الخلاصة التي كنت بصدد صياغتها، في الصفحة 87، حول تحولات العالم بفعل التقنية التي تستخدم الانترنيت ووسائل الاتصال التكنولوجي، ووسائل التواصل الاجتماعي، وهو تحول طرأ على مستوى الرغبة البشرية أيضا، بحيث صارت هذه الرغبة كونية ذات طبيعة افتراضية، إنها رغبة في ماهية افتراضية لكائن افتراضي، يسعى للحصول على موقع رقمي داخل العالم، وكأن الأمر يتعلق بتحول العالم إلى كتاب كوني، يسهم فيه الكل من موقعه الرقمي. هذه الفكرة بدت لي ممكنة باستنادها إلى فكرة “محمد الشارخ” حول سقوط حاجز اللغة، وذلك بفضل الترجمة الآلية، التي ستوفر جهدا كبيرا على الإنسان في التواصل المباشر مع آخرين يستخدمون لغات مختلفة، ونحن الآن نعيش هذه المرحلة بالفعل في 2024، بفعل الاستعمال الفائق للعقل الاصطناعي. مما كتبته في ص 87 و88، من كتابي مايلي:
“هذه المرحلة موسومة بما يسميه الأستاذ “محمد الشارخ“خبير الانترنيت ورجل الإعلاميات الشهير بالشرق الأوسط والعالم العربي سقوط حاجز اللغة …هذا يعني أن الهوية اللغوية التي هي موطن الكائن تحللت في شبكة الأنترنيت لتفسح المجال للترجمة الآلية المبرمجة، التي تنقل مضمون الخطاب من لغة إلى أخرى، فالمتكلم لم يعد في حاجة إلى تعلم لغة أخرى ليحاور من يتواصل معه، لأن الشاشة الذكية ستكون وسيطا يقوم بعملية النقل والتلقي، كل شيء يمضي كما لو أن الإنسان غدا مكتوبا، أو كأنه جزء من كتاب كوني بلا حدود…من هنا يشكل الانترنيت الذي يتوج عصر العولمة، ذلك الكتاب الكوني الشامل الذي يسقط فيه حاجز الكلام، وستتقلص عبره التمايزات، وستشبع رغبة البشر في الاعترافلكل البشر الذين يعتمدونه وهم في تزايد واتساع كبيرين…إن هذه الإمكانية المتاحة الآن تقدم نفسها على أنها الخير الشامل-المطلق، على غرار الخير المطلق الأخلاقي، هي الآن الغاية والوسيلة، وتجليها للعالم في شكل كتاب كوني هو ما يحدد نهاية الأخلاق الإنسانية القائمة على ما يتوجب فعله…أما الحاضر فهو هذا الكتاب الشامل الذي لا يكون فيه الإنسان سوى مفعولا مندمجا في عالم تقوده التقنية…” أوردت هذا الفقرة الواردة في خلاصة كتابابي المشار إليه أعلاه للتأكيد على أن مجالسة الشارخ لا تخلو من فائدة، ومن تأثير، ومن تفاعل مع الكثير من الأفكار التي تتعلق خاصة باللغة عامة، وباللغة العربية التي أدخلها الشارخ من الباب العريض للعالم الرقمي، وساهم في تطويرها وتعميمها بكل الوسائل التكنولوجية الممكنة، ليس لأنها وسيلة تواصل وحسب، بل لأنها أداة الكينونة أيضا. لهذا ينتصر الشارخ للعربية كقوة ناعمة تخترق الحاضر وتسمح بالتعبير عن أنماط العيش والحياة العامة النابضة بالتحولات المعاصرة، ولهذا أيضا كان الشارخ من خلال مشروعه الحضاري مقاوما للأصولية اللغوية، وذلك لأن الأصولية اللغوية كما كان يسميها في حديثه، تتشبث بالماضي، ونحن كما يؤكد اخترنا الانحياز إلى كلام الناس العادي الذي يكتب في الصحافة وفي الرواية وفي الكتابات الحديثة، أي أن انحيازه لتحديث العربية كلغة حية شأنها شأن كل لغات العالم، بعيدا عن كل تقديس،إنما هو من أجل الحاضر والمستقبل، وذلك لأن الحفاظ على اللغة إنما يتطلب تحديثها، أو هكذا تحدث الشارخ ذات لقاء.
من اللافت أن الشارخ رجل الأعمال الكبير وصاحب المشاريع الريادية الكبرى في العالم العربي، رجل يتسم بخصال فريدة منها التواضع الجم، ولن أنس قط استجابته لدعوة غذاء ببيتي المتواضع بحي المسيرة أثناء إحدى زياراته لمراكش رفقة زوجته المصون موضي الصقير وذلك في أواسط دجنبر 2002، وهذا مما زاد من تمثين عرى صداقتنا، إثر ذلك نشأت صداقة بين زوجتي فوزية وبين حرمه المصون موضي، ومازالت زوجتي تحتفظ بهذه الذكرى لحد الآن.
وقبل الختام لا بد من الإشارة أن الشارخ يمتلك براعة فائقة في السرد، فهو في جلساته يستحضر المواقف والشخصيات ومفارقات الحياة بكيفية فريدة تمتزج فيها الغرابة بالألفة، وذلك لأنه أديب بارع في السرد، في كتاب القصة وفي الرواية أيضا، فالرجل بالرغم من انشغالاته خلد أدبا لا يمكن أن تقرأه إلا بمنظور إنساني عميق، كما هو شأن الادباء الكبار في العالم.وذلك لأن قصصه التي جمع بعضها في مجموعتين قصصيتين هما “عشر قصص” صدرت طبعتها الأولى عن دار ميريت بالقاهرة سنة 2006، و”أسرار وقصص أخرى” صدرت عن دار البدوي للنشر والتوزيع بتونس سنة 2016، ولأن روايته “العائلة” التي صدرت عن دار ميريت في 2015، تضيء جانبا مهما من شخصية هذا الرجل الابتكارية، فأسلوبه الفريد الذي يكشف عن عمق وبراعة نادرة في جلب الواقع الرهيب في داخل الذات البشرية إلى مجال الكتابة الإبداعية، فالكتابة بالنسبة له حدث، لسبب بسيط كون الحدث موضوع الكتابة ينتسب للغرابة، لهذا فهو يكتب عن أحداث هي أغرب من الخيال كما جاء على لسان الراوي في قصة “بيبسي” ص 128، من المجموعة القصصية “عشر قصص”. لست بصدد قراءة نقدية هنا، ولكني فقط بصدد الحديث عن هذا الاقتدار العجيب الذي يجلب من خلاله الشارخ الحدث إلى مجال سردية تنكشف فيها المفارقات والغرائب الفريدة.
هذه الجوانب كنا قد تطرقنا إليها في تلك الندوة التكريمية البادخة حول التجربة القصصية لمحمد الشارخ،والتي نظمتها جمعية أركانيا للثقافة والتنمية التي يديرها الأستاذ علي زمهرير، واتحاد كتاب المغرب، جمعت ثلة من الباحثين والنقاد بمدينة الصويرة مساءيوم الجمعة 25 غشت 2006، نذكر منهم صبري حافظ وسامي خشبة من مصر، وبهاء الدين الطود، عبد الصمد بلكبير، عبد الصمد الكباص الذي كان منسق هذه الندوة، حسن أوزال، حسن يملاحي، عبد الحق ميفراني وعبد العزيز بومسهولي من المغرب. ومن الجذير بالذكر أن الأستاذة موضي الصقير كانت قد رافقت زوجها الأستاذ الشارخ من أجل حضور وقائع هذا اللقاء البهي.
وللإشارة فقد حظي الشارخ بلقاءات أخرى من موقعه كأديب بطنجة 2006، وبالرباط ومراكش 2019.
وأخيرا وليس آخرا، يظل اسم الشارخ محفورا في ذاكرتنا كوفاء وكامتنان لذكرى هذا الرجل العظيم؛ كما سيظل محفورا بمداد من الفخر في ذاكرة التاريخ الإنساني عامة والعربي خاصة. فوحدهم العظماء يحظون بالخلود.
لروح هذا الرجل الطاهرة الرحمة والسكينة الأبديين، ولذكراه الخلود.
الكويت الثلاثاء 22 أكتوبر 2024