في ذكرى وفاة الفيلسوف نيتشه: المطرقة والديناميت والإنسان المفرط في إنسانيته
لوسات أنفو: عادل أيت واعزيز
لو لم يكن فيلسوف المطرقة، لما أقدمت على ارتكاب حماقة تقديم أعماله لصديقتي السابقة كعربون حب، وإرادةً للإنتصار على أحد أصنامي، وتفاديا أن أكون مجرد فكرة مهيأة للنزول أمام حب امرأة ذكية. لم أفكر حينها لا في الشوكلاطة ولا في قصص حب أو روايات ميلودرامية، كل ما فكرت فيه هو تقديم نيتشه كقربان. حدث هذا وأنا طالب شعبة الفلسفة بالجامعة وهي طالبة بيولوجيا.
هذا ما يفعله بنا جنون الفلسفة، وهكذا على الأقل مارست نصوص وحياة هادم الأوثان، اليائس والرومانسي عليّ تلك الغواية. نصوص قَسَمَت تاريخ العالم لقسمين، فأصبحت شرطا فكريا لامحيد عنه، فقد أفقد الرجل للوجود كل أسسه الجوهرية ومرتكزاته الماهوية، ليُنَصِّبه ضربا من المجازات والأعراض الدالة.
هو الأوروبي فريدريش فيلهيلم نيتشه (1900-1844)، غريب الملامح واللسان واليدين عن نطاق الفلسفة الغربية، التي قوض بداهتها العقلانية، وجاء الفلسفة من خارجها دون أن يطرق أبوابها، وخلط أوراق الأنساق من جديد، وقاد؛ الحداثة، الذات، الميتافيزيقا، القيم لمسلخته ومختبره الفكري، ليحدث شرخا فيها، وينحو بها لمرحلة ما بعد العقل أو ما فوق العقل.
وهو الذي انفلت من سطوة هيجل على الفلسفة والعقل الألماني في ذلك العصر، وحاول بهذلة كبار الفلاسفة من بارمانيدس وسقراط وصولا إلى أفلاطون والمسيح وانتهاء بكانط وشيلر وشوبنهاور، الذي انقلب عليه كما انقلب على فاغنر. لم تتوقف مطرقته عند هذا الحد، بل طالت حتى أولئك الذين أعجب بهم؛ سوفوكليس، شكسبير، غوته، دوستويفسكي… و ما يفتأ يوجه سهامه إليهم. فهو يرفض أن يبقى المتبوع متبوعا، والتابع تابعا.
لم يعد التفكير عند صاحب عبارة؛ ” أشد إساءة للمعلم، أن يبقى التلميذ تلميذا” ، يجري في كهف أفلاطون ولا محصورا داخل آلهة الفلسفة المدرسية، ولا داخل الكوجيطو الديكارتي، بل أصبح العالم بما هو لوحة منفتحة تحتضن كل التأويلات الممكنة، لتكون الحقيقة كائنا حيا من الإستعارات والتشبيهات والمجازات، والذات المؤولة ليس لها مما تقرأ في لوحات الوجود عامة، وفي نصوصها المكتوبة خاصة، غير ذاتها وشروطها الحيوية.
أسكن عراب الجينالوجيا الفكر عالم السطح، حيث تتجدد الحياة ويحدث الحدث، وتجري الصيرورة. وبين يابسة الشذرات ودلالاتها، نعثر على نيتشه الرومانسي والعليل، يدون كل ما يخطر بباله أحيانا، وأخرى تكون كتاباته طويلة ورتيبة، لكنه في أحايين كثيرة يبدو ساحرا ومذهلا ورائعا، وبالخصوص في أعمال كـ؛ العلم المرح، نقيض أو ضد المسيح، أفول الأصنام. وبدرجة أكبر في “جينالوجيا الأخلاق” و “ماوراء الخير والشر”.
أما في ” الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي”، فإن عظمة نيتشه تجثم بكل ثقلها في قدرته الفذة على قراءة الفلسفة ما قبل السقراطية. فانطوى بأسلوب فريد في “هكذا تكلم زرادشت”، زاوج فيه بين الفيلسوف والنبي على الطريقة الشرقية.
وفي “هذا هو الإنسان”، يتجلى الرعب النيتشوي، لأناً بدأت تُضيع آخر سلاسل العقل، نحو خيارها وهو مرتبة الإنسان الأعلى/ المتفوق/ السوبرمان. إن هذا العمل بمثابة الهذيان قبل الجنون، والإنسان الأعلى بمثابة البرق الساطع في الغيوم السوداء، هو الذي يحلق تحليقا فوق الناس والأخلاق والقوانين، ويبدد كل الأوهام الثقيلة؛ دينية، أخلاقية وفلسفية. الإنسان الأعلى هو المحب للحياة، ولاتتوقف عنده مع إخفاقاتها ونكساتها، ولا يأبه للعناء والقسوة والحرمان. إنه المدى الأقصى لإنسانيتنا، فأنا وأنت، لسنا سوى جسور علينا عبورها نحو مرفأنا الأخير؛ الإنسان المتفوق.
أعتقد أن من ساهم في اقتياد أفكاره لمشرحة المسخ، كتابه “إرادة القوة”، بعد أن تلاعبت به أخته إليزابيث، ليناسب حقبة النازية. فكان من السهل تحوير أفكاره عن القوة والحرب وأخلاق السادة والأصل الجيرماني والإنسان الأعلى واستثمارها من قبل هتلر والنازيين. (يقال أن هيتلر لمّا التقى موسوليني أهداه الأعمال الكاملة لفريدريك نيتشه، وأيضا يشاع أن بعض الجنود الألمان كانوا يستأنسون بكتاب هكذا تكلم زرادشت).
سعى ممتحن الفلسفة، لأن يجد مكانة بين الموسيقيين، وجعل من الموسيقى سواء كانت حزينة أو ملحمية أو مأساوية، تعبر عن جملة التجارب الإنسانية، فأَلف مقطوعات موسيقية عديدة، كلها تستند لثنائية الأبولوني والديونيسي، ووقفت معه إلى جانب الفكر والشعر، فوجد في موسيقي فاغنر ينبوعا يفيض بفلسفة شوبنهاور، لكن سرعان ما انحدرت علاقتهما، ولم يعد فن فاغنر يروي عطش نيتشه، ولعل عمل “نيتشه ضد فاغنر” يسرد مجمل انتقادات نيتشه لهذا الموسيقي. لكن علينا ألا ننسى أنه مع فريدريك نيتشه هناك دائما خياران؛ إما الضحك وإما الجنون، لكن زمننا الباهر يوفر لنا الإمكانية الثالثة: أن نرقص!
وبما أن الفن لايكتمل حضوره عند عبوة الديناميت، ألف أشعاراً عديدة منذ بداياته، وهي موزعة على بعض من مؤلفاته، تنصهر في قصائده الأنا وتغمرها العاطفة والإرادة فينشد؛
كلُّ سعادة الأرض،
أيّها الأصحاب، تأتي من الحرب!
نعم، فلكي نصير أصدقاء
لا بدّ من دخان البارود،
وفي مقطع آخر؛
ثلاثة أسباب تجعلنا أصدقاء:
إخوةٌ أمام ضربات القدر،
سواسيةٌ أمام العدوّ،
وأحرارٌ- أمام الموت
(…)
كان الموسيقي والشاعر والفيلسوف فريدريك نيتشه ولايزال طاقة ذهنية. يظل وحيدا دائما في عزلته التي لا ينمو سوى ما يأتي به المرء معه، بتعبيره. عاني من مرض عضال دفعه للاستقالة من جامعة بازل كأستاذ محاضر في اللغة، ولجها وهو في سن الرابعة والعشرين. لكن الحزن بدأ يخيم عليه سنة 1886، حين غادرته أخته إلى الباراغواي، وفارقته سالومي بعد رفضها له، ليستأنف صراعه مع المرض ومع نفسه ووحدته.
عاني من قصر النظر، حيث كانت عيناه كما يقول تغوصان حتى ثلاثة أرباعهما في ليل مظلم. وتتورمان لأقل مجهود يبذله. ليتوجه ذات ليلة ويمكث عند شقيقته، وعلى كرسي مدولب، ليقول كلمته الأخيرة؛ “وإذا ما مت يا أختاه لا تجعلي أحد القساوسة يتلو علي بعض التراهات، في لحظة لا أستطيع فيها الدفاع عن نفسي”. وبقي في بيتها حتى توفي عام 1900.
هذا هو نيتشه، أو أكثر أو حتى أقل، إنسان مفرط في إنسانيته، من فهمه فهم العالم، ومن لم يفهمه لم يفهم الفلسفة بعد، اقرؤوه ثم تخلصوا منه.