فيلم عندما بكى نيتشه: حوار بين علم النفس و الفلسفة
لوسات أنفو محسن برهمي:
فيلمنا اليوم هو فيلم “عندما بكى نيتشه” وهي رواية خيالية تاريخية كتبها الأميركي إيرفين يالوم سنة1992، وهو أستاذ في الطب النفسي بجامعة ستانفورد. يستخدم إروين يالوم خياله التاريخي ليجمع فريدريك نيتشه مع الدكتور جوزيف بروير. وهو واحد من علماء النفس البارزين في العالم. تم تحويل الرواية إلى فيلم في عام 2007 بالعنوان نفسه، ومن إخراج وكتابة وإنتاج بينشاس بيري.
ليس بوسعي شفاء اليأس:
في ساعة وأربعة وأربعين دقيقة، يصور الفيلم لقاءً متخيلًا بين عالِم النفس الشهير جوزيف بروير والفيلسوف نيتشه. وفي هذا الفيلم نعرف أن الطبيب النمساوي جوزيف بروير مكلف بعلاج نيتشه من الصداع النصفي المتكرر ومشاكله النفسية بشكل أكثر سرية. ينتهي الأمر بالرجلين إلى معالجة بعضهما البعض من خلال مشاركة قصصهما، وبالتالي مساعدة بعضهما على تجاوز علاقاتهما المضطربة مع النساء.
تزور سالومي الطبيب برورير للحديثث مع نيتشه واخراجه من اكتئابه باستعمال العلاج بالكلام، الأمر الذي يرفضه الطبيب لكن سرعان ما يغير رأيه في الموضوع عندما يقرأ كتب نيتشه، فينقسم الموعد إلى موعدين:
في الموعد الأول لنيتشه في عيادة الدكتور بروير، ينكر يأسه ويؤكد أنه هو الذي جاء للبحث عن دواء للصداع النصفي، وأن آلامه هذه ما هي إلا المخاض لولادة كتابه الجديد (هكذا تكلم زاردشت). يحدث الدكتور قائلاً: “كلما نهضت كي أبني جسراً مع الآخرين، أصدع بالخيانة، في البداية كان ذاك الموسيقي (ريتشارد فاغنر) الذي يصف نيتشه بأنه عار على الموسيقى، وبعدها مع تلك المرأة “. ويقصد بها سالومي، التي صرحت للطبيب أنها أعجبت بمحاضرته حول الله، فتقول:” انجذبت اليه لكن ليس بطريقة رومنسية، لكن للتعلم لا الخضوع. وعن اختياره للعزلة يضيف نيتشه، المفكرون يخترون صحبتهم في ألا يزعجهم الأخرين.
في الموعد الثاني يصدم الدكتور بعزم نيتشه على الرحيل إلى مدينة بازل. ويفكر الطبيب بخطة للحيلولة دون رحيل نيتشه قبل استكماله للعلاج، ويقترح عليه صديقه وطالب الطب فرويد “ربما لو كشفت نفسك لنيتشه، فقد تجذبه إليك، وما إن تكسب ثقته حتى يصبح كتابا مفتوحا أمامك”. يقتنع الطبيب بروير بالفكرة ويقدم عرضه إلى البروفيسور نيتشه وهو عملية تبادل مهنية، هذا يعني أن يكون الدكتور طبيبه للعلاج الجسدي لمدة شهر وبعدها يصبح الفيلسوف نيتشه هو المعالج للدكتور لعلاجه العقلي ويشفيه من يأسه. الأمر الذي رفضه نيتشه في الأول حيث قال:” لايمكنني شفاء اليأس، أنا أعلم فقط كيف تتجنبه، أنا كاتب، ولست طبيبا”. لكن في الأخير يوافق نيتشه على المقترح كرد للمعروف على انقاذ بروير لحياته.
لو كانت دموعي تتكلم لقالت” نحن أحرار”:
ظلت اللقاءات بين بروير ونيتشه تتكرر وتتطور. حيث حاول الأول تطوير هذا اللقاء عبر الحوارات التي تناقش بعض المسائل الوجودية فينصح فرويد الطبيب بروير باستعمال الاندماج؛ دمج الوعي باللاوعي حتى يستطيع نيتشه طلب المساعدة علنا، لتصبح قصة الفيلم حوارا بين الفلسفة وعلم النفس، كما يقدم الفيلم تصوراً عن الطريقة التي صاغ بها نيتشه كتابه المعروف “هكذا تكلم زارادشت”. وما إن وافق الطبيب حتى بدأت رحلته في علاج نيتشه ليجد نفسه في خضم ذلك وقد أخذ دور المريض بدل أن يكون الطبيب، حيث يكتشف وجود تشابه في الأعراض ما بينهما، تلك الأعراض التي يخلقها الوجد الفلسفي تجاه المرأة التي قال عليها نيتشه “لقد وجدت أن لحظة من المتعة الحيوانية تتبعها ساعات من كره الذات، فمتعة القطعان هذه ليست لي”. وجد الدكتور بروير نفسه وقد أمسى يبحث عن نيتشه ليرقد أمامه على السرير ويبدأ هو في الحديث عن مريضته (بيرثا بابنهايم) التي وقع في حبها رغم أنه متزوج وأب لثلاثة أطفال والكوابيس التي تطارده منذ أن اضطر إلى هجرها بعد أن علمت زوجته بأمرهما.
الكوابيس لا تنتهي بالنسبة للطبيب وكلها تدور حول حبيبته بيرتا، وصوتها يطارده في منامه “ستبقى على الدوام الرجل الوحيد في حياتي”. يعترف الطبيب لنيتشه بأن الحياة دون بيرثا ستكون بلا ألوان، لأنه في حاجة ماسة إلى العاطفة. رغم أنه يعيش حياة آمنة، لكن نيتشه يهمس في أذنه “الخطر يكمن في الحياة الآمنة”. ربما تمثل بيرثا بالنسبة إلى الطبيب بروير هروبا من حياته الآمنة ومن فخ الزمن. أو يمثل اسم بيرتا اسم امان يهرب اليه، خصوصا بعد وفاة والدته في سن الثالثة التي تتشارك مع بيرتا نفس الاسم. لذلك يرى في اسم بيرتا الحنين الى امه والحنان الذي وفرته بيرتا العشيقة، ولم تحققه بيرتا الأم.
العزلة لا توجد إلا في العزلة:
“ليس لديك إلا حياة واحدة، ويجب أن تعيشها ك “أنا”، قبل أن تعيشها ك “نحن”، يقول نيتشه للطبيب بروير في المقبرة بعد روتين بورير لزيارة أبيه في لمقبرة، يشعر الطبيب بأنه عاش من أجل عائلته ومرضاه وطلابه، وأن الشيء الوحيد الذي أحبه في حياته هو أنه أنجز واجباته تجاه زوجته وأولاده، يصرخ نيتشه في واجه بروير قائلا “واجب؟ واجبك خدعة، ما هو إلا الستارة التي تختبئ خلفها، كي تبني أبناءك كما يجب، ابدأ ببناء نفسك! وهرب من هذا السجن الذي تتقاسمه مع زوجتك”.
يقرر بعد ذلك بروير استعمال التنويم المغناطيسي ليهرب من واقعه إلى خياله ليحقق حريته المفترضة، فيبدأ أولا من هروبه من البيت، وترك زوجته وأولاده، ليبحث عن حبه الوحيد بيرتا، التي وجدها رفقة طبيب يتبدلان القبل وتردد نفس الجملة التي كانت تقولها له ستبقى الرجل الوحيد في حياتي، هنا يجب الإشارة الى جملة قالها نيتشه للطبيب وهي، عندما تذهب اليها مرة المقبلة، لا تنسى أن تجلب معك سوطك، إن حبنا للرغبة في حد ذاتها، أكبر من حبنا للمرغوب، أو ما أكرهه هو الذي يسلم نفسه الى امرأة لعوب، فتخضع شهوته إلى سيطرتها، إذ أن نيتشه عارف بخبايا النساء فكلهن في الأخير خائنات، ثم بعد ذلك يقرر بروير حلق لحيته والعمل في عمل جديد، الأمر الذي فشل فيه ليقرر في الأخير الانتحار داخل بحيرة، وهكذا سينتهي كابوس بيبرتا ، ليعود لحالته الطبيعية وهي الاعتناء بأطفاله وحبه لزوجته.
حينها يشعر نيتشه بالخسارة، أولا خسارة سالومي والطبيب أيضاً بعد اكتشاف خدعته له، وأن كل شيء كان باتفاق مع سالومي، نزلت دموع على خد نيتشه وبكى، يخاطب الطبيب نيتشه متسائلا: “لوكان لدموعك صوت، فماذا كانت تقول؟”، ليرد “لقالت نحن أحرار، لم تحررنا يوما إلى أن فتح بروير باب عيادته”، وماذا عن الحزن الكامن خلف دموعك؟ “ما من حزن، بل راحة هي عظيمة. إنها مفارقة فالعزلة لا توجد إلا في العزلة”، يجيبه الطبيب “وما إن تشاركها مع أحد حتى تتبخر يا صديقي”، يرد الطبيب، يتجه نيتشه نحو البوابة للخروج لكنه يفاجئ بورير بعناق أخير ويخاطبه ” سيكون لنا أصدقاء، ثم نغدو غرباء عن بعضنا البعض، وهذا ما يجب أن يكون… لا نريد أن نخفي أو نحجب الحقيقة كما لو أن علينا أن نخجل منها، نحن مركبان، لكل منهما وجهته ومساره وفي النهاية علينا أن نغدو غرباء كلاً عن الآخر، فهذا هو القانون الذي نخضع له جميعاً “.
مستقلا القطار نحو إيطاليا، في نفس اليوم للقاء بنبي فارسي يدعى زرادشت، ليكتب كتابه الشهير “هكذا تكلم زرادشت”، أما عن بورير فقد استمر في الطب 30 سنة أخرى، لكن بدون استعمال العلاج بالكلام. سالومي استمرت جمعها لأعظم عقول أوربا، لتكون بعد ذلك محللة نفسية، تحت رعاية سيغموند فرويد، هذا الأخير بقي زائرا دائما لمنزل بروير، لينتجا كتاب” دراسات في الهستيريا” الذي أطلق ثورة في التحليلي النفسي، أما عن بيرت فقد قامت بدور رائد في الخدمات الاجتماعية، لتكرمها ألمانيا بعد وفاتها سنة 1954 بإصدار طابع يحمل صورتها.
في ذكرى رحيلك، فلترقد روحك بسلام.