فاطمة تزوت تستأنف سيرتها.. الحلقة 12: أرض النشأة 2
فاطمة تزوت
على أديال سفح جبل عميرة الشاهق تترامى قبيلة “موحا أحمو الزياني ” بخيامها، بعد أن ابتعدت عن مدينة خنيفرة التي كانت تدعى بلاد “زيان” بتسع كيلومترات، عبر فجاج ومنحدرات وتلال بعيدة عن الطريق المعبدة، المؤدية إلى أجدير ب كيلومترين، يحدها شمالا جبل عميرة الشامخ، وشرقا أراضي آيت أمهروق الشاسعة، أما غربا فقد تأخذك الطريق وسط مسار وعر من أشجار الصنوبر والأرز وشجرة البلوط الأخضر والبلوط الفليني صوب سفح تتوسطه بحيرة” أكلمام أزكزا” أي البحيرة الخضراء وهي شاسعة المساحة ذات لون ربيعي يتجاوز عمقها خمسة وعشرون مترا من المياه العذبة.
تحيط بها جبال تكسوها غابات لا زالت تخفي بين أدغالها بعض الحيوانات المفترسة في أواخر الثلاثينات التي لا تتردد أحيانا في مواجهة المارة وكثرة القردة وخصوصا فاصلة منهم تدعى”زعطوط” إضافة إلى العديد من الزواحف، وقطط الغاب، والأرانب الوحشية، ناهيك عن أصناف الطيور التي قلما تُعرف أسماؤها، كما يصادف المارين بين خمائل الأشجار أجباحاً لعسل النحل البرّي.
لهذه البقعة من الأرض ترانيمها الخاصة، تتآلف فيها الحيوانات وخرير الماء المنبعث من العيون والأخاديد، وأشجار لضخامتها واتساع قطرها تشعرك بأنها تحكي تاريخا من غابر الأزمان عجز الإنسان عن تدوينه، أينما وليت نظرك يرتد خجلا من أنفة جبال متراصة في شموخ وكبرياء، أصوات من جامد ومتحرك تتناغم في سلم موسيقي وحده العاشق لتراب الوطن وشهدائه يعي كنهه.
وعلى هضبة عالية من هذه الخيام يسمع خرير مصب لأكبر عين قادمة من مجاري عيون أم الربيع ذات الأربعين عينا. مجمع من السكان سادت بين أفراده صفات الود والرحمة والتكافل والاحترام المتبادل، كانوا قوم مشورة واستشارة، يحبون ويحترمون فتىً من قبيلتهم يدعونه بالشيخ، لا لكبر سنه بل احتراما وتبجيلا وتقديرا لمكانته بين القبيلة والقبائل المجاورة، إنه شاب قوي البنية مفتول العضلات ذو أخلاق عالية، رحيم بالضعفاء، فياض الكرم مع الغرباء، منصف وعادل إن استشير في أمر، لا يحلو له تناول الطعام إلا إذا شاركه أحد من أهل قريته أو عابر سبيل، ولا يضاهيه كرما إلا زوجته يامنة مولود، وهي امرأة عاقر من كثرة ما عشقت الخلفة التي حرمت منها جعلت من كل أطفال إغرم أبناء لها، فأحَبتهم لحد العشق وبادَلوها حبا بحب، يتوافدون على خيمتها بين الحين والآخر فتضع أمامهم طبق “بوشيار ” وهو ما يسمى في مناطق أخرى بالمسمن أو الرغايف أو المطلوع مع كؤوس الشاي أو الحليب، دون أن تنسى الحلوى وقطع العلك التي تقتنيها من السوق الأسبوعي قبل شراء السكر والقهوة وباقي المتطلبات. وكان يستعصي على الصغار نطق اسمها فأطلقوا عليها لقب ” نونّو “ومند ذلك الحين يناديها الصغار والكبار ب ” نونّو” بمن فيهم زوجها عبد الخالق. كانت خيمتهم لا تخلو من النازلين للسوق، أو الآتين منه هي نقطة التلاق والعودة،ومن خيمة عبد الخالق يعرف المستجد عن حالة الناس وأوضاع المدينة، ونقل ماجد في ميدان المقاومة، أمور تحكى في العلن، وأمور تمرّ لأهل الأمر، ورسائل شفوية غير مشفرة تحمل للمتطوعين والفدائيين بالمغاوير في أعماق الجبال، القيمين على حماية الوطن بأرواحهم من الغزو الفرنسي الغاشم بالأطلس المتوسط وضوَاحيه العصيّة على الغزاة في غياب أي وسيلة أخرى للتواصل، كما يتداول رجالات القبيلة والقبائل المجاورة كل الطوارئ و ينسقون فيما بينهم لتوحيد صفوفهم وقهر المعتدي.
بعد أداء صلاة العشاء ينفضّ الجمع متجهين كلهم صوب خيمته للخلود لبعض الراحة، وحده عبد الخالق يعرج صوب خيمة تجاور خيمته، حيث ترقد والدته المصابة بالربو منذ مدة وإلى جانبها ابنتها شتو أخت عبد الخالق الصغرى وهي في عقدها الثالث عشر، تظل إلى جانبها وترعاها ليل نهار، وقبل أن يرخي الليل سدوله يعرج عليهما عبد الخالق للاطمئنان عليهما وخصوصا والدته التي تدهورت صحتها مؤخرا من جر معاناتها مع مرض الربو. يتفقد عبد الرحمان كل الأدوية المتبقية والأعشاب التي تتناولها إن كان ينقصها شيء ليحضر في اليوم الموالي، ويتبادل معها بعض الحديث يمازحها أحيانا ويدعو لها بالشفاء أحيانا ويستَعجلها في الشفاء أحيانا، لكثرة العرسان الذين يتمنون القرب منها،
مضيفا : سأجهز لك عرسا يتحدث عنه الطير. أجابته بهدوء وهي تمسك بيده بين يديها : لست
أدري كيف ينادونك بالشيخ ويجعلونك قائدا عليهم؟ (مبتسمة)
(يقبل عبد الخالق رأس والدته مخاطبا شتو : إن اشتدت حرارتها ارتفاعا ناديني. لكن الأم قاطعته
قائلة : لا عليك يا ولدي، اذهب واخلد إلى الراحة، فأنت متعب، ولا تقلق فأنا اليوم أفضل. بعد منتصف الليل، وبصوت لا يكاد يسمع، نادت طفلتها : شتو “واااااايلّي” (وااااابنتي).
” وَاتَعْكُّورْتِينُو” ( ياغاليتي وانتفضت شتو من غفوتها كالطير الجريح، ومدّت يدها للقنديلِ الذي خَفَت نوره لقلة الكربون الموجود بداخله، فرجّته بقوة
وقرّبته من وجه والدتها قائلة : مابك أمي ؟
الأمّ : لا داعي للقِنديل حبيبتي فالنور يملأ المكان، فقط اقتربي مني حبيبتي لأضع رأسي في حضنك. اعتدلت شتو في جلستها متمسكة برأس والدتها فوضعته على حجرها، بعد أن أسندت ظهرها الصغير لوتَد الخيمة، فراعَتها الحرارة المرتفعة على رأس أمها وسألت : هل أنادي أخي يا أمي. أجابت الأم مهدّئة من روع صغيرتها : لا داعي حبيبتي، فغدا ينتظره أمر، دعيه يرتاح فأنا الآن بخير، حاولي أن تنامي يا صغيرتي. وبكُمِّ ملابسها أخذت شتو تمرّ بيدها تنشّف العرق المتصبّب من جبين والدتها من حين لآخر، إلى أن أخذتها غفوة استسلمت بعدها للنوم، في حين أسلمت والدتها الروح لباريها في أتم هدوء وسكينة.