روبورتاج

عرصة مولاي عبد السلام: الحديقة التي لا تشيخ أبدا

بقلم: ولاء عبدون

وأنت تسير في شوارع مراكش النابضة بالحياة، وتقترب من ساحة جامع الفنا وصومعة الكتبية التاريخية، تُفاجئك واحة خضراء تمتد على مساحة 8 هكتارات، تُعرف بـ”عرصة مولاي عبد السلام”. إنها قطعة من التاريخ تعانق الحاضر، فهذه الجزيرة الهادئة التي تنبض بالحياة هي هدية زواج تحولت إلى متنفس أخضر يعج بالهدوء وسط صخب المدينة.

هذه العرصة كانت من نصيب الأمير مولاي عبد السلام، ابن السلطان سيدي محمد بن عبد الله، الذي أهداها له بمناسبة زواجه في القرن الثامن عشر”، يوضح أحمد الراوي، أحد الباحثين في تاريخ المدينة الحمراء.

عرصة تجمع عبق التاريخ وسحر الطبيعة

عند عبور بوابة العرصة، يتحول كل شيء. تختفي الضوضاء، ويبدأ عالم جديد في الانكشاف: أشجار زيتون عتيقة، ونخيل شامخ، وأزهار تتمايل مع النسيم. هنا، الطبيعة ليست مجرد خلفية، بل جزء من الحكاية. أصوات العصافير تملأ الأجواء، وكأنها ترحب بزوار المكان، فيما الظلال الباردة تحت الأشجار توفر ملاذًا من حرارة المدينة.

”عرصة مولاي عبد السلام ليست مجرد حديقة بالنسبة لي، بل هي فضاء يعيدني إلى الجذور”،يعلق احمد احد الزوار الاوفياء للمكان ويضيف قائلا:” تتيح لي العرصة فرصة الهروب من صخب الحياة اليومية. كل زيارة هنا تحمل تجربة مختلفة، حيث أجد نفسي أكتشف تفاصيل جديدة كل مرة.”

من جانبه، يشير الباحث في التراث المغربي الدكتور أحمد الزاوي إلى أهمية العرصة كجزء من الإرث التاريخي للمدينة قائلاً: “عرصة مولاي عبد السلام كانت شاهدة على تطور مراكش عبر العصور. إنها تمثل توازنًا فريدًا بين التراث المعماري والطبيعة الخلابة، وهو ما يجعلها وجهة استثنائية للزوار.”

ملاذ للثقافة والتأمل

عرصة مولاي عبد السلام ليست فقط واحة خضراء؛ إنها مكان يلتقي فيه الناس من مختلف الأعمار والثقافات. الطلاب، الباحثون، العائلات، والسياح، جميعهم يجدون فيها ما يناسبهم: هدوء للتأمل، مساحة للعمل، أو مكان للقاءات الثقافية.

تحت ظل نخلة شاهقة، كانت فاطمة الزهراء، أم مراكشية في الأربعينيات، جالسة مع أطفالها الثلاثة الذين يلعبون بجانبها. تقول: “العرصة بالنسبة لنا ليست فقط مكانًا للترفيه، إنها جزء من ذاكرتنا. كنت أزور هذا المكان مع والدي عندما كنت طفلة، واليوم أحضر أطفالي لأشاركهم نفس اللحظات. أشعر وكأنني أزرع فيهم حب هذا التراث الذي رافقني طيلة حياتي“.

وفي الجهة المقابلة، كانت عائلة أجنبية تجلس على العشب، بينما الأطفال يركضون بفرح. تقول “ماريا”، سائحة إسبانية جاءت مع أسرتها: “جئنا لنقضي يومًا هادئًا بعيدًا عن صخب الرحلات، ولم أكن أتوقع أن أجد مكانًا بهذا السكون في قلب مراكش. أطفالي يحبون اللعب هنا، وأنا أستمتع بقراءة كتاب وسط هذه الأجواء التي تشبه الحلم“.

حديقة الشعراء وصدى الإلهام

منذ إنشائها في القرن الثامن عشر، تحمل عرصة مولاي عبد السلام عبق التاريخ وشاعريته، حيث أصبحت هذه الحديقة رمزًا للذاكرة الثقافية ومصدر إلهام للأدباء والشعراء. أهدى السلطان محمد بن عبد الله هذه العرصة إلى ابنه الأمير مولاي عبد السلام بمناسبة زواجه، لتتحول مع الزمن إلى مساحة خضراء تحتضن الروح الشعرية للأمير الضرير، الذي وجد في الطبيعة ما يغذي أشعاره وينقلها عبر الأجيال.

يصف يوسف ، طالب جامعي الذي يزور العرصة بانتظام، تجربته قائلاً: العرصة بالنسبة هي كتاب مفتوح. عندما أمشي بين أشجارها، أشعر أنني أسمع قصائد مولاي عبد السلام، وكأن الطبيعة هنا تردد كلماته. أنا أدرس الأدب العربي، وكل مرة أبحث عن إلهام جديد، أعود إلى هنا. إنه مكان يشبه القصيدة؛ هادئ، عميق، وغني بالمعاني.”

عرصة الأحاسيس العميقة: أول زيارة وأول انبهار

في إحدى زوايا عرصة مولاي عبد السلام، كانت “أنجيلا كارتر”، ناقدة سينمائية أمريكية في زيارة  لمراكش في سياق الدورة 21 للمهرحان الدولي للفلم بمراكش ، تتجول ببطء بين الأشجار العتيقة، وكأنها تغوص في تفاصيل مشهد سينمائي حقيقي. أنجيلا، الأمريكية التي تزور مراكش للمرة الأولى، بدت مأخوذة بجمال المكان، وقالت بتأثر واضح: سمعت كثيرًا عن هذا المكان من زملائي الذين زاروا مراكش، لكنني لم أتوقع أن أجد هذا الكم من السحر. إنه مكان يأخذك إلى عوالم مختلفة؛ مزيج من الجمال الطبيعي والثقافة. أشعر وكأنني داخل مشهد سينمائي، هادئ وعميق.”

وبينما التقطت صورة لشجرة زيتون عمرها مئات السنين، أضافت: أعتقد أن هذا المكان يعكس جزءًا من هوية المغرب؛ تلك القدرة الفريدة على المزج بين التاريخ والحداثة. تشعر هنا بالانسجام بين الماضي الذي تعكسه الأشجار والطبيعة، والحاضر الذي يظهر في اهتمام المغاربة بصيانة هذا الإرث. أشعر بامتنان كبير لوجودي هنا.”

لم تكن أنجيلا الوحيدة التي تركت العرصة أثرًا عميقًا في روحها. محمد، مصور شاب كان يوثق مشاهد من الحديقة بعدسته، يقول عنها: كل زاوية هنا تحكي قصة، وكل شجرة تبدو وكأنها تخبئ أسرارًا. عندما أصور في العرصة، أشعر أنني أتعامل مع لوحة فنية حية، مليئة بالتفاصيل التي تعكس الجمال الطبيعي والعمق الإنساني.”

عرصة الفن و الإبداع

في إحدى زوايا العرصة الهادئة، كان أيوب، رسام شاب من مدينة الصويرة، يجلس على مقعد خشبي وبيده فرشاته التي تنساب على لوحة بيضاء. كان يركز على رسم منظر طبيعي يجمع بين نخلة شاهقة وشجرة زيتون معمّرة. يقول أيوب وهو يتأمل عمله: “العرصة بالنسبة لي ليست مجرد مكان، إنها مصدر إلهام. الطبيعة هنا تمنحني طاقة خاصة؛ أشعر أن كل شجرة وكل زهرة تتحدث إليَّ بلغة الفن. عندما أرسم هنا، أشعر أنني ألتقط روح المكان وأعيد إحياءها على اللوحة.”

وبينما يواصل العمل، يضيف بابتسامة: “ما يميز العرصة هو أنها تتحدث إلى جميع الحواس. ألوانها، أصواتها، وروائحها تفتح أبواب الإبداع. أزور هذا المكان كلما احتجت إلى إعادة التواصل مع ذاتي الفنية. إنها ليست مجرد حديقة، بل مساحة لإعادة اكتشاف الجمال الذي يحيط بنا“.

حول أيوب، كان عدد من المارة يتوقفون للتأمل في لوحته، وكأنهم يشاركونه لحظة إبداعه. كانت العرصة في تلك اللحظة تمثل أكثر من مجرد واحة خضراء، بل فضاءً يحتضن الفن ويعزف سيمفونية الحياة بتناسق مذهل.

حكاية لم تكتمل بعد

عرصة مولاي عبد السلام هي مساحة تعكس روح مراكش وتاريخها. إنها المكان الذي يجمع بين جمال الطبيعة وثراء الثقافة، بين الماضي والحاضر، وبين التأمل والتعبير.

وفي كل زاوية منها، هناك قصة تنتظر أن تُروى، أو لحظة تستحق أن تُعاش. ربما أنت أيضًا، حين تزورها، ستضيف إليها قصتك الخاصة. فما الذي سيُلهمك؟ الطبيعة، أم التاريخ، أم تلك السكينة التي تأخذك بعيدًا عن كل شيء؟ ربما لن تعرف حتى تخطو خطواتك الأولى داخل هذه الحديقة التي تنبض بالحياة، حديقة لا تشيخ أبدًا.

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى