عبد الصمد الكباص: احذر أن تصدق أن ما يروى هنا مجرد خيال…

بقلم: عبد الصمد الكباص
” أعرف أنك لن تصدق ذلك، لكن تأكد أنه ما حدث فعلا.” لم يدر حينها بخلدي أنني سأصير جزءا من هذه الحكاية بعد مرور ست سنوات أو أكثر. الجو لم يكن حارا، لكنه كان شبيها بذلك. كان عز الدين يحرك علبة فورتينا حمراء بين أصابع يديه، و يبتسم. الكؤوس أمامنا معجزة صغيرة. والموسيقى تغني لمكان خال إلا من الموائد التي طال صبرها على تأخر زبنائها. و كنا نضحك، ونشرب و نبني الحكايات. “ب.محمود” ذلك الصباح، كان ظلا وارفا لشجرة السعادة خلف غابات الإسمنت و الحديد و السرعة الحمقاء. “جليز” نفسه لم يكن سوى سحابة من دخان خلفناها وراءنا.
كان عز الدين يتقطع في الكلام. كل جملة تنتهي بابتسامة أو ضحكة صاخبة، أو صمت مفاجئ. جاءت النادلة. رفعت من حدة مكبر الصوت، فصار الحديث بيننا مستحيلا. قلت لعز الدين ” يبدو أن هذه الأماكن لم تعد تطيقنا، إما صراخ المعلقين على مقابلات لا تنتهي أبدا، و إما صخب المتزاعقين الجدد الذين يلاحقوننا في كل مكان.” طلبنا من النادلة تخفيض درجة الصوت، استجابت بوجه كئيب. أرثي الأيام الجميلة لمقاهي مراكش، حيث كان الواحد منا، يقرأ و يكتب و يستمتع بما يشرب و يسمع. أذكر المقهى الفسيح لمسبح الكتبية. كنت أقصده في الصباحات المشمسة من بداية التسعينيات. أعبئ حقيبتي بالكتب و الأشرطة و الأوراق، و في طريقي أشتري علبة سابليه، البسكويه الشهير حينها. و أعبر شارع محمد الخامس إلى أن أصل الفضاء الفسيح المفتوح على المسبح. أشجار ضخمة تظللنا، علوها المفرط يؤجج خيالي متعقبا تاريخها. عمرها بمئات السنين، أحدث نفسي. أجلس في مكاني المعتاد، على مائدة منزوية، بعيدا عن تلك المجموعة التي لا تغير أبدا وجوهها. أربعة أشخاص، تجمعهم صداقة الشمس و الشاي و الحشيش. يصلني أريجه فيوقظ حواسي. لست أدري من هذا الحاقد الذي جعله ممنوعا. لابد أنه فاشل في الحب. يأتي النادل، أطلب ” نص نص” كبيرة،و أسلمه الأشرطة، كل يوم حسب المزاج، جاك بريل ، فيروز ، جوداسان، أيديث بياف، شارل أزنفور، براسانس، بوب مارلي، و الثابت دائما كان يواخين رودريغو. و ما أن تشرع الموسيقى في التدفق، حتى أكون قد انسحبت نهائيا من هذا العالم، غارقا بين الأوراق و الكتب، ألتهم السابليه وأرشف القهوة الممزوجة بالحليب و أكتب. هناك قرأت أغلب كتب ميشال فوكو، و كتبت أهم فقرات ” المجرى الأنطولوجي.”
قال عز الدين ” ذهبت أمس عند ميشال.د”
” الشاعر، تقصد؟” سألته.
” نعم.”
كنت قد التقيته، بمنزل خيسوس بدرب شتوكة بحي القصبة ذات عشاء. كان معنا حسن وغلوريا و زوجها المهندس الذي صمم الكثير من الجسور بمدن مختلفة من القارات الخمس. في تلك الليلة، هيأ خيسوس طبق ” باهية” بفواكه البحر و الأرز الأسود. و وضع رهن إشارة مدعويه مائدة مكتظة بمختلف أصناف المشروبات و الثلج. كان ميشال.د آخر من وصل. بدا شاعرا في حركاته، يتحدث كما لو كان مايسترو يقود أركسترا كبيرة. تأتي كلماته متوالية بإيقاع موزون، و تنتهي بنبر واضح. جاء حاملا كتابه الجديد. لاحظت أن غلوريا تتفاداه. عندما دعتني إلى بيتها المطل على حديقة جنان الحارثي، قالت لي ” إنه كثير الثرثرة. ”
كانت الإضاءة خافتة، و الموسيقى هادئة، تستجيب للحديث الساحر و المشروبات العذبة. بدأ ميشال يروي قصة حياته. كان يتحدث بيدين تتلويان، تماما كما يفعل المغنون على الخشبة. يتكلم و يضحك بمكر. قال لي خيسوس إن اللوحة المعلقة خلفي على الحائط ، هدية من شقيقه الذي رسمها في ظروف خاصة. التفت فوجدتها بزرقة آسرة، و إضاءة متدرجة تفضي لأشكال غير قابلة للوصف. غلوريا التي عملت مع “ميرو” لسنوات طويلة، التفتت نحوي وقالت” إنها استثنائية، ألا ترى ذلك؟ّ ” وافقتها. زوجها قال” شيء من السماء سقط في اللوحة و علق بها.” أجبته” دائما أتصور الصمت أزرق كما السماء، و الكلمات غيوم تلبده. ربما السماء صمت كبير.” الكؤوس كانت تملأ بسرعة، حتى خلت أنها لا تفرغ أبدا. ميشال، يتحدث عن طفولته بين لندن و داكار حيث كان يعمل والده سفيرا. و حسن يتحدث عن موريس بلانشو، و عن الحياة اللذيذة. و خيسوس يضحك، و يملأ الصحون، ويعلق ساخرا. حكى عن طرائف علاقته مع جيرانه بدرب اشتوكة، و عن الحياة بمراكش، ومشاكل نشر كتابه الجديد.
اليوم الأخير من أبريل 2019. دعاني خيسوس لتناول العشاء بشقته بجليز قرب مطعم “ليسكال”. ذهبت رفقة حسن. جلسنا في الحديقة الصغيرة. جنة هادئة. سألته عن ميشال، فقال “أصبح ملازما لبيته بباب دكالة، قليل الحركة. المسكين صار مسنا”. كدت أخبره بما حدث لي عندما زرناه معا قبل ثلاث سنوات برياضه بباب دكالة. لكني بدلا من ذلك قررت أن أكتب. الكتابة تستدعي الصمت. يستحيل أن نمارس نفس اللذة مرتين، إما الكلام أو الكتابة.
دخل زبون آخر. سلم على عز الدين، و انزوى في طاولة بعيدا عنا. كان ذلك من حسن حظي لكي أحظى بتتمة الحكاية. أشعل عز الدين سيجارة أخرى، و قال” استقبلني بحفاوة، أراني منحوتاته الضخمة، التي تملأ أرجاء البيت. وجوه إفريقية بعلو أمتار، عيون كبيرة، تنظر إلينا باحتقار.. إيماءات مخيفة، و شفاه منتفخة بآذان أشبه بالدلاء. التفت نحوي ميشال ضاحكا، إنهم شياطين، هل تحس بنظراتهم؟” دعاني إلى المائدة، و جلبت الخادمة الطعام، وفتح قنينة من شراب الضيعة الحمراء، و صار يحكي عن كتبه. لكل كتاب مغامرة غريبة. كنت أضحك و هو يحكي، و من حين لآخر يقول، احذر لعنتهم، إنهم شياطين. لا تغفل هذا و إلا ستدفع الثمن غاليا.”
الأحد ضيف ثقيل. يوم بلا نهاية. كئيب و حقود يقضم رغبتنا في الحياة بلا مودة. أسعى دائما للتخلص منه كجسد موبوء. الأحد زائر مخيف. لا مذاق فيه للحب أو للقبلة. وحده الموت صديقه. الأحد يوم شاق للقيامة.
مر عز الدين شاعرا بين القصيدة و التشكيل، أسَرته غواية الميكروفون، عمل بالإذاعة ثم غادر في اتجاه أوروبا. حياة من الحلم الخاطف و المغامرة و الخيبة. خيبة المدينة التي يقضي فيها الناس بوجوه عابسة ثلثي حياتهم في عبور الطريق، و إطلاق منبهات سياراتهم على بعضهم البعض، و التهام الفراغ في نظرات جافة و كئيبة بالمقهى. قلت لعز الدين” هل تعرف ماهو الشر المطلق؟ إنها دراجات السي 90 ، عصاب الزمن العنيف، أصابتنا بالموت و الملل السخيف ” انفجر ضحكا و قال” إذن فلتؤلف كتابا بعنوان” السي 90، مقدمة في نظرية الشر المحض و ما بعدها.”
كنت أنظر إلى بوعكاز، السيد جوني وولكر المعلقة صورته قبالتنا في عمق المشرب، حينما قال عز الدين” دعاني ميشال بعدها، للصعود إلى سطح الرياض. حديقة حقيقية معلقة في السماء، البوغانفلييه يتسلق الجدران بكثافة هائلة، مرسلا أزهاره في الأرجاء، و أغضان أشجار ترتفع بظلال شاسعة، و بينها المنحوتات الضخمة للوجوه الإفريقية السوداء، التي أينما وليت وجهك تجدها تنظر إليك. دعاني للجلوس بمائدة وضعت عليها الخادمة صينية الشاي، و قال ” فلنشرب الشاي مع هؤلاء الشياطين.” ضحكت. فقاطعني ” تضحك، هي أيضا كانت تجلس مكانك و تضحك” سألته ” من هي؟” فأجاب بعينين لامعتين كما لو كان يحكي أحجية لتسلية طفل يهم بالنوم” صحفية فرنسية شابة، جاءت لتجري حوارا معي. بعدما أنهت مهمتها، أهديتها بعض كتبي، و دعوتها لتناول الشاي بالسطح. و عندما قلت لها نفس الكلام عن الشياطين، داهمها ضحك هستيري، و سألتني :هل تود أن أضيف هذه الملاحظة إلى الحوار؟” فنبهتها بأن كل من يهزأ بهذه المنحوتات ينال حقه من نحسها. أنهت كأس الشاي، و همت بالمغادرة. عندما وصلنا الباب مددت يدي لمصافحتها وتوديعها، و لم تكد تضع يدها في يدي حتى رن هاتفها. سمعتها ترد” أوه، كيف حدث هذا، مستحيل، هل تتحدث بجدية؟” عندما أنهت المكالمة، توجهت إلي بملامح يائسة ” آسفة ميشال، يبدو أن هذا الحوار لن يُكتب له النشر، الجريدة أغلقت أبوابها.”
كنت أظن أن كل ما سمعته من هلوسات الزجاجات التي تراكمت أمامنا، من إبداع السائل الذهبي الذي يصير معه العطش لذيذا، إلى أن فاجأني عز الدين بتتمة ذلك اليوم الذي يبدو أنه لم ينته أبدا. ” عند المغيب، تركت ميشال رفقة شياطينه. ودعني عند باب الرياض، وكان آخر ما قاله لي و هو يقهقه ” تذكر تلك الصحفية الشابة و ما وقع لها عند هذا الباب..” توغلت في باب دكالة و الرميلة، و عرجت على فحل الزفريتي ثم جامع الفنا، أخذت قهوة إكسبريس بأحد مقاهي الساحة. و عندما صارت السماء سوداء، ركبت سيارتي عائدا إلى البيت. مررت أولا من شارع الحسن الثاني، و انعطفت في اتجاه شارع فرنسا. كنت أنصت لمحمد منير رافعا من درجة مكبر الصوت، و أقود باستمتاع، و أفكر في جنون ميشال و هلوساته. و ما كدت أصل قصر المؤتمرات، حتى سمعت صوتا مذويا، و رأيت أدخنة متأججة، تتصاعد أمامي من مقدمة السيارة. عندما استفقت من وقع الصدمة، كان محرك سيارتي قد احترق.”
اختفى عز الدين. عندما رأيته لأول مرة بعد أزيد من سنة عن لقائنا ب”ب . محمود” أخبرني أنه تزوج. و عندما التقيته مرة أخرى بعد سنتين، أخبرني أنه ترك الإذاعة و انتقل إلى أكادير، و بعد مرور سنة أخرى، أخبرني أنه انفصل عن زوجته. بعدها اختفى، إلى أن سمعت أنه هاجر إلى أوروبا.
جاء الموت دفعة واحدة. مات جدي، و بعده خالي، و بعده جدتي، و بعدها صهري. مات الكثيرون دون أن أتعرف على أسمائهم. التقيت خيسوس لأول مرة بعد عودته من هافانا. أخبرني أن والده مات أيضا، و كذلك شقيقه. داهمه الموت هو الآخر من كل جانب. التقينا في مقهى الفنانين في زنقة الحرية. مقهى صغير مليء بالأسرار و الحكايات. مراكش الجميلة هي هذه، المكان غير الشفاف، الأشبه بسر خطير، الذي لا يمكن أن تعثر عليه بسهولة. و عدا ذلك فهي مكان للكلاب الضالة، و الجموع اللاهثة، و المضاربين الذين لا يُروى عطشهم أبدا.
كنا نجلس بسطح المقهى قبالة محل للشوكولا. طلب خيسوس زجاجة كوكا باردة، و طلبت إكسبريس. قال لي ” ميشال، يدعونا للغداء غدا. ما رأيك؟” أجبته بدون تردد ” و لما لا؟” اتفقنا على أن نلتقي قرب حمام الكرماعي بباب دكالة في الثانية عشرة و النصف. لم تزد ثانية واحدة على الموعد عندما رأيت خيسوس أمامي. كان يرتدي قميصا أبيض و سروالا حريريا من نفس اللون، و يضع على رأسه شابو أبيض أيضا. بدا لي كما لو أتى للتو من شاطئ الكوت دازور. كان خفيفا، غير مثقل مثلي بالخيبة و الضجر من كل شيء. الكلفة القاتلة لأن تكون مغربيا في هذا الزمن. اخترقنا الجموع بسرعة، توغلنا في قلب سويقة سيدي مسعود المكتظة بباعة الخضر الذين يعرضون بضائعهم على الأرض. وعرجنا يمينا. طرقتان كانتا كافيتين ليفتح ميشال الباب. رحب بي بحرارة. رياض جميل، ماء يتوسطه و خضرة في كل مكان. لوحات زيتية، ومنحوتات ضخمة لوجوه أفريقية. تذكرت عز الدين. سألته” هل أنت صاحب هذه المنحوتات؟” أجباني ” نعم، أثر طفولتي في السينغال. توقفت عن نحتها عندما قيل لي أن كل نخيل المغرب هو ملك للملك، لا أحب أن أقع في مشاكل كبيرة .” سألته ” من أخبرك بهذا؟”
” سائق الطاكسي، عندما طلبت منه أن يرشح لي شاحنة صغيرة، لجلب جذوع أشجار النخل التي أنحت عليها الطواطم الإفريقية، نبهني إلى خطورة هذا الفعل، لأنه اعتداء على ممتلكات ملك المغرب..” قلت له ضاحكا ” غير صحيح، فقد هذه الاشجار محمية ..”
تجول بنا ميشال في أرجاء الرياض. حمل مجموعة من الكتب بعناوين مختلفة، وأخذ يتحدث عن كل واحد منها. دواوين و نصوص سردية و مسرحيات تحمل اسمه. خلف كل واحد منها حكاية. رفعت رأسي قليلا، فتقابلت عيناي مع نظرات طوطم ضخم، وجه إفريقي بنظرات حادة، تختزن كمية من القسوة و الألم كفيلة بإغراق التاريخ إلى نهايته. نظرات تفيض من عينين متدليتين، أحسست أنهما تؤنباني على ذنب لا أعرف ما هو . لم تكن المنحوتات هي ما يدهش فقط في هذا المكان الموسوم بأناقة فائقة. لكن بالدرجة الأولى المجموعة المبهرة من اللوحات التي اقتناها من بريطانيا و إيطاليا و فرنسا و هولندا.. متحف حقيقي لاشيء فيه مقرف عدا الكلب كبير الحجم الذي يرافق ميشال في كل تحركاته.
جلسنا إلى مائدة الطعام. و جاءت الخادمة بالأطباق. و انطلقت الحكايات بين خيسوس وميشال. حكاياتهم بمراكش، حكايات صديقاتهم و أصدقائهم الذين قادهم الحلم إلى هذه المدينة الأشبه بدخان ينبعث من مصباح سحري. سأله خيسوس” هل من أخبار عن بتريسيا؟” أجابه ميشال ” المسكينة، تقلبت بها الأحوال في مراكش، و أسقطتها من القمة بلا رحمة..”
جاءت بتريسيا من أستراليا إلى مراكش. تزوجت ملياردير روسي. و أنفقت ثروتها على رياض كبير بدرب سنان. و حولته إلى دار للضيافة. قال خيسوس ” عندما يرغب الزبناء في الحجز لديها، كانت تخضعهم لاختبار غريب، من مثل هل تشاهد التلفزيون؟ هل تنصت لكلاسيكيات الموسيقى الغربية، كشوبير و مندلسن و شوبان ؟ إذا أجبت على السؤال الأول بالإثبات لن تقبلك، و إذا أجبت بالنفي على السؤال الثاني، فذلك أسوأ لأنها لن تكتفي بإلغاء الحجز، لكن قد توجه لك نقدا لاذعا ك” أدِّبْ حواسك أيها السوقي.” قلت لها غير ما مرة: بتريسيا، لا يمكن أن تسيّري مشروعا سياحيا بهذه القساوة. فأجابتني ” خيسوس، لا أهادن السوقة و لا أحتمل وجودهم ..”
قاطعه ميشال” مسكينة بتريسيا، محنتها الكبرى كانت هي رياضها. هل تعلم كيف تعارفنا؟ أوصتها صديقة بريطانية بزيارتي. كانت تأتي صباحا، و نشرب الشاي معا، وتتهكم على شياطيني. في المرة الثالثة دعتني لزيارتها بالرياض الذي اقتنته بثمن باهظ بدرب سنان. كنت في الرابعة بعد الظهر، بباب إقامتها. رياض ضخم، لكني شممت رائحة مقلب كبير من قبل المهندس و الوسيط الذي باعها هذا الرياض. لاحظت آثار الماء تتسلق جدران البناية. فقلت لها احذري، هذا الوضع غير عاد. إنه ليس رطوبة، لكن علامة مجرى مائي في أساسات البناء. ضحكت،و قالت ” ميشال لا تبالغ، سألت المهندس، وطمأنني بأنه أمر أكثر من عاد بمراكش.” أعدت الخادمة مائدة العشاء في صحن الرياض تحت الأشجار. كنا مندمجين في حديث حميم عن الحياة و الكتابة، و عن كرهها للتلفزيون وثقافة البوب، حينما سمعنا صوتا مذويا. كان من أغرب ما شاهدته في حياتي، غبار كثيف، و من خلاله بدا لي كما لو كنا نجلس في الشارع، ظهر لي المارة يتحلقون بعيدا عنا. بعدها انتبهت إلى أن جزءا كبيرا من البناية قد انهار. من حسن حظنا أننا كنا في فناء الرياض نتوسط الأشجار، و إلا كان مصيرنا أسوأ.. بعدها استقدمت مهندسا من سويسرا للإشراف على إعادة البناء. ورثها ذلك حالة شك مرضية اتجاه كل ما هو مغربي. قالت لي غير ما مرة، هؤلاء الناس غير موثوق فيهم، يفرطون في الصلاة و الغش و الرشوة.. ”
كان ميشال يتحدث، و أنا أتذكر الصحفية الفرنسية الشابة و سيارة عز الدين المحترقة، و الآن انضافت ضحية أخرى. قلت في نفسي ” يبدو أنه شاعر ملعون، كل من يقترب منه يحترق بلعنته.. ” قاطعه خيسوس ” موقفها من المغاربة مبالغ فيه، قلت لها ذلك. لكن الأمر المثير فيها أنها ذات ثقافة عميقة و غنية.”
” نعم، يجيب ميشال، مع الأسف كان لذلك مفعول عكسي. زادها غطرسة. تصور أنها كانت تمر من الدرب، متحاشية النظر إلى السكان. لكن مكر الزمن كان أكبر منتقم . مات زوجها إثر أزمة قلبية، فدخلت في نزاع مع أبنائه. حجزت المحكمة على كل الأرصدة البنكية. فوجدت نفسها فجأة في قمة الفقر ليس لها ما تعيش به. و لشهور طويلة صار الباعة البسطاء، يجمعون لها الخضر مجانا و الجيران يمدونها يوميا بالخبز، و يتقاسمون معها كسكس الجمعة..”
دعانا ميشال إلى الصعود إلى السطح لتناول الشاي. كانت المدينة بكاملها تتجمع أمامنا. أشجار و ورود. عندما لاحظ أنني منشغل بمنحوتاته الضخمة قال لي ضاحكا:” لا تكترث لشغب هؤلاء الشياطين. إذا لفتت انتباههم فسيكون ذلك مكلفا..”
في مساء نفس اليوم كنت على موعد مع صديقة تعمل في فضائية غربية . ذهبت رفقة زوجتي إلى المطعم، و تركنا ياسمين و غالي عند جدتهما. وجدنا صديقتنا تنتظرنا رفقة والدها وابنتها. كنا نتعامل مع الأطباق التي ملأت المائدة، عندما تعالى صراخ هاتف زوجتي. تضايقتُ، فأنّبْتُها قبل أن ترد” كان من الأحسن أن تغلقيه.” لم تعلق. سمعتها تجيب ” يده؟ اليسرى؟ سقط؟ يبكي كثيرا؟” سألتها ” هناك مشكل؟” أجابتني ” غالي، سقط و يده اليسرى تؤلمه.” سألني والد صديقتنا ” كم عمره الآن؟ ” سنتين و نصف، أجبته. مرت عشر دقائق على المكالمة الأولى، فرن الهاتف مرة ثانية. مضمونها كان مقلقا. غادرنا فورا. عندما وصلنا البيت حاولت أن أفحص يده، فبدأ يصرخ. لاحظت أن المرفق الأيسر منتفخ. كانت العاشرة و الربع ليلا حينما وصلنا إلى المصحة . استدعوا طبيب أطفال. بمجرد أن ألقى نظرة على غالي ، قال ” لا، هذا الطفل يحتاج إلى جراح عظام.” وانصرف. انتظرنا حوالي نصف ساعة . حضر طبيب آخر. أمسك باليد المنكوبة. فقال ” يجب أن يخضع لفحص بالأشعة لأن هناك احتمال كسر.” أنزلناه إلى الطابق تحت الأرضي، حيث مصلحة الفحص بالأشعة. علق الطبيب الصورة، و قال ” نعم، كسر مزدوج في المرفق…” كانت الجملة أعنف من طلقة نارية في الرأس. شرح ما الذي ينبغي فعله. و ختم قائلا ” لا بديل عن عملية جراحية، لتثبيت المرفق بالحديد.. سنخدره كليا ..” أمه تبكي. و أنا أحاول أن أجعل الأمور تبدو عادية.
خرج الطبيب من غرفة العمليات، أعاد شرح ما قام به. كانت الساعة حينها قد تجاوزت الواحدة صباحا. دخلنا إلى فضاء الإنعاش، فوجدنا الصغير أشبه بعصفور غارق في نومه، و إلى جانبه ممرضة. قالت لنا من الأحسن أن تبقى أمه معه. في الثالثة صباحا، نقلوا الطفل و أمه إلى غرفة في الطابق الثاني. عندما غادرتُ المصحة كانت الرابعة و النصف، صباحا. كنت أقود سيارتي، و أقول ” هكذا ينتهي يوم تلتقي فيه شاعرا ملعونا..”
ثلاث سنوات بعد ذلك. الأسبوع الأخير من يناير 2019. جاءتني صديقة تدرس الصحافة، و طلبت مني إن كنت أعرف مثقفا أجنبيا يقيم بمراكش. قلت لها ” مع الأسف الروائي خيسوس انتقل للعيش بهافانا، و خوان مات منذ أزيد من سنة. و لم يبق سوى ميشال. لكن حكايات غريبة تحوم حوله..” سألتني ” مثل ماذا؟” أجبتها” كل من يلتقي به، إلا و يتعرض لمكروه، بتريسيا انهار رياضها، و عز الدين احترقت سيارته، و الصحفية الفرنسية شردت من عملها بعد إغلاق الصحيفة التي تعمل لحسابها و هي لم تغادر بعد بيته…” ضحكت قائلة ” طيب سأذهب، وسأرى ما الذي سيحدث معي..” لم أجرؤ على إخبارها كيف انتهى اليوم الذي استقبلني فيه ببيته.
في اليوم الموالي أخبرتني أنها اتصلت به، و حددت معه موعدا لزيارته في بيته بعد الظهر. تمنيت لها حظا سعيدا. في المساء هاتفتني. كانت جد سعيدة ” أنجزتُ حوارا رائعا معه، قالت، إنه لطيف للغاية و خفيف الدم، أضحكني كثيرا بحديثه عن منحوتاته، قال لي إنها ليست منحوتات و إنما شياطين..إنه عذب، حقيقة رجل عذب…” لم أعلق، و اكتفيت بمجاراة ضحكها، لأنني كنت أرغب في إنهاء المكالمة بأسرع وقت، لأتفرغ لترتيب موضوع السفر في صباح الغد مع المبارك و مولاي الحسن.
في الصباح، كان مجيد يقود السيارة، و إلى جانبه المبارك، و أنا و مولاي الحسن في الخلف. في المساء استلمنا غرفنا بفندق “طارق” بالفنيدق. بعد تناول وجبة العشاء. اتفقنا على أن نلتقي بغرفة المبارك، لنسهر قليلا. صعدت أولا إلى غرفتي. لآخذ هاتفي الذي تركته يشحن. عندما تفقدته، ظهرت تباعا على الشاشة خمس رسائل من صديقتي صحفية المستقبل. آخرها يقول ” أتمنى أن نلتقي في العالم الآخر..” الذي قبله ” لم أعد أستطيع أن أتحمل..” الثالث يقول ” سأنهي هذه الحياة، انتقاما منهم.” الثاني ” ابتلعتُ 26 حبة من عقار (..) المضاد للاكتئاب” و الأول يقول” لا بديل عما سأقوم به..” لم أتبين حقيقة ما انفجر أمامي. اتصلت بصديق مشترك ” هل لديك أخبار عن صديقتنا؟” فرد ” مصيبة، ما حدث لها مأساة لم نكن ننتظرها. بالأمس قابلت الكاتب البريطاني الذي نصحتَها بلقائه. وكانت في غاية السعادة. لكن والدتها قالت لنا بعد ذلك، إن كل شيء انقلب في المساء. تكدرت، و صارت تتهم أصدقاءها بخيانتها، في اليوم الموالي، أخذت خلسة مصفوفات من حبوب مضادة للاكتئاب . و جاءت إلى المعهد، و اختلت بنفسها في المرحاض لتتناولها بكاملها. وبعدها خرجت تضحك، مخبرة إيانا بما ارتكبته. اتصلت بوالدتها. نقلناها فورا إلى المستعجلات. أخضعوها لغسيل الأمعاء. لست أدري ما الذي حدث معها؟ لم تكن أبدا هكذا..”
استعجلني مولاي الحسن. نزلت إلى الطابق الأول حيث غرفة المبارك. هناك تستوي المؤونة. غرفة فسيحة، بشرفة تطل مباشرة على الشارع. وجدت امجيد مشغولا بإعداد الأوراق الهشة التي يحب إحراقها بين أصابعه. من الشرفة كانت الأمطار تغسل الشارع المنحدر مباشرة اتجاه الفندق، على اليسار مقر الدرك، و قبالته مركز الشرطة. أخلى الباعة المكان نهائيا. قال لي مولاي الحسن ” اتفقنا على أن نلتقي بعد دقائق، و ليس بعد ساعات..” أجبته ” مكالمة غريبة هي التي أخرتني..” فشرعت أحكي القصة الكاملة بداية بلقائي بعز الدين ب ” ب. محمود” منذ أزيد من تسع سنوات، الصحفية الفرنسية، السيارة المحترقة، رياض باتريسيا المنهار، الكسر المزدوج للمرفق الأيسر لابني ذي السنتين و نصف، ومحاولة انتحار صديقتي التي تدرس الصحافة. كان مجيد يتابع تطورات القصة و يضحك، مولاي الحسن يستغرب و المبارك يشكك. قلت لهم هذا ما يحدث دائما مع هذا الرجل، كلما أثيرت سيرته إلا و تحدث مأساة. لم أكد أكمل هذه الجملة، حتى سمعنا صوتا مخيفا، أطللنا من الشرفة، فإذا بنا نرى سيارة سوداء من نوع فولكزفاكن، تنزلق في الشارع متجهة مباشرة إلى واجهة الفندق الذي نقيم فيه بسرعة مخيفة، تلتف على نفسها و تخترق الرصيف و تصدم بناية في الركن الأيسر من منعطف الشارع. رأينا مشاهد غريبة بعدها.
جاءت سيارة كاط كاط بيضاء. و حملت بسرعة سائق السيارة . و مضت . مباشرة بعدها توقفت سيارة من نوع داسيا، خرج منها ثلاثة أشخاص، اقتلع أحدهم الترقيم الخاص بالسيارة السوداء التي تعرضت للحادث، و توقفت سيارة أخرى و تسلمت لوحتي الترقيم المنزوعتين، و كذا بعض محتويات السيارة و انطلقت بسرعة جنونية. و جاءت بعدها سيارة أخرى خرج منها شخصان، و ركبا السيارة السوداء المنكوبة، و مكثا فيها إلى أن حضر رجال الشرطة بعد أزيد من ساعة، رغم أن الحادث وقع على بعد مترين من مقر مفوضية الأمن. لم نفهم ما الذي كان يحدث بالضبط. لكني أذكر أن أول تعليق جاء من مولاي الحسن الذي خاطبني ” رجاء لا تثر بعد اليوم اسم ذلك الرجل..” امجيد بدا جديا أكثر وقال” لم أكن أتخيل أن يأتي الرد بهذه السرعة.. لا تذكره مرة أخرى و خاصة في طريق عودتنا..” في البداية كان اسم ميشال مزحة مضحكة ، و أصبح تهديدا مخيفا..
قريبا سيصبح كل شيء ظلا. إذا كانت الحياة حلما، فما الذي يحدث عندما أفيق، يتساءل بول أوستر. كنت أدق الجدار لكن لا شيء انطفأ. أضعت قمرا صغيرا و شمسا خجولة وبحرا معبأ في كأس مملوءة بمكعبات الثلج اللذيذ. في مراكش، تذوب الأرض تحت أقدامنا. نعطش فنفكر في الغيمة الضائعة بين الرياح. قررت أن أكتب عن ميشال. كل جملة انتصار. أراكم الجمل و الفقرات. فجأة ينقطع التيار الكهربائي، فأخسر كل شيء. لم أستسلم. حملت صخرة سيزيف، و عاودت الصعود. فقرة، فقرتان، ثلاث فقرات، أربع.. يمر غالي يسحب الكابل ، و يجر معه الحاسوب. ينكسر. أفقد كل شيء مرة أخرى. تتراكم الخسائر. أحمل الصخرة مرة ثالثة. أقتني حاسوبا مستعملا، يقتلني ببطئه. أعاند للكتابة من جديد. ينفجر ألم يمتد من الرقبة إلى الكتف، تتخدر الإبهام و السبابة. و يتركز الوجع في المرفق. ليالي بيضاء متوالية من دون نوم. أشعة و أدوية، و كثير من الألم و اليأس و سيل من النصائح. و أحاول استئناف الكتابة. أصاب بالحمى، و السعال. و يكتشف الطبيب فائضا قاتلا في التريغريسيريد. فأطرد السكر من فنجان قهوتي، و أضطهد الخبز و اللحم.
بعثت بالنص إلى صديق شاركنا تجربة “الفنيدق” وشاهد ما حكيت عنه. و ما هي إلا ساعات قليلة حتى وصلتني منه هذه الرسالة:
“منتشيا بكؤوس البيرة و بالسحر الذي يرشح من الحكي و أنا أتابع قراءة نصك الملعون تذكرت رعب جوزيف برودسكي كلما صادفه تمثال لينين .. تراءت لي احدى اللوحات المرعبة للرسام بيل ستونهم و و ما تلاها من لعنات .. و كنت أتساءل :هل للعنة تاريخ ، و هل يمكننا التأريخ لها في ارتباطها بالفن عموما و بالشعر على نحو مخصوص ؟.. فجأة يرن الهاتف أفتح المكالمة يجيبني صوت متهدج عرفت فيه بالكاد صوت زوج ابنتي كان يستعجلني بضرورة اللحاق به أمام العمارة.. نزلت مسرعا .. كان يقف شاحبا مخاطبا اياي بما يشبه التمتمة : ” لا أعرف مالذي وقع ! كنت قبل قليل مع “أ” – ابنتي- نتحاور حول مشكل بسيط حين انفعلت و أسقطت من بين يديها زجاجات من العسل الحر المصفى ، و اختفت فجأة ..” قلت له مهدئا : لا تقلق ، خلاف عادي و حالة غضب عابرة .. ثم طمأنته و رحل . عدت الى البيت و لم تكن فيه ابنتي”أ” .. بحثنا عنها في محيط العمارة و في الحي و كل شوارع المنطقة و لم نجد لها أثرا .. و عندما كنت على أهبة الخروج من باب العمارة للمرة الرابعة بحثا عنها ، بعد ساعتين من الغياب ، ظهرت فجأة أمامي بوجه واجم كالح و عينين منتفختين من أثر البكاء .. رافقتها الى البيت ، دلفت الى غرفتها و غرقت في ما يشبه الكآبة …هل يمكن لنص أن يكون شريرا ، و أن لا تكف دائرة الشر فيه عن الاتساع ؟؟ بدا لي نصك أشبه بفيروس كورونا الذي يجد حاضنته في خلل ما فيتكاثر و يتسع .. ”
أعرف أنه نص مشؤوم. من ينشره يُحرق، و من يقرأه يموت. لا تنس أبدا، الإمبراطور الوحيد هو إمبراطور الآيس كريم.
.