ثقافة

عابد الجابري وجورج طرابيشي.. صداقة انتهت إلى صراع حول نقد العقل العربي

عبد الإله إصباح 

محمد عابد الجابري و جورج طرابيشي مفكران عربيان جمعتهما صداقة طويلة وفرقهما خلاف حول العلمانية. عندما أصدر الجابري مؤلفه ” نقد العقل العربي ” سنة 1984، كتب جورج طرابيشي مقالا بمجلة الوحدة يحتفي فيه بالكتاب ويقول عنه بأنه كتاب لا يثقف فقط بل يغير . وقد أشار جورج طرابيشي إلى متانة العلاقة بينه وبين الجابري عندما تحدث عن علاقتهما منذ الفترة الجامعية بالعاصمة السورية دمشق وعن العديد من لقاءاتهما بالعاصمة الفرنسية باريس، وفي إحدى تلك اللقاءات يتذكر طرابيشي أنهما احتسيا كؤوسا من الويسكي وهما يسترجعان محطات من ذكرياتهما المشتركة. ولكن هذه الصداقة لم تصمد أمام اختلافهما حول العلمانية. فمن المعروف أن الجابري كان دائما يتحفظ من هذا المطلب ويرى أن لا داعي للتشبت به عند الحديث عن الديمقراطية ويقترح بدلا عنه العقلانية باعتبارها هي البيئة الفكرية اللازمة لاحتضان الديمقراطية وتطورها، بخلاف ا.علمانية التي تثير حساسية لدى جزء كبير من الرأي العام العربي والإسلامي، وتؤدي إلى نزاعات و خلافات من شأنها أن تعيق أي توافق حول الديمقراطية. وكان جورج طرابشي على العكس من ذلك يرى أن الديمقراطية لا يمكن أن يستقيم لها وجود دون الارتكاز على العلمانية، فهي شرطها اللازم والضروري لها.

هذا الاختلاف حول العلمانية تطور وامتد ليمس جل أطروحة الجابري حول العقل العربي كمفهوم وقضايا وإشكالات. وهو ما دفع بطرابيشي الى أن يقضي ثمان سنوات معتكفا على أمهات كتب الثرات في الفقه والحديث وعلم الكلام والفلسفة لتكون حصيلة هذا التفرغ خمسة أجزاء في نقد أطروحة الجابري متجاوزا بذلك العدد الذي خصصه الجابري لبناء أطروحته والمتمثل في أربعة أجزاء. وهاهنا يعترف طاربيشي بفضل الجابري عليه، فأطروحته هي التي دفعته إلى الالتفات إلى الثراث العربي  وإنجاز أطروحة مضادة في تفنيد أطروحة صديقه الجابري. وقد كثف جورج طرابشي جوهر خلافه مع الجابري حول العقل العربي قائلا:” ذلك أن صاحب مشروع العقل العربي ما كان وجد من تعليل لظاهرة استقالة العقل في الأسلام سوى الغزو الخارجي _ على منوال حصان طروادة_ من قبل جحافل اللامعقول من هرمسية وغنوصية وعرفان مشرقي وسائر تيارات ” الموروث القديم ” التي كانت تشكل بمجموعها ” الآخر ” بالنسبة إلى الإسلام والتي اكتسحت  تدريجا، وتسللا، ساحة العقل العربي الإسلامي حتى أخرجته عن مداره وأدخلته في ليل الانحطاط الطويل. وبالمقابل امتنع الجابري امتناعا شبه تام عن تفكيك آليات أفول العقل واستقالته من داخله.” ( جورج طرابيشي، من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث ص: 635 )

لقد استغرق جورج طرابيشي مدة عشرين سنة في إنجاز أطروحته بأجزائها الخمسة، وعندما كانت مسودة الجزء الخامس في المطبعة وصلته أنباء نعي الجابري يوم 3 ماي 2010 وقد اعتبرأن هذا النبأ  قد وضع نهاية إضافية لربع قرن من حوار بلا حوار، وهو يقصد بذلك أن الجابري لم يسبق أن ناقشه أو رد عليه طيلة هذه المدة الطويلة من الزمن، على الرغم من أن طرابيشي ناقش الجابري في تفاصيل وقضايا جوهرية من أطروحته بدءا من قضايا ومفاهيم مرتبطة بالعصر اليوناني مرورا بتلك المرتبطة بالتراث العربي الإسلامي وصولا إلى إشكاليات العقل في عصر النهضة الأروبية والزمن المعاصر.

وقد نستغرب لموقف الجابري  في عدم رده ومناقشته لما جاء في أطروحة صديقه، إذا علمنا أنه باشر حوارا بناء ومثمرا مع المفكر المصري حسن حنفي على صفحات صحيفة اليوم السابع الفلسطينية وهو الحوار الذي دار حول مواضيع العقلانية والديمقراطية والعلمانية وغيرها من قضايا الفكر العربي، وتم نشره فيما بعد في كتاب بعنوان حوار المشرق والمغرب. كما لا يجب أن ننسى ان الجابري سبق له أن ناقش عبد الله العروي بتفصيل حول أطروحته عن  التاريخانية على صفحات جريدة المحرر بمناسبة انعقاد المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي في أواسط السبعينات، وهو الحوار الذي لم يرد عليه العروي  تماما كما فعل الجابري مع جورج طرابيشي. ولعل السؤال الذي يفرض نفسه في هذا المقام هو لماذا يرفض بعض المفكرين الدخول في حوار مع من يناقش قضايا اساسية من اطروحتهم؟ هل يكون هاجسهم هو الحفاظ على بنيان الأطروحة متماسكا، ولذلك يتجنبون أي نقاش قد تطفو منه مفارقات وتناقضات تمس اسس ذلك البنيان: ربما قد يكون ذلك هو الدافع وربما قد تكون هناك دوافع أخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى