مبدعون في الحياة

ظالميا: رواية الصراع بين الأمل والخيبة في مجتمعات الهامش للروائي سيف المفتي

زكية خيرهم/ كاتبة مغربية مقيمة في أوسلو

عندما فتحت صفحات رواية “ظالميا” للروائي العراقي المغترب محمد المفتي، لم أكن أتوقع أن أجد نفسي غارقة في عالم يجمع بين الرمزية الاجتماعية والسياسية، وبين سرد غني بالواقعية والحلم. الرواية لم تكن مجرد قصة عن قرية هامشية، بل كانت مرآة لمجتمعات تعاني من أزمات متشابكة تعكس واقعية قاسية.

منذ اللحظة الأولى، شعرت بأنني أمام عمل أدبي يتجاوز الحدود الجغرافية ليضعني في مواجهة مع قضايا إنسانية عميقة مثل الظلم، التهميش، والصراع بين الأمل واليأس. تُعتبر “ظالميا” من الأعمال الأدبية التي تتناول مجموعة متنوعة من الموضوعات الاجتماعية والاقتصادية والدينية المتشابكة. وعلى الرغم من أن الرواية قد تبدو للوهلة الأولى كحكاية محلية تجري أحداثها في قرية صغيرة نائية عن المدن الكبرى، إلا أن الكاتب يستخدم هذا الإطار المحلي لتقديم صورة أوسع عن صراعات إنسانية ذات طابع عالمي. تتجاوز الرواية حدود الجغرافيا المحلية لتسلط الضوء على قضايا مثل الفقر والتهميش والهوية في مجتمعات تتأرجح بين الأمل والخيبة. هذا المنظور الرمزي يعمق فهم الرواية، ويضعها كبنية أدبية معقدة تستحق التحليل والنقد.

في رواية “ظالميا”، يُبرز الكاتب معاناة المجتمعات المهمشة التي تكافح من أجل البقاء في ظل ظروف اقتصادية خانقة وتوترات اجتماعية متزايدة. يسرد الكاتب قصة قرية “ظالميا” وسكانها الذين يعيشون تحت وطأة الظلم الاجتماعي والاقتصادي، حيث تعكس الرواية الفجوات الطبقية الشديدة والفقر والبطالة. الشخصيات، رغم سعيها للهروب من واقعها القاسي، تجد نفسها عالقة في دوامة من الأزمات التي لا تنتهي. “ظالميا” تصبح رمزًا شاملًا للظلم الاجتماعي والاقتصادي والديني. فالقرية لا تمثل مجرد مكان جغرافي، بل هي استعارة لكل منطقة أو مجتمع يعاني من الفساد والقهر. هذا الربط بين القرية والواقع العالمي يجعل القارئ يستوعب أبعاد الرواية التي تتجاوز المحلية، لترتبط بأوضاع المجتمعات المهمشة في أي مكان في العالم. في الرواية، يتجسد الأمل في عودة شخصية “أنطوان”، الذي يمثل الحلم بالتحسن الاقتصادي والاجتماعي. إلا أن هذا الأمل سرعان ما يتلاشى، حيث تتحول وعود التغيير إلى خيبة أمل جماعية.

الرواية تعرض بوضوح التناقض بين الأمل والخيبة، وتوضح كيف أن الطموحات الكبيرة تصطدم بالواقع القاسي. من خلال هذا التفكك، تعكس الرواية الصراع بين الحلم والواقع، وتطرح تساؤلات حول دور الأمل في حياة الفئات المهمشة. يمثل الصراع الطبقي والديني جزءًا جوهريًا من بنية الرواية. من الناحية الطبقية، نجد الفجوة الكبيرة بين الأثرياء والفقراء واضحة، حيث تسعى الشخصيات الثرية لتعزيز مكانتها، في حين أن الشخصيات الفقيرة تعيش على هامش المجتمع.

أما على المستوى الديني، فإن الرواية لا تتجاهل التوترات بين المسلمين والمسيحيين، بل تستخدمها لفضح كيفية استغلال الدين لتعميق الفجوات الاجتماعية. الدين في “ظالميا” يظهر كعامل للتفرقة، وليس للتوحيد، ويستخدم من قبل الشخصيات كذريعة لتبرير العدوان والتمييز، مما يزيد من حدة الصراع. من خلال تناول قضايا الفقر، والصراع الديني، والخيبة الناجمة عن الوعود الاقتصادية والسياسية غير المحققة، يقدم الكاتب صورة واقعية لمجتمعات تعيش تحت ضغط هذه الأزمات. شخصية أنطوان في الرواية تمثل التناقض بين النجاح والفشل، بين الأمل والخيبة. في البداية، ينظر إليه أهل القرية على أنه المنقذ الذي سيحقق لهم التغيير الذي طالما انتظروه. رؤيته كرمز للنجاح تأتي من وضعه الاجتماعي والوعود التي قدمها لأهل القرية بتحسين أوضاعهم المعيشية. ولكن سرعان ما يبدأ هذا الأمل في التلاشي عندما تفشل وعوده في التحول إلى واقع ملموس، وتبدأ شخصيته في التحول إلى رمز للخذلان وخيبة الأمل الجماعية.

هذا التناقض في شخصية أنطوان يعكس تناقضات أكبر داخل المجتمع الذي يعيش فيه، حيث تصطدم الطموحات الفردية والجماعية بالواقع القاسي والقيود الاجتماعية والاقتصادية. الرواية تسلط الضوء على الفجوة بين ما نعتقد أنه ممكن تحقيقه وبين القيود التي تمنع ذلك، مما يخلق حالة من الإحباط والخيبة بين الشخصيات، وخاصة تلك التي وضعت آمالها في شخص مثل أنطوان. هذا التحول من رمز للأمل إلى رمز للفشل يعمق الصراع بين الحلم والواقع في الرواية، ويعكس كيف يمكن أن يتحول الأمل نفسه إلى مصدر للمعاناة عندما يصطدم بواقع لا يرحم. هذه الشخصية تُظهر القيود الاجتماعية التي تحول دون تحقيق الطموحات الفردية. أما ماما ليلى، فهي تمثل الانتظار الطويل والتضحيات التي تُبذل دون جدوى، حيث تظل محاصرة بخيبات أمل عائلية وشخصية، ما يعكس الصراع الداخلي بين الواجب العائلي والاحتياجات الفردية. في النهاية الدرامية للرواية، تعود الشخصيات إلى نقطة الصفر، مما يعكس التشاؤم العميق الذي يسيطر على الرواية.

بالرغم من كل المحاولات للخروج من دائرة الفقر والظلم، تبقى الشخصيات عالقة في نفس الأزمات. هذه النهاية تعكس فشل المجتمع بأكمله في تجاوز مشاكله، وتوضح أن وعود التغيير كانت مجرد وهم. الرواية تُظهر أن الصراعات الاجتماعية والدينية والاقتصادية ليس لها حل، بل تظل ثابتة، ما يخلق إحساسًا بأن المحاولات للتغيير هي دورات متكررة من الأمل والخيبة. في “ظالميا”، تتجلى القصة المحلية كمرآة تعكس الصراعات الإنسانية العالمية، حيث يتصارع الفرد والمجتمع بين الأمل والخيبة. الرواية تقدم رؤية عميقة عن الصعوبات التي تواجهها المجتمعات المهمشة، وتعكس الصراعات الطبقية والدينية التي تقسم المجتمعات. النهاية الدرامية للرواية تترك القارئ أمام إحساس قاتم بأن الصراع المستمر بلا نهاية، مما يعزز الإحساس بالتشاؤم والعبثية في محاولات تحسين الواقع.

رواية “ظالميا” تُعد نموذجًا قويًا للأدب المعاصر، الذي يسلط الضوء على القضايا الإنسانية المعقدة، ويطرح أسئلة حول كيفية مواجهة الفقر والظلم والصراع الاجتماعي. إنها قصة تجمع بين الأمل واليأس، وتحفز القارئ على التفكير في دور الفرد والمجتمع في مواجهة التحديات الإنسانية. أن “ظالمايا” لا تقتصر فقط على تقديم صورة متشائمة للواقع، بل تفتح الباب أمام أسئلة أكبر حول العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين الدين والسلطة، مما يجعلها عملاً أدبيًا يتجاوز حدود السياق المحلي ليعبر عن قضايا إنسانية عالمية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى