صدور الطبعة الثالثة من “متاهة الحاكمية: أخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية” للدكتور هاني نسيرة

صدر حديثًا عن مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الثالثة من كتاب “متاهة الحاكمية: أخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية” للباحث والكاتب المتخصص في الفكر العربي الحدث المعاصر، الدكتور هاني نسيرة. ويأتي هذا الإصدار استمرارًا للحضور اللافت للكتاب في الأوساط الفكرية، ولما أثاره من نقاشات وقراءات نقدية منذ صدوره الأول، حيث يُعدّ مرجعًا فكريًا مهمًا في نقد خطاب التطرف، وتحليل جذوره المفاهيمية والتاريخية.
وقد دأب مركز دراسات الوحدة العربية على متابعة القضايا التي تشغل الرأي العام، ولا سيما النخب الفكرية والسياسية وصناع القرار، وذلك من أجل البحث فيها علميا والتنقيب عن حقائقها، وتسليط الأضواء النقدية عليها، ووضعها بين يدي القارئ بغية تعميق المعرفة، وتعزيز النقاش حول التطورات التي يشهدها الوطن العربي، وخصوصا في السنوات القليلة الماضية منذ اندلاع ما يوصف إعلاميا بـ (ثورات الربيع العربي). لقد ازداد في سياق هذه المرحلة، دور حركات وهيئات استندت انتقائيا إلى بعض التراث الفقهي، ولاسيما مؤلفات ابن تيمية، فقدمت تصورات وتحليلات للقضايا المعاصرة انطلاقا من هذا التراث، وأقدمت على ممارسات عديدة أثارت ردود أفعال متباينة، وسببت انقسامات واسعة، وجرت كلها تحت شعارات فقهية رآها كثير من الباحثين أحادية الجانب، وربما وقعت في خطأ التفسير أحيانا، وفي فخ المبالغة أحيانا أخرى. وهذا الكتاب الذي بين أيدينا يستكمل رحلة البحث والنقد والتفكيك لتلك البنية الفكرية والآراء الفقهية التي توظف من قبل جماعات العنف والجهاد، خدمة لمشروعاتها وأيديولوجياتها العنيفة.
يمثل الكتاب رحلة تحليلية عميقة لتفكيك قراءات الجماعات الجهادية لتراث الإمام ابن تيمية، لا سيما في ما يتعلق بقضايا الحاكمية، والإمامة، والجهاد، والتكفير. ومن خلال منهج علمي صارم وروح نقدية فاحصة، يحاول المؤلف أن يميّز بين الخطاب الأصيل لابن تيمية من جهة، والإسقاطات الانتقائية التي تبنّتها الجماعات المتطرفة في قراءتها لفتاويه ومواقفه من جهة أخرى، مؤكّدًا أن كثيرًا من تلك القراءات الجهادية تعاني من الاجتزاء والتحريف والانفصال عن النسق الفكري الكلي للشيخ.
يتكوّن الكتاب من ستة فصول، بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة وفهرس ومراجع وافية، ويقدّم في مجمله محاولة لفهم السياق الفكري والتاريخي لابن تيمية، وعلاقته ببنية الدولة في عصره، ومواقفه من الإمامة، وتحديد المفاهيم الإشكالية التي شكلت لاحقًا مرتكزًا لجماعات العنف، وعلى رأسها مفهوم “الحاكمية” الذي لم يستخدم في التراث سابقا، وكان أسما لإحدى الفرق الإسماعيلية فقط، كما يذكر نسيره، ولكن لم يعرف كمفهوم للحكم في الإسلام قبل المودودي وسيد قطب!
كذلك يحاول المؤلف في كتابه حل الإشكال المركزي المتمثل في سوء فهم تراث وخطاب ابن تيمية المستمر، من قبل أتباعه ومعارضيه على السواء، وذلك عبر تحليل خطابه و نسقه الفكري من خلال ما يسميه المؤلف، منهج “المقولات والتصورات الحاكمة”، وفهم علاقته بالمدرسة الحنبلية من ناحية، وبالتيارات الفلسفية واللاهوتية الأخرى من ناحية ثانية.
ويشير المؤلف إلى وجود تقاطعات – رغم الفروق العميقة – بين ابن تيمية والفلاسفة مثل ابن رشد في بعض الموضوعات، كما في مسألتي “درء التعارض” و”فصل المقال”، إضافة إلى مسائل عقدية دقيقة مثل القول في “العلو” و”خلق القرآن”، ما يُبرز مدى تعقيد فكر ابن تيمية وتنوع مصادره.
كما يولي الكتاب اهتمامًا خاصًا بإشكالية القراءة الجهادية لابن تيمية، ويكشف كيفيات التأويل التي اعتمدتها تلك الجماعات، وآليات الإسقاط التي جعلت من فتاوى ابن تيمية ذريعة دائمة لتبرير العنف والتكفير والخروج على الحكّام. ويعرض المؤلف هذه القراءات في ضوء النصوص الأصلية لابن تيمية، ساعيًا إلى فك الارتباط المفاهيمي والربط المصمت، بين فكر ابن تيمية الذي خاطب الناس يوما، أنه رجل ملة وليس رجل دولة، وبين تأويلات التطرف المعاصرة، وإبراز الانحراف المنهجي فيها، بدءا من فتوى ماردين إلى فتوى حرق الأسير إلى غيرها من الفتاوى.
ويؤكد هاني نسيرة في كتابه على ضرورة الاشتباك النقدي الجاد مع الخطابات الجهادية، وعدم ترك الساحة الفكرية لتلك الجماعات تحت دعوى الاحتكار الحصري للتراث والمرجعية الدينية. ويعتبر الكتاب في هذا السياق مساهمة جادة في معركة استرداد التراث الإسلامي من قبضة التأويلات المتشددة والمنغلقة.
إن صدور الطبعة الثالثة من متاهة الحاكمية يعكس أهميته وراهنيته مع بقاء الأسئلة والأطروحات التي يناقشها، والتي تمس قضايا مركزية في الخطاب الإسلامي المعاصر، بدءًا من فهم الدولة والإمامة والحاكمية المحدثة، مرورًا بمسائل التكفير والجهاد، ووصولاً إلى تفكيك جذور العنف الديني وتجاوزاته.