شويكة و الكتابة: الأدب يستطيع الكثير
روعة الكتابة في توجهها صوب هذا اللا أحد الذي بداخلنا
حسن أوزال
سأشرع للحديث عن تجربة زميلنا محمد شويكة،منطلقا من عبارة للفيلسوف الفرنسي أندري كونت سبونفيل،مؤداها :”أن مفعول كتاب ما،إنما يتوقف على قارئه و كذا اللحظة التي يقرأه فيها،تماما بالقدر نفسه الذي يتوقف فيه على مضمونه أو قيمته الخاصة”.
فالقارئ كما هو معلوم ،يحتل دورا هاما في سياق الكتابة،حد اعتباره مؤلفا ثانيا يجسد اكتمال هوس الكتابة باعتبارها ابداعا .ذلك أن مسار الإبداع،لا يتوقف عند الكاتب في حد ذاته ،بل يتجاوزه ،حد اقترانه بهذا المجهول ،الذي يأتي دونما استشارة ليدفع بالعمل و يزج به في أفق غير منتظر.أفق تتلاقح فيه كائنات ،لتخلق جراء تلاقيها إمكانات حياة جديدة .من ثمة يتضح أن حياة الكتابة شأنها شأن حياة القراءة،كلاهما يرتبط بالآخر حد التلازم و الاقتران،بل ويقتضي التفرغ وحسن التعامل كما التأني و الصبر.يتعلق الأمر بأن نقرأ مثلما نكتب في سياق من الشغور و الخلو الذهني la disponibilité mentale ،مادام أن فعل القراءة أشبه ما يكون بفعل الكتابة لا وكذا بفعل الحياة ذاتها.
فلكي يكتب المرء على نحو جيد يلزمه أن يقرأ بفنية و لكنه لن يستطيع ذلك، طالما لم يكن آهلا للعيش بجمالية.إن الكتابة كما القراءة ليست غاية في حد ذاتها،وستظل عملا تافها حالما لا تمنح مدمنيها أسلوبا للحياة،وتفسح أمامهم أفقا رحبا للعيش على نحو متجدد،وبجرعات أقوى باستمرار.”إنك لن تعرف أن تكتب،ما لم تعرف كيف تقرأ،لكن لمعرفة القراءة عليك أن تعرف كيف تعيش.
فالقراءة هي أحد أروع فنون العيش.ولذلك تسعى كل الأنظمة الاستبدادية إلى الحيلولة دونما امتلاكنا لفن القراءة هذا.إنها تعرف أيما معرفة أن فعل القراءة،أعني القراءة بحق،إنما هو فعل يوقظنا.”(1)لا جدوى إذن من فعلٍ، كتابة كان أو قراءة،رسما أو غناء ،فرجة أو تصويرا…لا يسعفنا على تنمية سلطتنا في الوجود،ويمنح معنى للإحساسات و الأحداث الصغيرة التي تؤلف حياتنا.بله من البديهي، أن تكون ثمة كتب نلجأ إليها حالما نكون في وضعية نفسية خاصة ،ليست هي نفسها الكتب التي نستطيع أن نقرأها في وضعية نقيض .
فالأدب وقس على ذلك ،”يستطيع الكثير”كما لاحظ طودوروف و”القارئ العادي الذي يستمر في البحث ضمن الأعمال التي يقرأها عن ما يمنح معنى لحياته ،هو على صواب ضد الأساتذة و النقاد و الكتاب الذين يقولون له إن الأدب لا يتحدث إلا عن نفسه أو لا يعلم إلا اليأس “(2).إن الحياة على ما يبدو ،تكاد أن تضمحل بين حفنة من الكتاب الرديئين،الذين يلهتون ويهرولون من أجل النشر،وإضافة كتب لا يقرأها أحد،إلى أخرى لن يقرأها أحد، وثلة من القراء البشعين،الذين لا هم لهم،سوى العيش البئيس على فتات ما يقرؤون،حد لا مبلاتهم لا بتحريف النصوص و سوء التعامل معها،ولا بتحميلها ما لا تحتمله.
ليس قصدي هنا القارئ الذي لا يفهم و لا يعرف بل القارئ الذي بالرغم من جهله يخال أنه على علم بكل شيء و بالرغم من عدم فهمه يصر على اعتبار نفسه من يمتلك مفاتيح المعرفة.
إلى هذا الحد أجدني ،مجبرا على التصريح بمسألتين اثنتين عثرت عليهما،وأنا أتصفح بعضا من أعمال سي محمد شويكة.لكن قبل ذلك لا أخفيكم أن نهجي في قراءة هذه الأعمال،إن كان يروم شيئا فإنما يروم بالأساس ،الكشف عن هاجس الكتابة عند محمد شويكة،باعتباره كأي مبدع،مبدع، لا يمكنه أن يتعاطى هذا الفعل مجانا؛لأنه بنظري ،لا يقوم في الواقع،من حيث هو مبدع، إلا بما هو مضطر للقيام به؛ذلك أن الكتابة هوس قاس ،كل كاتب سرعان ما يجد نفسه ملزم بإتيانه:”أن تكتب يعني بتعبير روجي لابورت،أنك مجبر على الكتابة”écrire il le faut”. فالكتابة واجب و أمر يدعو إلى خوض غمار تجربة مستقبلية،غير محمودة العواقب،وأكثر التباسا.
لذلك،وغيره، تساءلت في قرارة نفسي : ترى ما الذي جعل الرجل يكتب في ما يكتب فيه من مواضيع متفرقة:القصة ، النقد السينمائي،السيناريو…؟ ما الذي أفعمه وألهمه ؟ما الذي منحه بلغة السورياليين مفاتيح كل هذه الألفاظ ؟ لا شك أن علاقة كل كاتب بالكتابة،يعتريها نوع من الغموض،وتسكنها الغرابة.نقول هذا مستحضرين حالات بعينها،حيث قضى بعض الكتاب عمرهم، في كتابة مؤلف واحد،بينما آخرون ،أتاهم الإلهام في ليلة واحدة أو عشرة أيام.(استغرق مونتاني في كتابة المحاولات حوالي عشرين عاما،بينما كتب كافكا قصته”قرار حكم” في ليلة واحدة،أما نتشه فجاء على الجزء الأول من مؤلفه الموسيقي،هكذا تكلم زرادوشت،في عشرة أيام). فهي على كل حال، علاقة تتراوح مابين الأمانة و الخيانة ، إذ بقدرما نكون أحيانا قادرين على أن نأتي هذا الفعل دونما تصميم أو ميعاد ،فينتابنا شعور بأننا لن نقو بعد ما بدأنا ،على التوقف،عن الكتابة ،بقدرما نكون أحيانا أخرى على أهبة الشلل،نكتفي بتملي القلم عقيما بين أناملنا.هذا ما كان يمزق كاتبا عظيما من طراز كافكا ،الذي بقدرما كان يكتب بقدرما كانت تتضاءل ثقته بالكتابة،(3).
الأمر نفسه انتاب ريلكه وهو يخط le livre d’Heures ،و طرأ لروجي لابورت و هو يكتب مورياندو.ولكن إذا كان الأول يستشعر ما أن بدأ يكتب أن جرثومة الكتابة سكنته إلى الأبد،فالثاني بخلافه تماما يدرك أنه على مشارف التوقف نهائيا عن فعل أدمنه طيلة حياته،حتى صار جوهرها .خلف لزوم الكتابة إذن إشكالات وجودية معها تضحى صيغة” écrire il le faut” استجابة لنداء الضرورة،وخوضا لتجربة غير محتملة العواقب هي تجربة الحياة ذاتها التي تستدعي فن المقاومة. بناء عليه نتساءل عن مكامن هذا الفعل الفريد الذي هو فعل المقاومة في أعمال محمد شويكة،سيما إذا علمنا ألا عمل إبداعي دونما مقاومة،مادام أن الفن بتعبير مالرو” هو الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يقاوم الموت”.الموت هنا دلالة على شتى مناحي الحياة المريضة ،التي لا شيء يسعفنا على تفاديها وحمل الحياة إلى أعلى درجات العنفوان ،عدا الفن.كيف؟بإيجاد مخارج،و إنتاج إمكانات و ابتكار أسلحة وعتاد.في هذا السياق تندرج المسألتان اللتان أشرنا إليهما سلفا،وتتعلقان بالضبط بعنوانين إثنين وردا، في الفصل الثالث من كتابه “المفارقة القصصية”.الأول هو :”هوس الكتابة”بينما الثاني “ما معنى أن تكون هامشيا”؟.و هنا مربط الفرس،بيني وبين سي محمد،إذ و للعلم سبق لي أن نشرت مقالين بنفس العنوانين تقريبا.مما يدفعني إلى التساؤل عن فحوى لا شعور الكتابة هذا؟و ما الذي يستدعي الذوات بالرغم من المسافة و اللا تواصل،إلى اختراق الأرضيات عينها و تناول المواضيع نفسها وطرق الاستشكالات ذاتها؟ألا تغدو الكتابة و الحالة هاته ما به يتحقق التواصل المقطوع اجتماعيا؟و ينكسر سر الوحدة المطبق على كل مبدع مبدع؟ألا يتضح ، أن فعل المقاومة هو ما جعل الذوات هنا تلتحم ،عفويا،ببعضها البعض؟بل و تستدعي،دونما سابق إصرار، أفقا لبناء حياة تحتضر واقعيا؟ألا يوضح هذا،أن كل أولئك الذين نحتك بهم يوميا و نلتقيهم مرارا أبعد ما يكونون عنا و مفارقين لهمومنا و خانقين لأفقنا في الحياة.هذا ما يعبر عنه شويكة قائلا:”سأكتب حينما لا أجد من يشاطرني أفكاري وآهاتي…حينما أفقد الثقة في الصديق و الخليل و الحبيب و الرفيق و الزميل…”(4 ).
روعة الكتابة إذن تكمن في توجهها صوب هذا اللا أحد ،الذي بداخلي و بداخلكم ،هذا المجهول الدائم الانفلات،الذي يجعلنا نتخطى الرداءة بصبر وأناة و نحقق كسرا مبحرين نحو جغرافيا متحررة تسمح لنا بتشييد كوخنا الشخصي.أقصد هذا الفضاء الهامشي الذي ليس بتوصيف سي محمد إلا “أجمل ما يفضل كل منا”(5 ).
ذلكم هو سر فن المقاومة عند الرجل الذي يقتضي “الموقف و الإلتزام و كذا تحمل عقبات الإختيار”(6)فالكتابة بالنسبة له شأنها شأن الكلام عند صاحب السيميولوجيا ،أقصد رولان بارت،الذي أكد يوما في حوار له ما جاك شانسيل بأن الكلام التزام”la parole est un engagement”.هذا ما يحكم منظور زميلنا حالما يدعو كل كاتب كاتب إلى خلق المسافة مع السياسي: “ألا تشتغل كما يشتغل السياسي(يحضر ويغيب ،يضرب ويهرب…) أن تبتعد عن “الإزدحام الثقافي”،أي أن تتنفس هواء نقيا غير ملوث،و أن تتأمل قضايا الذات و الكتابة في منأى عن اللغط …فاللغط لا يصنع المثقف.”(6) جراء ذلك، ينزاح عن الكلام كل من راوده القلم و يزيغ عن اللغط كل من شاكسه سرطان السؤال.فالكتابة تتجدر أول ما تتجدر في الفيزيولوجيا لا في الإيديولوجيا،إنها حالما تكون قوية تجيء مقرونة بسيرة حياة صاحبها،وتجعلنا نصير و نقفز و ننط تماما مثل تلك العصافيرالمهاجرة، التي تحط و ترحل دونما أن تأبه بتوقيع اسمها في سجلات مزعومة.
الهوامش:
⃰ نص المداخلة التي شاركنا بها في الندوة التي نظمها مركزالحمراء للثقافة والفكر بمراكش ،احتفاء بتجربة الكاتب .
- حوار مع فيليب صولرز، بعنوان القراءة هي الحياة،ترجمة حسن أوزال،القدس العربي.
- تزفيطان طودوروف ،الأدب في خطر،ترجمة عبد الكبير الشرقاوي ،دار توبقال للنشر،الطبعة الأولى 2007 ص .45.
- l’espace littéraire,Maurice Blanchot,p.76 éd.Gallimard1955
- محمد شويكة،منشورات سعد الورزازي ،الطبعة الأولى 2007،ص.238 .
- نفسه ص.239
- نفسه ص.240.