شظايا السياسات النيوليبرالية التصفوية تصيب أطباء المستقبل
الحكومة لا تعلن عن الخلفيات الحقيقية للاصلاح المزعوم
يوسف الطالبي
يخوض طلبة كليات الطب والصيدلة بالمغرب، مقاطعة شاملة للدروس النظرية والتطبيقية والتداريب الميدانية، توجت بمقاطعة الامتحانات، باختلاف مواعيدها. فقد قاطع الطلبة امتحانات الاسدوس الاول التي جرت خلال شهر يناير، وخارج كل التوقعات طالت الأزمة، حتى موعد خوض امتحانات الاسدوس الثاني التي بدأت يوم السادس والعشرين من يونيو الجاري، وما زالت تجرى في ظل مقاطعة شاملة، بلغت حسب مصادر حكومية 90٪ في حين تتحدث إحصائيات الطلبة عن 94,4 ٪ . ومهما كان اي الرقمين صحيحا، فإنه يفيد أن المقاطعة عامة، وتضع المسؤولين الحكومين أمام وضع استثنائي يتطلب إيجاد حلول لسنة مرت ميتة من سنوات تكوين أطباء المستقبل، والتي من شأنها لا محالة أن تؤثر على جودة الخدمة الطبية التي سيتلقاها المواطن المغربي خلال العقد القادم، أي بعد تخرج هذه الدفعات بإعاقة سنة ناقصة من تكوينها.
ويخوض الطلبة من مستوى السنة الأولى الى السنة الخامسة، في تخصصي الطب والصيدلة، هذه المقاطعة رفضا للإصلاح الذي أقرته الحكومة على مستوى نظام التكوين المعتمد بكليات الطب المغربية، في حين لا يشارك طلبة السنتين السادسة والسابعة وكذا طلبة شعبة طب الاسنان، حيث تعتبر الفئة الأولى أن غير متضررة، بما ان مشروع الإصلاح استثناها من مقتضياته وتركها تكمل تكوينها حسب النظام القديم، في حين لم ينخرط طلبة طب الأسنان في هذا الحراك باعتبار أن الإصلاح لا يسري عليهم أصلا. وباعتبار تكوينهم يمتد على مدى خمس سنوات فقط.
ويقضي الإصلاح الذي تبنته الحكومة، بخفض سنة من مدة تكوين أطباء المستقبل، حيث كان الطلبة يحصلون على شهادة في الطب العام بعد سبع سنوات من الدراسة، مقسمة الى ثلاثة أسلاك، سلك اول يشمل السنتين الأولى والثانية، يتلقى خلاله الطالب تكوينا نظريا محضا، من خلال الدروس الماجيسترال والدروس التطبيقية TP. ثم سلكا ثانيا، يشمل السنوات الثالثة و الرابعة والخامسة، يزاوج خلاله الطالب بين التكوين النظري والتطبيقي من خلال استمراره في تلقي الدروس النظرية والتطبيقية، والخضوع التداريب ميدانية في المستشفيات الجامعية والجهوية والاقليمية. وبعدها ينتقل الطالب الى السلك الثالث، والذي تتوقف خلاله الدروس النظرية ويتفرغ الطالب التداريب الميدانية. وينقسم السلك الثالث الى قسمين ، قسم أول يشمل السنة السادسة، يستفيد فيها الطالب من تداريب تحت إشراف أساتذة بالمستشفيات الجامعية والجهوية والاقليمية، وقسم خلال السنة السابعة، ينتقل فيه الطالب الى الممارسة نسبيا في المراكز المحيطة (périphériques)، ويصبح من حق الطالب أن يمتلك خاتما يؤشر به على الوصفات والتقارير الطبية ..، ويطالب كل طالب في نهاية السنة بإنجاز بحث يقدمه للعرض والمناقشة، ليكون إعلانا عن امتلاك صفة طبيب عام (généraliste ) كامل الأهلية.
و لا ينظر الطلبة الذين يخوضون معركة المقاطعة الشاملة الى الإصلاح الجديد لنظام التكوين بعين الرضى، حيث يرون أنه يجهز على 700 ساعة من التداريب في مرحلة مهمة من مسارهم التكويني، أي السنة السابعة التي يتفرغون خلالها للتداريب وتطبيق المعارف النظرية، في وقت كانوا يعانون من ظروف التداريب وغياب الشروط الضرورية لتحقيق الأهداف المرجوة منها. حيث الاكتظاظ في أجنحة المستشفيات وكثرة عدد المتدربين مقارنة مع عدد الأساتذة المؤطرين، وفي وصف غريب لمشهد التدريب، ذكر طلبة أنهم يتدافعون بالمرافق والاكتاف من أجل الظفر بمكان للوقوف على مسافة قريبة نسبيا من الاستاذ حتى يستطيعون سماع ورؤية ما يقوم به، في حين يظل الطلبة الخجولون، او الذين يتعففون من الالتحامات الجسدية بين الذكور والاناث، خارج قاعة المرضى لا يصلهم حتى الصوت. وفي الوقت الذي كان الطلبة يأملون أن تجد وزارتا الطب والتعليم العالي حلا لهذه المعضلة، سارت حسب شهادتهم ، في الاتجاه المعاكس الذي يعمق الأزمة ويزيد الطين بلة، حيث إن من مقتضيات الإصلاح مضاعفة أعداد الأفواج التي ستلتحق بكليات الطب وهو ما من شأنه تعميق المشكل.
ويخوض طلبة كليات الطب والصيدلة هذه المقاطعة تحت شعار جودة التكوين، حيث يترافعون بتقديم مبررات لرفضهم مقتضيات الإصلاح، ليس فقط من حيث هو يجهز على سنة من ساعات التكوين، بل يتوجسون من مضاعفة أعداد الوافدين الجدد على كليات الطب، ويمثلون على ما سيؤول إليه الوضع بالتفعيل العشوائي والمستعجل للاصلاح، بحالات طلبة مدينة العيون الذين يدرسون في مؤسسة للتكوين المهني، وطلبة مدينة گلميم الذين يدرسون في خزانة، والدفعة الاولى من خرجي مدينة أگادير، الذين لم تطأ أقدامهم مستشفى جامعيا قط خلال سنوات تكوينهم السبع. كما يشتكون من ضعف المنح التي تخصص للطلبة ابتداء من السنة الثالثة، والمفروض أنها مصممة لمساعدتهم على تغطية التنقل بين أماكن التداريب والكليات، وهي منح لا تتجاوز 600 درهم للشهر ولا تصرف بصفة شهرية، مما يعمق معاناة الطلبة خصوصا المنحدرين من أوساط اجتماعية محدودة الامكانيات، لا تغطي حتى مصاريف النقل بواسطة الحافلات، ناهيك عن كون الطالب يقضي يومه بين المستشفى والكلية بما يعنيه ذلك من حاجة إلى توفير ثمن وجباته اليومية، في غياب خدمة إطعام جامعي.
وفي مقابل الوصف الدراماتيكي لأوضاع التكوين الطبي العمومي الذي يقدمه الطلبة، والذي يؤسسون عليه مواقفهم الرافضة للتعديلات البيداغوجية التي أقدمت عليها الحكومة، تدفع هذه الأخيرة بمبررات تنتصر بها لسياستها في القطاع، إذ تعتبرها جزءا من تنزيل وضمان الحق في الصحة للمواطنين المغاربة، وإنجاح مشروع تعميم التغطية الصحية كمدخل ضروري لاستفادة الجميع من التأمين على الأمراض. أمام عجز الميزانية العمومية في ظل الاكراهات الاقتصادية وارتفاع المديونية وتعمق أزمة الميزان التجاري والتضخم، عن تحمل وتوفير الخدمات الصحية المناسبة للمواطنين. مقدمة وعودا بتحسين شروط الدراسة والتدريب، بفتح كليات جديدة وبناء مستشفيات جديدة وتكوين مؤطرين جدد، والرفع من قيمة المنح.
ويرى مختصون خبراء من مجالات مختلفة سواء من ميدان قطاع الطب والصحة، أو الاقتصاد أو السياسة، أن الحكومة لا تعلن عن الخلفيات الحقيقية للاصلاح المزعوم. حيث يرى أطباء وأساتذة أن الإصلاح من شأنه تعميق أزمة التكوين وإضعاف مستوى جودة تكوين الطبيب المغربي، مما يجعلنا نتوقع حدوث أخطاء طبية قد تكون من نتائجها ازهاق أرواح المواطنين، دون الحديث عن التسبب في العاهات وتعقيد راحة وجودة عيش ٱخرين (le bien être).
في حين يرى اقتصاديون من جهتهم، أن مشروع الإصلاح فرضته أزمة اقتصادية عميقة يعيشها المغرب، ناتجة عن إفلاس في تدبير الشؤون العامة في البلاد وتعرش الفساد والنهب والرشوة في أوصال الدولة. وفي وقت كان الوضع يقضي نهج سياسات تنموية ترتكز على الموارد الطبيعية والبشرية الوطنية، توجهت الحكومات المتعاقبة على اللجوء الى المديونية، مما أغرق البلاد وصارت رهينة لدى مؤسسات مالية ودول خارجية. فقد صار تسديد الدين العمومي يستهلك 80٪ من الناتج الوطني الخام. وصارت البلاد عاجزة سواء على توفير الخدمات الاجتماعية لمواطنيها او على مستوى تمويل الاستثمار العمومي لتنمية البنية الاجتماعية ومنها البنية الصحية.
ويتوقع هؤلاء الاقتصاديون، أن أزمة المغرب لن تزداد الا تعمقا بتوجه الحكومات نحو النموذج الاقتصادي الأمريكي، القائم على القضاء على القطاع العمومي وتوفير كل الشروط من أجل إحلال القطاع الخاص محله، حيث يصبح المواطن مطالبا بالاداء مقابل كل خدمة اجتماعية يستفيد منها، بما في ذلك الخدمات الأساسية للمواطنة والتعليم والصحة، متسائلين، أي مشروع تنموي سيمكن الدولة من إخراج البلاد من التخلف والازمة بمواطن جاهل مريض جسديا ونفسيا. معتبرين أن التعديلات التي أدخلتها الحكومة على التكوين الطبي تندرج ضمن تحسين مناخ الاستثمار في قطاع الصحة وتشجيع الرأسمال على الثقة في المناخ الاقتصادي المغربي. وإحدى إجراءات التحسين تلك، هي توفير موارد بشرية قارة بأجور زهيدة. لذلك فإن الحكومة تسعى إلى الإضرار بقيمة شهادة طبيب المغربية لإعدام فرص هجرة الخريجين الجدد.
وخارج الجوقة السياسية الرسمية المكونة من مختلف الأحزاب المشاركة في الانتخابات، والتي لا يستثنى منها الا حزب اليسار الاشتراكي الموحد (PSU), الذي عبرت أمينته العامة السابقة، السيدة نبيلة منيب عن تضامنها ودعمها لطلبة الطب في مطالبهم، فإن الاحزاب السياسية ونخبها تدور في فلك النظام وتروج لطروحات الحكومة، بسبب ضعف هامش المبادرة السياسية بالنظر لإغلاق وقتل أي إمكانية للتمايز عن رأي الدولة، فيما يظل صوت القوى المعارضة السياسية والاجتماعية المتميزة بمعارضتها الشجاعة للسياسات التصفوية مبحوحا ومحدود التأثير بسبب القمع والتضييق.
ويفسر هؤلاء السياسيون الديمقراطيون تعنت الحكومة ورفضها تقديم أي تنازل عن سياستها بكونها فاقدة للسيادة، حيث إنها رهينه للمؤسسات المالية الدولية ودول أخرى، إذ أمام العجز الذي وصلت إليه البلاد، والاعتماد الكلي على القروض، صار المغرب مجبرا على الالتزام بالسياسات التي تشترطها هذه المؤسسات لللاستمرار في منح القروض وإعادة جدولتها. ويستدلون بكون التعديلات التي اعلنتها الحكومة واردة بالحرف والنقطة و الفاصلة في توصيات صندوق النقد الدولي الخاص. وهو ما يعني تحميل الطبقات الاجتماعية الدنيا تكلفة النتائج الكارثية للتدبير الفاشل على مدى عقود، في حين أن الطبقتين البرجوازية والإقطاعية اللتين استفادتا من فرص الاغتناء ومراكمة الثروات بالاحتكار والريع والنهب ، تجد نفسها بهذه القرارات مرة أخرى أمام فرص لمص دماء الوطن والمواطن. وينظر هؤلاء السياسيون الديمقراطيون إلى انتقال الأزمة الى كليات الطب، ككليات ذات الاستقطاب المحدود، تكون بذلك قد لامست الاطباء، وهم نموذج فئة اجتماعية كانت تعيش بمنأى عن الآثار المدمرة للأزمة الاجتماعية ، لكن السياسات اللاوطنية واللاديمقراطية واللاشعبية المنتهجة على الاقل منذ مخطط التقويم الهيكلي مع مطلع الثمانينات جعل فئات اجتماعية كانت تعيش حالة يسر، تدخل دائرة الطاحونة، ولنتوقع فيما يأتي من الأيام وفي ظل غياب دولة الحق والقانون والعدالة الاجتماعية، أطباء بروليتاريين يخضعون للاستغلال الفاحش ويعملون بالشروط المجحفة للباطرونا وبأجور يحكمها العرض والطلب.