مذكرات

سيرة بين الجبل والوطن (7)

الحلقة السابعة: بين الخطبة والخيبة

يكتبها عبد الرزاق بن شريج

شرارة الفكرة
في زحمة حفل العقيقة، ورغم الخبر الحزين الذي حول العقيقة إلى صدقة، كانت فطومة زوجة بن إدريس تتنقل بين النسوة، تراقب الوجوه بعين خبيرة. هناك، على طرف “الدويرية”، لمحت فتاةً من دوار تاوريرت تُدعى تيتريت.
كانت الفتاة مثل زهرة برية نضرة، لم تتجاوز الخامسة عشرة، بشرتها بيضاء كزهرة اللوز، وعيناها كحيلتان يختبئ فيهما بريق حياء صامت. منذ تلك اللحظة، انغرست في قلب فطومة فكرة لم تفارقها:
“هدي هي العروسة ديال ولدي الحسين!”
عاد الحسين قبل أسابيع قليلة من مدرسة ابن يوسف بمراكش، بعد سنوات طويلة قضاها في طلب العلم في زاوية سيدي الزوين، حتى صار فقيهاً وعالماً يُشار إليه بالبنان. بالنسبة لفطومة، كان الوقت قد حان لتفرح به وتزوجه.

همسة في ضوء القنديل
في ليلة صامتة، خفتت أصوات الأبناء، وسكن البيت إلا من ضوء قنديل يتراقص على جدار غرفتها الخاصة. جلست فطومة بجانب زوجها بن إدريس، على السرير التقليدي، وهمست له كمن يُلقي سرّاً:
– “الحسين كبر يا راجل… والوقت مناسب باش نفرحو بيه.”
ابتسم بن إدريس وهو يتأمل نور القنديل، ثم هزّ رأسه موافقاً. شهر ماي كان مثالياً للزواج: المحاصيل الزراعية جُمعت، واللوز يتهيأ للجني، والخيرات وافرة …
لكن في قلبه كان شيء آخر… فمنذ أسابيع، وخلال زيارة عزاء في إفران، لمح بن إدريس بنت ولد عمه وأعجبته في صمت، وتمناها زوجة لأحد أبنائه، إلا أنه لم يجرؤ على مخالفة زوجته… اكتفى بشرط واحد:
– “خاصنا نسولو على النسب ديال عائلة تيتريت، ماشي غير هكاك.”
استحضرت فطومة المثل المغربي الشهير:
“سول على خوال ولادك فالسوق”
ففي السوق تُختبر سمعة الناس بين البيع والشراء، وتُعرف أصولهم.

البتول وجرح الخيبة
في مساء أربعاء دافئ، اجتمعت العائلة في فناء الدار حول قصعة “الترديدة”. كان الجميع حاضراً: بن إدريس، أمه فطومة، زوجاته الثلاث، وعبد الرحمان، … إلا رابحة التي كانت منشغلة بمولودها سعيد، والحسين الذي كان في أزمور يبحث عن عمل (حسب ما أخبر به والده).
رأت فطومة أن الوقت مناسب لإخبار الأسرة بقرار الخطبة. فهي وابناها بن ادريس وعبد الرحمان من يقرر والكل عليه أن يوافق، وفعلا وافق الجميع بصوت واحد، لكن لم يخطر في بال أحد أن الخبر سيسقط كالصاعقة على قلب البتول.
فرغم أن الحسين ابن فطومة فالبتول، التي حرمت من الإنجاب، ربت الحسين وأصبح قطعة من روحها. حين سمعت بالخبر، شعرت أن الأرض تميد تحت قدميها، انسحبت إلى غرفتها تحت ذريعة “الصداع”، وانفجرت في بكاء صامت.
حاول بن إدريس احتواء الموقف بعقلانية، فاقترح على البتول أن تكون هي من تتولى زيارة أهل تيتريت بنفسها، حتى تشعر بالمكانة والاعتبار.

رحلة الخطبة المؤجلة
كلّفت العائلة علالة – زوجة موحا – بمرافقة البتول في الزيارة، لكن علالة، بلسانها الخفيف، سبقت الزيارة بسؤال إحدى جارات أسرة تيتريت، التي صادف وجودها عند جارة علالة، فعلمت أن الفتاة غير مخطوبة، وأن أسرتها “الله يعمرها دار”، رغم بعض المشاكل الطفيفة مع زوجة الأب.
كان من المقرر أن تتم الزيارة يوم الجمعة، لكن فطومة اعترضت:
– “الناس ما كيمشيوش فالزيارات الجمعة!”
فأجلوها إلى السبت.
مع الفجر، انطلق الوفد على ظهر بغلين: البتول، علالة، عبد الرحمان، وموحا. وحين وصلوا، وجدوا والد تيتريت في الدوار المجاور، بينما كانت عمتها في زيارة بعيدة.
جلست البتول وعلالة في البيت مع زوجة الأب التي استقبلتهما بفتور خفيف، فيما انتظر عبد الرحمان وموحا أب تيتريت في المسجد القريب. وحين عاد، استقبلهم بحرارة، وأبدى ارتياحه لفكرة المصاهرة مع آيت بن إدريس، لكنه اشترط استشارة شقيقه البشير – كاتب القائد – وأخته قبل أي وعد رسمي.
تم الاتفاق على لقاء جديد في السوق يوم الأربعاء.

الصدمة المدوية
عاد الوفد إلى الدوار مزهوّاً، وفي مساء الأحد عاد الحسين من أزمور. هرعت إليه أمه فطومة بالبشارة:
– “مبروك ولدي… غادي نخطبو ليك بنت يعقوب، خو البشير كاتب القائد!”
لكن الحسين صُدم، تغير لون وجهه، وانفلتت الكلمات من فمه كالرصاص:
– “لا… ما يمكنش!”
فطومة مصدومة:
– “علاش ولدي؟ البنت زوينة، والعائلة مزيانة…”
ردّ الحسين بحدة:
– “أنا ما غاديش نتزوج دابا! عندي مشروع أكبر… بغيت نحرّر المغرب. والبشير راجل ديال المخزن، خدام مع الاستعمار!”
كانت كلماته مثل طلاسم لم تفهمها فطومة، فلم تجد ما تقول غير:
– “دبّر راسك مع باك!”

خيوط السياسة والمؤامرة
ليلتها، لم يغمض لفطومة جفن. أما في الجهة الأخرى، كان البشير يبيت ليلته مع أخيه يعقوب وأختهما لمناقشة المصاهرة. غير أن البشير كان له حسابات أخرى… فقد وصلت إليه أخبار من مراكش بأن الحسين يحضر اجتماعات لجان استمرار المقاومة ويدعم الجناح المتطرف في حزب الاستقلال، بل يزور سرّاً قرية “أدوز” قرب دمنات للقاء محمد البصري، المعروف بـ «الفقيه البصري”.
أدرك البشير أن المصاهرة قد تكون مفتاحاً لاختراق حياة الحسين والسيطرة عليه، لكنه لم يُظهر شيئاً من نواياه، واكتفى بمباركة الزواج.

الحسين بين نارين
حين أخبرت فطومة زوجها برفض الحسين، تدخل العم عبد الرحمان الذي كان يميل إلى التيار المنشق عن حزب الاستقلال، فساند الحسين في موقفه.
قرر بن إدريس عقد جلسة حاسمة مع ابنه، هدفها إقناعه بالزواج من تيتريت لما فيه من فائدة للعائلة: فالمصاهرة مع يعقوب ستفتح الأبواب أمام تجارة بن إدريس مع كبار تجار مراكش وأزمور وفاس، خاصة وأنه من كبار تجار الأثواب، وله علاقات قوية مع اليهود المغاربة.
لكن الحسين أصرّ على موقفه، وطلب فقط تأجيل موضوع الزواج إلى حين “يترسم في وظيفة” وتتوفر له شروط الاستقرار. أيده عمه عبد الرحمان في ذلك، وبدأ التفكير في كيفية الحفاظ على العلاقة مع يعقوب وأخيه البشير، دون كسر الجسور.

أما الحلّ فسيأتي في الحلقة المقبلة…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى