سيرة بين الجبل والوطن (4)
الحلقة الرابعة حين غابت العامة وحضرت الغيطة: عبد الرحمان ووليمة الفرح المزدوج

يكتبها عبد الرزاق بن شريج
تذكير… بين الأمس واليوم
كما حدثتكم في الحلقة السابقة عن الحفل القرآني المعتاد في مناسبة العقيقة، فالمقارنة بينه وبين الحفل الموسيقي في القرى تشبه المقارنة بين السكون والعاصفة، بين الخشوع والرقص، بين رائحة البخور وصدى الطبول.
في الحفل القرآني يسود الهدوء والوقار؛ يجلس القراء على حصير نظيف، تتناثر أمامهم مصاحف صغيرة بجلدها البني المعتق، يتلون القرآن برواية قالون أو ورش عن الإمام نافع، بينما تملأ المكان مواعظ عن الموت والآخرة وعذاب القبر، وفي الخلفية، ينساب دخان البخور متشابكًا مع الأمداح النبوية في جوٍّ من الطمأنينة والخشوع.
أما الليلة… فالحكاية مختلفة تمامًا، الليل هنا مفتوح على كل المفاجآت، والروح شابة، والهواء مشبع بنكهة الفرح.
تقسيم الأدوار… تنظيم يليق بالحدث
بفضل الخبرة الطويلة لعبد الرحمان وأصدقائه في تنظيم الأعراس، قسموا أنفسهم إلى أربع مجموعات، كأنهم فرقة مدربة لاستقبال حدث استثنائي:
مجموعة الوليمة: مسؤولة عن تجهيز العشاء وتقديمه في “القبة”، ذات السقف الخشبي المزخرف والبناء التقليدي المتقن.
مجموعة الموسيقى: تدير تفاصيل الحفل في “البيدر” حيث ستُقام السهرة الكبرى.
مجموعة الحراسة: تراقب سطح المنزل حيث تجتمع النساء، لضمان خصوصيتهن ومنع أي تطفل.
مجموعة الماء: تتناوب على جلب الماء العذب من “عين الطبل” لتثبيت الأتربة ومنع تطاير الغبار داخل البيدر وحول.
كل شيء كان مرتبًا بدقة، حتى خُيِّل للناس أن القرية تستعد لاستقبال مهرجان وطني، لا مجرد عقيقة.
البيدر… مهرجان تحت ضوء القمر
مع دقات ساعة العشاء، بدأ الضيوف يتقاطرون على وليمة الطعام، بينما امتلأ البيدر الواسع بجوار المنزل بالناس من كل حدب وصوب، حتى بدا المشهد مزيجًا بين عرس شعبي ومهرجان قروي صغير.
النساء تجمعن فوق سطح الدار لمتابعة الحفل من بعيد، باستثناء من بقين في “الكَشِّينَة” تحت قيادة الحاجة الرحالية، سيدة المطبخ التي يعرفها الجميع بخبرتها في إعداد الولائم.
أما الشباب، فقد شكلوا دائرة كبرى حول ساحة الرقص، تتناوب أجسادهم مع إيقاع البندير والطعريجة في انسجام تام.
قلة من متعاطي الخمر كانوا يعيشون عالمهم الخاص وسط الصخب، لكنهم لم يفسدوا جو الفرح العام.
لم تكن مكبرات الصوت قد شاعت آنذاك، ولا عُرفت الهندسة الصوتية بعد، فكان الأداء يعتمد كليًا على قوة الحنجرة وعذوبة الصوت الحقيقي.
فاطمة الحريرية… سيدة الليلة
هنا ظهر بلعلو بصوته الفضي الذي يعرفه الجميع، لكن السحر كله كان في حنجرة فاطمة الحريرية؛ امرأة بصوت ذهبي يجعل الليل كله يصغي حين تغني.
أما الفرقة الموسيقية فكانت صغيرة العدد، كبيرة الأثر:
الكمنجي يبث أنينه من خيوط حزينة.
أحمد يداعب البندير بإيقاعات راقصة.
حمادي يناجي الطعريجة كأنها قلب آخر للجمهور.
وفاطمة… تضبط نبراتها على إيقاع كل آلة، كأنها سيدة الأوركسترا الخفية.
البرزاط ومفاجأة الغيطة
لم يكن أحد يتوقع ما خطط له أحمد، الملقب بـ “البرزاط”، صديق عبد الرحمان وعاشق الموسيقى الشعبية.
قرر أن يغيّر مجرى الحفل دون أن يخبر أحدًا، فاستقدم فرقة صالح أُومبارك الشهيرة.
الجميع كان يظن أن السهرة ستقتصر على صوت بلعلو وفرقته، لكن فجأة دوّى صوت الغيطة كالرعد، واهتزت الأرض تحت وقع الطبول، وتعالت الزغاريد من كل صوب.
في لحظة، انقلب المشهد رأسًا على عقب، وبدأت الليلة تكتب فصلها المختلف.
لقاء العمالقة… صالح أُومبارك وبلعلو
كان صالح أُومبارك نجمًا شعبيًا صاعدًا قادمًا من منطقة جبلية أمازيغية، يحمل في أصابعه سحر الغيطة ويعرف كيف يشعل الحماس بإيقاعات سريعة تدفع الأجساد إلى الرقص بلا وعي.
أما بلعلو، فكان خزانًا للذاكرة الغنائية المغربية؛ صوته يحمل أرواح العيوط كلها:
من الشاوية أخذ العيطة المرساوية.
من اجبالة ورث العيطة الجبلية.
من الحوز اقتبس العيطة الحوزية.
ومن الملاليين حمل عيوط شيوخه في مسقط رأسه.
كان ينهل من عمالقة الطرب الشعبي: من الأمازيغية أُوسيدي بناصر وموحى أُوعلي أُوموزون وإيشو حسن، ومن العربية خربوشة، والحسين السلاوي، والمعطي بن قاسم، وأحمد البيضاوي، ومحمد بنعمر الزياني وغيرهم.
اللقاء بين صالح أُومبارك وبلعلو لم يكن عاديًا، بل كان أشبه باشتباك نارين في حقل واحد.
شباب القرى ومناوشات الليل
الهواء الطلق أغرى شباب القرى المجاورة بالحضور، حتى من مسافات تصل إلى أربع أو خمس كيلومترات.
جاء بعضهم مشيًا على الأقدام، وبعضهم على الحمير، أما ركوب البغال فكان رفاهية تعادل اليوم امتلاك سيارة فاخرة.
شاب واحد خطف الأنظار بدراجته الهوائية الجديدة اللامعة، كانت دراجة تحلم بها العيون قبل الأقدام، وامتلاكها في دوار “أيت بويحيا” كان حدثًا بحد ذاته.
ومع اشتداد الإيقاعات واحتدام الرقص، اندلعت مناوشات صغيرة بين بعض الشباب الذين أكثروا من “الماحيا” أو “البواقة”، وهما المخدران الموجودان آنذاك، لكن مجموعة الحراسة تدخلت بسرعة لإعادة النظام قبل أن يتفاقم أي شجار.
ليلة من ذهب
استمر الحفل حتى ساعات متأخرة من الليل؛ الطبول والغيطة اندمجتا في لحن واحد، والقرية كلها رقصت تحت ضوء القمر، بينما ظلت النساء يراقبن من بعيد ويطلقن الزغاريد خلسة.
ورغم غياب “العامة”، الفرقة المحلية التي كان عبد الرحمان يذوب في أنغامها ويستسلم لسحر غنائها، فقد عاش فرحتين كبيرتين:
فرحة قدوم المولود الذي أشرق كفجر جديد في حياته.
وفرحة حفلٍ مختلف جمع بين روح العقيقة ونشوة العيطة، في سيمفونيةٍ تتراقص فيها القلوب قبل الأقدام.
انتهت الليلة برفع الأكف لقراءة الفاتحة والدعاء للمولود وللأسرة كما جرت عادة القرى المغربية، لكن وقع الطبول ظل يتردد طويلًا في الذاكرة.
كانت تلك الليلة ميلاد فرح جماعي لن تنساه القرية أبدًا.
نلتقي في الحلقة الخامسة مع خصوصية الحفل النسائي.