سيدة المكان؛ شجرة كاليبتوس لا تخشى الرياح
أيمن سلام
رافقتني منذ طفولتي، وكأنها تناديني ” يا صغيري أنت لن تقوى عن الحياة، دون مرافقتي لك”. ومن ذكريات الطفولة بسيدي بوعثمان، داخل مدرسة العرفان الابتدائية كانت هناك سيدات المكان؛ أشجار الكاليبتوس. كنت أفضلها عن أشجار الزيتون لعلوها، ولنزاهة وجودها. لم تكن لتقدم شيئا يستفيد منه مسؤول عن المؤسسة ماديا. لذلك كانت تروق لي خشونتها. انتظرتها في لحظات معينة أن تحدثني عن أصلها، عن مدى قوتها و مسافة جدوعها، ولم تكن لتنطق بحرف واحد، بل كانت تجيب بسقوط حر لثمرات من أوراقها.
انتقلت الى المرحلة الجامعية، تحديدا إلى كلية العلوم السملالية بمدينة مراكش، كانت المفاجأة أن الشجرة استقبلتني هناك!
علمتني شجرة الكاليبتوس أن من يدرف الدموع ليس ضعيفا، كنت ألمح السائل البني اللزج كالعسل تارة والصلب كقطعة بلاستيكية تارة أخرى، ربما تلك دموعها، لكنها ليست ضعيفة. في جو خريفي مشمس وهبوب الرياح، كان صوت سيدة المكان شديد القوة، يرعبنا، يفوق صوتنا نحن الصغار، وأثناء الاستراحة، ترانا مشغولين بصنع قلادات باللون البني، لون ثمرات الشجرة، وتحتاج منا خيط وقص الطرف السفلي من الثمرة لتشكيل فجوة صغيرة يخترق الخيط واحدة تلو الأخرى الى أن يمتلئ، وبعد ربط هذا الاخير تصبح القلادة جاهزة، قد تستعمل كهدية لفتاة جميلة تجلس في الصفوف الأمامية.وآخرين تنظر لهم حاملين تلك الثمرات اللولبية الشكل، منبسطين في كيفية دورانها، مستخدمين قوة اصابعهم الصغيرة، في دوران جزء صغير من شيء ضخم وقوي.
مع مرور الأيام،قدمت لي شجرة الكالبتوس درسا اخر، أن المعلومة ثابتة في صلب الأشياء، منها الظاهر ومنها الباطن. وأن الأشياء البسيطة تصف الحياة، والحياة كشجرة الكاليبتوس لن تبوح لك بحقائق عن كينونتها بل عليك الإستمتاع في اكتشافها.
انتقلت الى المرحلة الجامعية، تحديدا إلى كلية العلوم السملالية بمدينة مراكش، كانت المفاجأة أن الشجرة استقبلتني هناك! كأنها تؤكد لي “يا صغيري أنت لن تقوى عن الحياة، دون مرافقتي لك”. في تلك الفترة تمردت على كل شيء حتى مرافقتها، فقلت ” لا ترافقيني درست الفيزياء ولم أستطيع مواكبة الفصول، كانت الحياة في تلك السنة مملة. لم يكن هنا أشخاص يصنعون قلادات مما تسقطه “السيدة”. كانوا تابتين، وتائهين، تائهين بين الماضي الدافئ و الحاضر الساخن و المستقبل المظلم. كنا نظن أن فكرنا يحدد واقعنا، عظماء وعلماء سيغيرون التاريخ، لكن واقعنا هو الذي كان يحدد فكرنا و لم نكن لنصبح سوى خائفين.
في أحد صباحات الشتاء البارد من السنة المقبلة، وقتها بدأت أدرس علوم الحياة و الأرض، كنت أدخن سيجارتي، فإذا بالسيدة المبجلة، شجرة الكاليبتوس، الأميرة الخضراء، العالية والكنز المخفي خلف الخشب الدافئ، وضَعَت يدها على كتفي؛ وهمست في أذني “يا صغيري، ليس القلق ما يفيد، عليك أن تعيد النظر في تصرفاتك”. توقف الزمن، لعناق معها في السر. نتج عنه درس في الحياة، مفاده، أن يحاول الإنسان ما دام يتنفس. درست البيولوجيا و عرفت حينها؛ أن للكاليبتوس فوائد عديدة، ناهيك عن استخدامه للتدفئة في الجبال و الأماكن التي تسقط فيها الثلوج؛ هناك عسل و زيت الكاليبتوس، كلاهما يساعد في علاج الالتهابات و السعال و تفيد بعض الدراسات أن تناول عسل الكاليبتوس ينظم النوم، بالإظافة إلى استعماله من المعالجة من نزلات البرد(سنة وما فوق) ، ويقلل من اعراض الربو أيضا.
ذلك الحب المتراكم على مر السنين، لم يكن سببا لتظهر لي السيدة المبجلة حقيقتها و فوائدها الطبيعية. و تركتني لأكتشفه مع مرور الأيام، فقدمت لي درسا اخر، أن المعلومة تابتة في صلب الأشياء، منها الظاهر ومنها الباطن. وأن الأشياء البسيطة تصف الحياة، والحياة كشجرة الكاليبتوس لن تبوح لك بحقائق عن كينونتها بل عليك الإستمتاع في اكتشافها.