سارتر و أدوار المثقف في المجتمعات المعاصرة
ألقى المفكر الفرنسي جان بول سارتر محاضرة في مصر سنوات السبعينيات تدور حول موضوع الثقافة و المثقفين وسط المجتمع في زمن الحداثة و ما بعد الحداثة, نقتطف منها عناصر أساسية و خلاصات قد تشكل معينا في زمن اندحر فيه دور الثقافة و المثقفين.
يميز سارتر أولا بين العالم و المثقف, فالنقد الذي يوجه عادة الى المثقف هو أنه دائم المعارضة و النقد و يتدخل فيما لايخصه من الامور مستغلا شهرته و تأثير أعماله الثقافية و العلمية. و هذا النوع من النقد لا يكون موجها بهذا الشكل المحدد لرجل المعرفة, فمثلا بالنسبة لرجل أمريكي في الولايات المتحدة يخدم أهداف الامبريالية بوعي أو بدونه و ذلك بقيامه ببعض الابحاث النووية فهذا الرجل يعد عالما و ليس مثقفا. و لكن اذا أخذت نفسه تظطرب بما يقوم به من أبحاث كما حدث ذلك فعلا, و اذا اشترك مع علماء اخرين في التوقيع على بيان يدين ما تستعمل فيه تلك الابحاث من أغراض غير انسانية فهو يتدخل في تلك اللحظة فيما لا يخصه و يتحول الى مثقف.
حسب سارتر فالمثقف هو رجل معرفة, الا انه رجل معرفة عملية, و لانه لا يوجد الآن فرق حقيقي بين المعرفة النظرية و المعرفة العملية, فالمثقف هو العالم او الطبيب او التكنيكي او القانوني او الكاتب او حتى الفيلسوف الذي يسعى بتكوينه الى خلق تناقض مع المجتمع البرجوازي. و لكن ليس كل هؤلاء الناس يقومون بهذا التكوين لأنفسهم فهناك علماء يعيشون في حالة من القلق و يتعامون عن رؤية الأمور و هناك من يريدون بموافقة السلطات اخفاء هذا التناقض عن غيرهم و هؤلاء هم كلاب الحراسة. هؤلاء لا أحد يسميهم مثقفين, فالمثقف هو الذي يهدف الى تجاوز هذا التناقض و ان كان يلاحظ ان هذا التناقض هو الذي يكونه.
يتسائل سارتر فيم اذن هذا التناقض؟ و لماذا هو الذي يكون المثقف؟ يقول ان هذا التناقض يكمن بين طبيعة التربية التي يتلقاها المثقف في طفولته و بين المهنة التي تفرض عليه فيما بعد. في اليابان مثلا حينما قرروا ان يصنعوا بلادهم, تقرر عدم تكوين طبقة برجوازية و دفعت الطبقة الحاكمة بالاقتصاد ليكون اقطاعيا حيث أصبح أكبر الاقطاعيين رأسماليين مع ضرورة وجود كوادر أي مهندسين و فنيين و علماء. اذا كان لابد من اصلاح في التربية التي كانت كلها تقليدية تربي الشعب على عبادة الامبراطور و على التضحية من أجله أي في حقيقة الامر من أجل الطبقة الاقطاعية التي كانت تحوط بالامبراطور. عندئذ قرر أحد وزراء التربية أن يمسك العصا من الوسط فقرر أن الطالب في طفولته ان يجب ان يتلقى تربية في حدود المبادئ التقليدية بما في ذلك احترام الاسلاف و العادات الاقطاعية حتى يصل الى سن التعليم العالي حيث تصبح التربية في الجامعة علمية تماما حيث يشتغل الطالب في الفيزياء و الرياضات و علم الاحياء.
و هنا يوضح سارتر المفارقة من جهة بين التربية التي تربي الخضوع و تمجد التقديس و الجزء الثاني من التربية الذي يعلم الحرية أولا و الحرية هنا هي حرية الفكر و ليس حرية التفكير اي حرية البحث بمعنى ان الفكر العلمي لا يقف أبدا أمام ما جاء قبله بل يرث منه و يستعيده و لايخشى من نقضه اذا تعثر في الأمر شيء. ان العالم يتعلم انه ليست هناك حقيقة خالدة او ابدية و انه لا بد أن ينفي و ينكر و ذلك للتقدم للأمام. هذا ما كان يتعلمه الطالب الياباني ان الناس جميعا أحرار و أن النشاط العلمي يجب ان يكون حرا سواء كان فكرا او عملا و انه لاشيء الا ومعرض للمنازعة العلمية الرامية للتقدم لا التخريب. في نفس الوقت استبقى الطفل الخصوصية الايديولوجية التي لقنوها اياه منذ الطفولة متملكا لعناصر الخضوع و الاقطاعية, و لما كانت مرحلة الطفولة عميقة و لايمكن بسهولة الرجوع اليها فقد تكون و تشكل في هذا الطفل ذلك التناقض.
ان الذين شعروا بهذا التناقض أيقنوا انهم أدوات في أيدي طبقة متميزة قامت بصناعتهم مرتين, و انهم من اجل التغلب على هذا التناقض كان عليهم ان يصارعوا هؤلاء الذين حاولوا ان يصنعوا منهم آلات و أن يصارعوا أنفسهم لانهم انعكاس لتلك الطبقة المتميزة , في هذا المستوى بالظبط يظهر المثقف.
ان المثقف هو هذا الشيء, هو محاولته في أن يلفظ في ذاته باسم الكلي العام ليس التقاليد و العادات جميعها فحسب, بل تلك التي تجعل منه بالتحديد في أعماق نفسه مشاركا للطبقة الحاكمة, في هذه اللحظة لا يلوح المثقف على انه انسان فوق البشر بل انه مخلوق غريب انسان صنع متناقضا و عليه في هذا المستوى الاول ان يعبر عن تناقضه و ان يكافح ضد هذا التناقض او ان يضمحل و يموت.