دار البارود: الاسم الجريح للذاكرة المعرفية بمراكش
درّس بها علماء كبار و تخرج منها أعلام في الفكر والسياسة
بقلم: معاد إيحوف
عندما تمر بجوار أطلال ثانوية دار البارود في مراكش، تحس كأنك تستشعر روح الماضي تهمس في أذنك، و تتناغم تلك الأصوات التي انبعثت يومًا من أفنيتها، وكأنها لا تزال تتردد في الأرجاء، بينما أمام عينيك تتجسد أحلام أجيال تخرجت من فصولها، حاملة مشعل العلم والمعرفة إلى آفاق أوسع. تأسست دار البارود في بداية القرن العشرين، في مرحلة مفصلية من تاريخ المغرب، حين كان المغرب يسعى جاهداً لإيجاد نموذج تعليمي يعكس التوازن بين الحداثة والحفاظ على الهوية الثقافية، و كانت تلك المؤسسة، بكل تفاصيلها، صرحًا تعليميًا راسخًا، جاءت لتلبية حاجة ماسة لمؤسسة تربوية تُواكب التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها المدينة في تلك الحقبة، وفي كل زاوية من زوايا هذا المكان، تشعر بأن التاريخ يعانق المستقبل، وأن دار البارود لم تكن مجرد مدرسة ثانوية، بل و كانت نبضًا حيًا للمدينة.
يقول زكريا بلخياط، وهو طالب بالثانوية في فترة السبعينات و مقيم بالديار الأمريكية منذ أربعة عقود «لقد عشنا حقبة ذهبية في الثانوية، حيث كان تواجد ذلك الجيل من العلماء مصدر إلهام لنا، بالإضافة إلى موقعها الجغرافي المتميز، الذي منحنا فرصة فريدة للاطلاع على الكتببعد أخدهامن خزينة البلدية بثمن رمزيوقراءتهاتحت ظلال أشجار عرصة مولاي عبد السلام،إنها تجربة استثنائية مع الأسف لم يعشها هذا الجيل »،و كان الهدف من الانتقال الى دار البارود هو تهيئة أجيال قادرة على المساهمة في بناء مستقبل أفضل، مع الحفاظ على ارتباطها بجذور الثقافة المغربية، ولتحقيق ذلك، تم تصميم مبناها بشكل يجمع بين الجمال العمراني التقليدي والعملية، ما جعلها أشبه بجوهرة وسط المدينة.
لم تكن دار البارود في أصلها مؤسسة تعليمية، بل كانت مصنعًا لإنتاج البارود، يخدم احتياجات الدفاع والمقاومة، إلا أن القرار بتحويل هذا الموقع إلى مدرسة ثانوية يعكس رؤية عميقة واستشرافية لمن اختاروا هذا المكان بعينه، فاختيار موقع يحمل رمزية تاريخية مرتبطة بالقوة والصمود ليصبح مركزًا للعلم والمعرفة يُبرز التحول الجوهري من أدوات المقاومة المادية إلى أسلحة التنوير الفكري، كما أن هذا التحول لم يكن مجرد قرار عملي، بل خطوة استراتيجية تعكس طموحًا في ترسيخ التعليم كمحرك للتغيير الاجتماعي والثقافي، حيث أصبح الموقع بحد ذاته شاهدًا على الانتقال من ماضٍ نضالي إلى مستقبل واعد بالتنمية والنهضة.
و من بين طلاب الثانوية، كان هناك من جاء من ضواحي المدينة، حاملاً شهادة رمزية نالها بعد حفظه الكامل للقرآن، والتي فتحت له أبواب الثانوية، في خطوة تُمثل احترامًا للتقاليد الدينية وطلب العلم، مقابل الطلبة الآخرين الذين التحقوا بعد حصولهم على الشهادة الابتدائيةوبسبب بُعد منازل عائلاتهم وقلة المال، كان بعض الطلبة يقيمون في داخلية دار الباشا “الستينية”سابقاً، ويقضون أيامهم هناك، بينما كانوا يتوجهون كل خميس إلى حمام القصور للاستحمام،وكان البرنامج التعليمي شاملاً، حيث دُرّست فيه مواد مثل التوقيت، التجويد، البلاغة، الأصول، التوحيد، الفقه، التفسير، إضافة إلى اللغة العربية وباقي المواد الأخرى.
تميزت ثانوية دار البارود بكوكبة من الأساتذة البارزين الذين تركوا بصمتهم على مسيرة التعليم فيها، من بينهم الأستاذ أبو عبيدة المحرزي، الذي عُرف بريادته في تدريس مادة التجويد، والأستاذ الطاهري، الذي تخصص في مادتي التوقيت والتفسير، بالإضافة إلى الأستاذ الصديق الغراس، ناظر الثانوية آنذاك وأحد مؤسسي الحركة الوطنية، والذي كان يدرّس اللغة العربية، كما برز الأستاذ أحمد نوفل بن رحال، خريج المدرسة اليوسفية القديمة، بتدريسه لمادة تاريخ الأدب العربي، و الأستاذ محمد الطوكي الذي كان مدرسا لمادة الادب ، ولم يكن الجانب الرياضي غائبًا عن هذه المؤسسة، حيث تألق الأستاذ مولاي عبد السلام، لاعب فريق الكوكب المراكشي سابقًا، في تدريس التربية البدنية، أما إدارة الثانوية، فقد كانت تحت قيادة الأستاذ عبد العالي المنوني، رجل طويل القامة وأنيق المظهر، عُرف بارتدائه الدائم للملابس الكلاسيكية، ما أضفى هيبة ورصانة على شخصيته. و تجدر الإشارة إلى أن دار البارود لم تقتصر على استقطاب الكفاءات المحلية فحسب، بل جمعت أيضًا أساتذة من مختلف الجنسيات، بما في ذلك سوريا ولبنان والأردن والسنغال وبلجيكا وإنجلترا، مما أضفى على العملية التعليمية طابعًا عالميًا ومتنوعًا، و يقول المفكر الاستاذ عبد العزيز بومسهولي، وهو ايضا طالب بالثانوية في فترة السبعينات ،«لم تكن مادة التجويد تدرس أبداً في جامعة بن يوسف حتى تم تدريسها بدار البارود، وكان أبو عبيدة أول من درّسها، لتعوض مادة التربية الموسيقية».
مثّلت دار البارود أكثر من مجرد مؤسسة تعليمية، حيث اعتبرها البعض مسرحًا لصراع فكري عميق يعكس التحولات الكبرى التي شهدها المجتمع المغربي خلال تلك الحقبة. في أروقتها، تقابل تياران متناقضان، الأول محافظ، متشبث بجذور التعليم الديني التقليدي، الذي كان يرى في الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية ضرورة لا تقبل المساومة، والثاني متنوّر، يسعى لكسر القيود التقليدية والانفتاح على العلوم الحديثة وإدماجها في المناهج الدراسية، هذا التفاعل بين التيارين لم يكن مجرد خلاف أكاديمي، بل كان انعكاسًا لصراع أكبر حول مستقبل التعليم في المغرب، وإعادة تعريف دوره بين التقاليد الموروثة ومتطلبات النهضة الفكرية والتقدم الاجتماعي.
رغم مرور العقود، يظل إرث دار البارود حيًا ينبض في شرايين مراكش ، فقد كانت هذه المؤسسة الحافلة بالعطاء منبعًا لعدد هائل من الشخصيات البارزة التي تألقت في شتى المجالات، بدءًا من الأدباء والسياسيين وصولًا إلى المعلمين والصحفيين و غيرهم ،و تركت دار البارود بصمتها الواضحة في تشكيل الوعي الثقافي والاجتماعي في المدينة، وأسهمت في بناء مجتمع مُتزِن وقادر على مواجهة تحديات العصر، مما جعلها محط اعتزاز ومرجعية لأجيال متعاقبة.
” من بين الأساتذة الذين تركوا أثراً ايجابياًكبيراً على الطلبة و على مستوى التوجيه الفكري، الأستاذ نوفل بن رحال، الذي كان يلقب دار البارود بـ”فابريكا الحبَّة” نظراً لكونها كانت مكاناً لصناعة و تخزين البارود سابقا، و الأستاذ محمد الطوكي الذي كان يدرس بطريقة عصرية تجعل شرحه للدرس سهل الفهم و الاستيعاب، وهذا ما جعله من أفضل الأساتذة بالنسبة لي ولمعظم الطلبة»، يقول المفكر عبد العزيز بومسهولي أحد الأعلام الذين تخرجوا من هذه المؤسسة .
و رغم المكانة العلمية الرفيعة التي كانت تتمتع بها ثانوية دار البارود كواحدة من رموز التعليم الأصيل، إلا أن المجتمع لم يكن دائمًا يُقدّر طلبة هذا النوع من التعليم بالشكل المطلوب، فكانت هناك نظرة سلبية تُلقي بظلالها على هؤلاء الطلبة، حيث اعتبر البعض أن التعليم الأصيل مرتبط فقط بالعلوم الدينية والتقاليد القديمة، مما جعلهم يُنظر إليهم كغير قادرين على مواكبة العصر أو الانخراط في المهن الحديثة، يقول زكريا بلخياط: «التقيت بفتاة في احدى الحفلات وسألتني عن دراستي، أجبتها بأنني طالب بثانوية دار البارود، فبدأت مستغربة و بتعليقات محبطة تقلل من قيمة هذا التعليم»، رغم أن الواقع كان مختلفًا تمامًا، حيث ساهم خريجو التعليم الأصيل في بناء المجتمع وإغناء مجالات متعددة، فإن هذه الصورة النمطية شكلت تحديًا كبيرًا لهم في إثبات قيمتهم العلمية والمهنية.
دار البارود، و رغم إغلاقها، لا تزال رمزًا حيًا للمعرفة والنهضة التعليمية في مراكش، ومرآة تعكس قيم المدينة وتطلعاتها، قد تكون البناية قد سكتت، لكن الذاكرة لا تزال تنبض بصداها.