حلقات من تاريخ نقابة مفتشي التعليم (6)
الحلقة السادسة : استقلالية جهاز التفتيش التربوي… معركة لم تُحسم بعد

عبد الرزاق بن شريج: عضو مؤسسة لنقابة مفتشي التعليم و عضو مكتبها الوطني لمدة 20 سنة
شهادة شخصية موثقة حول السياق والأحداث التي أفضت إلى ميلاد نقابة مفتشي التعليم بالمغرب سنة 2003.
الغاية: حفظ الذاكرة النقابية لجهاز التفتيش وتوثيق اللحظات المفصلية في تاريخ نقابته.
مدخل الحلقة السادسة
بعد المؤتمر التأسيسي لنقابة مفتشي التعليم المنعقد يومي 4 و5 أبريل 2003، وجد المكتب الوطني الأول نفسه أمام مسؤوليات جسيمة وتحديات كبرى في ظل غياب شبه تام لأي دعم مادي أو مؤسساتي. ورغم محدودية إمكانياته — بل وانعدامها — انطلق المكتب مستنداً إلى ثقة القواعد النقابية وإرادة أعضائه القوية، فباشر خطوات عملية لبناء الإطار النقابي المستقل، بدءًا برفع الطعون القانونية ضد النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية (مرسوم 2.2.854)، ثم الشروع في تأسيس الفروع الجهوية، وتأمين انتشار النقابة وطنياً باعتبارها خطوات أساسية لبناء النقابة وتقويتها، إذ لا يمكن لأي تنظيم نقابي أن يحقق النجاح دون امتداد ترابي (جهوي وإقليمي) فعّال.
وقد وعدنا القراء في هذه الحلقة السادسة باستعراض برنامج عمل المكتب الوطني خلال ولايته (الأولى) الممتدة لثلاث سنوات، مع تسليط الضوء على أبرز الإنجازات التي حققها، والإكراهات التي واجهته في سعيه إلى ترسيخ استقلالية القرار النقابي والدفاع عن مكانة جهاز التفتيش ودوره التربوي. غير أن طبيعة هذه الحلقات — التي لا تُكتب دفعة واحدة بل تتابعياً — جعلت من الضروري، بعد تجميع المعطيات والبيانات والتقارير وشهادات المؤسسين، أن نتوقف بدايةً عند بعض المحطات الحاسمة في مسار النقابة.
ومن هذا المنطلق، تبين أنه من الأفيد للمفتشات والمفتشين، وخاصة أولئك الذين نأمل أن يحملوا مشعل النقابة ويواصلوا العمل على انتشارها وطنياً، العودة إلى الأرشيف والمراجع التأسيسية المتفق عليها بين المؤسسين باعتبارها بوصلة لعمل النقابة وركيزة لفهم توجهاتها. فلا يمكن بأي حال التفريط في إرث المناضلات والمناضلين الذين أفنوا سنوات من أعمارهم في خلق النقابة وبنائها ودعمها.
ومن أجل الاستمرار في سرد الأحداث بالكرونولوجيا التاريخية ذاتها، أصبح من الأساسي الوقوف عند نتائج اجتماع أول لجنة إدارية للنقابة مع مكتبها الوطني، لاستخلاص الدروس والاستفادة من التراكمات التنظيمية التي شكلت قاعدة الانطلاق نحو ترسيخ استمرار المطالبة باستقلالية جهاز التفتيش وتعزيز موقعه في المشهد التربوي.
وللإشارة فإن اللجنة الإدارية في القانون الأساسي الأول للنقابة تتكون من 75 عضوا، انتخبها المؤتمر التأسيسي، أما المجلس الوطني – حسب نفس القانون – فيتكون من اللجنة الإدارية بالإضافة إلى الكتاب والأمناء الجهويين للنقابة.
القراءة التحليلية لاجتماع اللجنة الإدارية (يونيو 2003)
1ـ السياق الوطني والرهانات التربوية
انعقدت الدورة الأولى للجنة الإدارية لنقابة مفتشي التعليم يومي 21 و22 يونيو 2003 في لحظة دقيقة وحساسة بالنسبة للمغرب. فقد جاءت (عقب) أحداث الدار البيضاء الإرهابية في 16 ماي 2003، التي أعادت طرح أسئلة جوهرية حول أدوار المدرسة المغربية في ترسيخ قيم المواطنة والاعتدال والديمقراطية حيث تقول الورقة “ويأتي اجتماع المكتب الوطني … في ظرفية دقيقة جدا، تميزت بالاعتداءات الشنيعة والدامية … وما استتبعها من أسئلة كثيرة، أعادت إلى الواجهة دور المؤسسة التعليمية في المجتمع والرهان المطروح عليها في تربية الأجيال على قيم الديمقراطية والتسامح والاختلاف”).
ضمن هذا السياق، برزت أهمية جهاز التفتيش التربوي باعتباره أداة مركزية لضبط العملية التعليمية وتأمين جودتها، وحمايتها من الانزلاقات الفكرية أو التنظيمية، كما جاء في الورقة (“كما أعادت إلى الواجهة الأدوار الموكولة إلى جهاز التفتيش في تدبير الحياة المدرسية تدبيرا عقلانيا يصون العملية التعليمية من كل أشكال الانزلاقات التي قد تضر باستقرار بلادنا”).
إن استثمار منعطف خطير على المغرب في توضيح وتشريح أهمية إصلاح المنظومة التربوية ومن ضمنها جهاز التفتيش وأهمية استقلاليته الوظيفية يعبر عن حنكة وتبصر القيادة الوطنية للنقابة وانشغالها بالهموم والقضايا الكبرى للوطن من موقعها كمؤسسة مدنية لها كلمتها في بناء المجتمع…
2ـ مطلب الاستقلالية الوظيفية: جذوره ودلالاته
رفعت النقابة شعاراً مركزياً خلال الاجتماع:
“من أجل استقلالية وظيفية لهيأة التفتيش تضمن تطبيق القانون والتوجهات الوطنية في التربية والتكوين”
هذا الشعار لا يعكس مجرد مطلب فئوي، بل يتجاوز ذلك إلى رؤية إصلاحية تسعى إلى ضمان حياد جهاز التفتيش وقدرته على أداء مهامه بعيداً عن الضغوط الإدارية والسياسية.
2.1. مفهوم الاستقلالية الوظيفية
الاستقلالية هنا ليست انفصالاً مؤسساتياً عن وزارة التربية الوطنية، كما روج ويروج لها بعض المغرضين، بل هي استقلالية وظيفية، مع التسطير على كلمة وظيفية تربط المفتشين بشكل مباشر مع المفتشية العامة للوزارة حتى يتمكّنوا من:
• ممارسة مهام التقويم والرقابة والتأطير بتوجيه تقاريرهم المهمة إلى الأجهزة التدبيرية المحلية والجهوية، وفي نفس الوقت إلى المفتشية العامة، وذلك للحد من التدخلات السلبية وخروقات الأجهزة التدبيرية الإدارية المحلية، دون تدخل مباشر من أجهزة التدبير الإداري.
• ضمان موضوعية التقارير ومصداقية التوصيات.
حماية مهام التفتيش من “التقزيم المستمر” الذي أشارت إليه الورقة (“وهو شعار يترجم قناعة راسخة لدى الجميع في كون التطبيق الأمثل للقانون … لا يستقيم إلا في ظل استقلالية تامة لهذا الجهاز تجعله بمنأى عن كافة أشكال الوصاية والتقزيم المستمر لأدوارهم”).
2.2. الاستقلالية كشرط لتطبيق القانون
أكدت الورقة -منذ ذاك الحين- أن حسن تنزيل الميثاق الوطني للتربية والتكوين وتطبيق توجيهاته الوطنية لا بد أن يمر عبر تمكين جهاز التفتيش من ممارسة مهامه بكامل الحرية والحياد (“التطبيق الأمثل للقانون وأجرأة المبادئ التي سطرها الميثاق الوطني للتربية والتكوين لا يستقيم إلا في ظل استقلالية تامة لهذا الجهاز”).
3ـ الأبعاد القانونية والبيداغوجية للاستقلالية
3.1. البعد القانوني
مطلب النقابة لم يكن موجهاً ضد الوزارة نفسها، بل ضد هيمنة جهاز التدبير الإداري على المهام الرقابية لجهاز التفتيش، ففي غياب فصل وظيفي واضح بين التفتيش والتدبير، ينشأ تضارب مصالح يضر بجودة العمل التربوي:
المدير أو المسؤول الإداري يصبح في موقع السلطة على المفتش، وبالتالي فالتقارير التربوية قد تتأثر باعتبارات إدارية بدل أن تستند إلى معايير مهنية وموضوعية.
3.2. البعد البيداغوجي
جهاز التفتيش ليس جهازاً رقابياً فقط، بل شريكا أساسيا في صياغة وتطوير السياسات التربوية. وقد أبرزت الورقة هذا الدور من خلال إعداد مشاريع للتكوين المستمر وهيكلة التفتيش (“مطلب الاستقلالية … شكلت وثيقة عمل مهمة … وأفرزت تصوراً واضحاً لمشروع هيكلة التفتيش بوزارة التربية الوطنية قد يساعد اعتمادها … على إعطاء نفس جديد لهذا الجهاز ليمارس مهامه بمزيد من الانضباط والمسؤولية، ويتمكن بالتالي من تجاوز الاختلالات التي تؤثر سلبا على عطاء المؤسسة التعليمية”).
كما عملت النقابة على بلورة مشروع للتكوين المستمر، ما يعكس وعياً بأهمية تحديث كفاءات المفتشين وتأهيلهم لمواكبة التحولات التربوية (“هذا وقد شكل تداول وثيقة حول مشروع التكوين المستمر وعياً عميقاً لهياة التفتيش بالقضايا الراهنة للتربية والتكوين”).
4ـ النقابة كقوة اقتراحية وشريك إصلاحي
تُظهر الورقة أن النقابة تجاوزت الدور الاحتجاجي لتتبنى دوراً اقتراحياً فاعلاً (“وهو ما يبرهن على أن نقابة مفتشي التعليم تسعى إلى أن تكون قوة اقتراحية وشريكاً للوزارة في مختلف المشاريع التربوية”)، لكنها في المقابل انتقدت بطء تجاوب الوزارة الوصية (“في مقابل ذلك تدعو المسؤولين على الوزارة الوصية إلى ضرورة البث العاجل في ملفها المطلبي وترجمة الوعود الشفوية التي أعطيت أكثر من مناسبة إلى أفعال ملموسة”).
خاتمة تحليلية
تكشف الورقة أن مطلب الاستقلالية الوظيفية لجهاز التفتيش التربوي سنة 2003 كان ومازال مطلباً إصلاحياً جوهرياً، يستند إلى قناعة بأن المدرسة المغربية تحتاج إلى آلية مهنية مستقلة لمراقبة جودتها وتطبيق القوانين والتوجيهات الوطنية.
غير أن تحقيق هذا المطلب ظل مرهوناً بثلاثة عوامل أساسية:
أولا= استمرار النقابة في طرحه وشرحه وتوضيحه والدفاع عنه، لكن الملاحظ أنه غاب من بيانات النقابة في السنتين الأخيرتين، ومعلوم أن الإلحاح هو الذي يحقق المطالب، إن الله يحب العبد الملحاح.
ثانيا= تحديد واضح للصلاحيات بين التفتيش والتدبير الإداري، بما يضمن حياد التقويم وموضوعية التقارير، وهذه النقطة تأتي بعد الأولى لأن في غياب هذه الأخيرة لا يوجد من يساهم في التحديد والتوضيح …
ثالثا= ترجمة الوعود الإصلاحية إلى إجراءات عملية تجعل من جهاز التفتيش قوة فاعلة في صياغة السياسات التربوية، وليس مجرد أداة لتنفيذ القرارات الإدارية، وهذا العامل مرهون بالسابقين عليه
إن الاستقلالية، وفق ما ورد في الورقة، ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لضمان جودة التعلمات وعدالة الفرص التعليمية ومصداقية التقويم التربوي.
الخلاصة = الاستقلالية هي الأساس والباقي تفاصيل
الاجتماع الأول للجنة الإدارية لنقابة مفتشي التعليم (يونيو 2003) شكّل محطة حاسمة في مسار النقابة، حيث تبنى مطلب الاستقلالية الوظيفية لجهاز التفتيش باعتباره شرطاً لضمان جودة التعليم وحياد التقويم التربوي بعيداً عن الضغوط الإدارية والسياسية. ركّزت النقابة على ضرورة ربط المفتشين مباشرة بالمفتشية العامة للوزارة لتقوية دورهم الرقابي والبيداغوجي، مع بلورة مشاريع للتكوين المستمر وهيكلة التفتيش. ورغم اعتراف النقابة بأهمية هذا المطلب الإصلاحي، فإن تحقيقه ظل رهيناً بتوضيح الصلاحيات بين التفتيش والتدبير وترجمة الوعود الإصلاحية إلى إجراءات عملية.
وبالتالي إذا تحققت الاستقلالية الوظيفية لجهاز التفتيش ستتحقق أوتوماتيكيا باقي المطالب، الاستقلالية هي أساس الملف المطلبي والباقي تفاصيل.