تجارب مع الزلزال
حسن أوزال: كيف نعيش بمحاذاة الكارثة؟
حسن أوزال
ترى ما الدروس التي يمكننا أن نتعلمها من حدث الزلزال؟ لا أقصد هنا الزلزال الحالي فحسب بل الزلزال باعتباره حدثا مباغثا يكاد كأي كارثة أخرى أن يجهز في رمشة عين على حياة كل واحد منا دون سابق إنذار .تبدو راهنية الزلزال إذن أكثر ارتهانا به كحدث كارثي مباغث أكثر منه بشيء آخر.حدث ما انفك يهدد بالقضاء على أغلى ما نملك ألا وهو الحياة .و إذا صح لنا أن نُعَرّف الحياة باعتبارها مجموع القوى التي تقاوم الموت على حد توكيد الطبيب بيشا ،فالسر الذي ينطوي عليه حدث الزلزال يكمن في كونه مخلخل لهاته القوى و على أهبة استنفاذها و شلّ حيويتها بشكل فجائي و مباغث.
بديهي إذن أن يبدو لنا عنصر المفاجأة الموصول بالموت و الحالة هاته بمثابة ما يؤسس لكُنْه و ماهية كل حدث كارثي من قبيل الزلزال. لكن ما يميز المباغثة من جهة أخرى إنما هو كونها فضلا عن ذلك تروم أن تقضي أيضا على أدنى عملية تعقل لدى المرء كاشفة في الوقت نفسه عن مدى قدرة كل واحد منا على إجادة التصرف أو إساءته.انسجاما مع هذا المعيار، عملنا إجمالا على رصد ثلاثة نماذج من الكائنات البشرية اعتمادا على طريقة تصرف كل إنسان على حدة وذلك بحسب تمثله للأمور بطبيعة الحال .
النموذج الأول يندرج فيه كل الناس الذين أمام الهزة الأرضية لم يجدوا من حل عدا الهرولة و الصياح ،البكاء و العويل.إن هؤلاء و لئن أبانوا عن مدى تشبثهم بالحياة ،فذلك ليس جراء حبهم الغريزي لها، بل جراء خوفهم من الموت بالأساس.خوف لم يجعلهم قادرين على فعل أي شيء يخدم بقاءهم النرجسي على البسيطة فحسب ،بل أدى بهم أيضا الى الهرولة في كل حدب وصوب .و دون وعي منهم ،بما يقترفونه من شرور ،صاروا يدوسون على كل من يعترض سبيلهم غير مكترثين بالآخرين من حولهم سواء كانوا شيوخا أو أطفالا ،مرضى أو نساء.همُّهم الوحيد و الأوحد إنما هو أن يفلتوا بأرواحهم البئيسة حتى ولو كان ذلك على حساب غيرهم من الناس.إنهم أشبه ما يكونون بذلك الحيوان المفترس الذي من فرط الجوع ينقض على عنق أخيه معتقدا على أنه بذلك إنما يستطيع أن يفلت من القدر بينما هو في الحقيقة لا يعمل إلا على مواكبة مسار محسوم و معلوم الخواتم.مسار يشمل كل ما يوجد سواء كان من صنف الحشرات أو النباتات ،الأسماك أو الفيلة،الطيور أو الأسود…
أما النوع الثاني فهو ما ينضوي تحت لواء أسلوب تعامل الروماني ” بلين الشاب”Pline le jeune مع حادثة انفجار بركان” فيزيف” بإيطاليا عام 79م بحيث اكتفى بدل مرافقة خاله” بلين القديم”Pline l’ancien إلى عين المكان لجمع المعطيات حول مايجري إنقادا لما يمكن إنقاده ،قلت بدل ذلك فضّل أن ينْكبّ على قراءة كتاب” تيت-ليف” و الاستمرار في الاشتغال عليه .لكنه في الحقيقة لم يفلح حتى في هذه المهمة التي تذرّع بها هو الذي فشل أيضا في أن يغدو فيلسوفا بالرغم مما راوده من طموحه جامح .و تجدر الإشارة هنا إلى أن ما قد يشفع “لبلين الشاب” تقاعسه الذي أبان فيه عن عجزه و عدم قدرته على أن يكون في مستوى الحدث إنما هو بالأساس صغر سنه .إذ كيف له أن يحسم في أمور بهذا الحجم و هو لم يتجاوز بعد كشاب السابعة عشر عاما من عمره.صحيح أنها فترة العمر الساحرة القمينة بأن تسمح للمرء ،بقدر اشتغاله على نفسه ،بأن يحيا حياة مغايرة لحياة الفئران و الذباب…لكنّه أمام هول فاجعة الحمم البركانية التي تُهدّد بالاتيان على الحابل و النابل زاحفة نحوه بدخانها و غازاتها السامة لم يملك إلا أن ينتظر الموت مكتفيا بمواساة نفسه بالنظر إليها ككارثة حتمية لا أحد سينفلت من نيرانها.
كأني به و الحالة هاته يستحضر شذرة لوقراتوس الشهيرة و التي يؤكد فيها على أن المرء عادة ما يجد متعة لاتضاهى وهو يتملى من فوق عذابات غيره من الناس.لذلك يحق لي القول بأن حياة “بلين الشاب” حياة لا ترقى لأن توصف بحياة العظماء .لكن بالرغم من كونها حياة إنسان بسيط،فهي مع ذلك تستحق التمجيد لا لشيء إلا لأنه لم يقم في ما أتاه من أعمال بمضاعفة بؤس غيره من الناس ، داركا أن الأهم و الحالة هاته ليس هو أن تصبح بطلا بل أن لا تضيف على الأقل حقارة لحقارة العالم من حولك.
بعد جردي للنوعين الاثنين يبقى لي أن أمر الى النموذج الثالث بيت القصيد.نموذج رجل فاضل و حكيم جمع بين خصال كثيرة، نادرا ما تجتمع في شخص واحد ،و أبان عن طول كعبه في مجالات شتى بدءا بمجال الحرب و الفلسفة و انتهاء بحقل الكتابة و الملاحة مرورا ببراعته كخبير في الطبيعة و جدارته في التوفيق مابين القول و الفعل. بحيث ما أن أخبروه بكارثة البركان حتى صمّم معاينة الحدث عن كثب غير خائف من مواجهة الأخطار المحدقة، و هو في هذا الشأن أشبه ما يكون بمن يقترب من حيوان مفترس رغبة فقط في تعلم أمور جديدة مهما كانت التكلفة.لعل التعلم هنا بغاية الفهم قضية عظمى لا تجذب إلا من تحدوه روح المجازفة في الحياة .لنقل أنه قضية من يتقن فن العيش و ينشد على الدوام تنمية معارفه.و هاهنا تغدو المعرفة مرحة و واجبا.لكن حتى المعرفة بدورها قد تصبح أحيانا و في سياقات خاصة، أقل قيمة مقارنة بالبراكسيس ،مما يستوجب علينا حينئذ أن نرجح كفة العمل و الفعل لا النظر و التأمل.وذلكم بالضبط هو ما أقدم عليه الحكيم الروماني” بلين القديم” عندما أصر خلافا لابن اخته على الاقتراب من البركان الحدث، لدراسته و معاينته عمليا بدل الاكتفاء بتفحص سلسلة من الكتب المتخصصة في هذا المجال،ناهيك عن رغبته أيضا في مد يد المساعدة لأصدقائه، داركا أنه أمام هكذا رهان، سيفضل الصداقة على المعرفة .بناءا عليه أسرع تجاه البركان دون أدنى تردد و في طريقه إليه واسى صديقه و جعله يحس بنوع من الطمأنينة النفسية بعد أن أبان عن قدرته الخارقة على مواجهة انفجار البركان بأريحية منقطعة النظير.أريحية سرعان ما اخترقت نفوس الآخرين و جعلتهم يستعيدون توازنهم النفسي بالرغم مما يجري.
إلى هذا الحد يتبدى جليا أن قراءتنا وحدها لسلوكات “بلين القديم” ،كفيلة بأن تجعلنا نستشف دروسا في الحياة لا تنضب.دروس تليق بأن تغدو عبرا فلسفية لمن يعتبر .ذلك أن الكون في تهديده لنا مشهرا جملة من الكوارث في وجوهنا ،هو ما يعمل في الآن نفسه على حملنا للتمسك على الأقل باللحظة التي نحن فيها أحياء نرزق. إذ على ذات النحو فحسب نتفادى استعاجل الموت خاصة وأنه مهما بلغت الكارثة فهو لم يحن بعد.و هذا ما قام به القائد الروماني الشجاع عندما صمم بالرغم من زحف الرماد و الحمم البركانية،على أن يأخذ دوشا و يتعشى مبديا نوعا من المرح ،أثار اندهاش الجميع ،و ذلك قبل أن يخلد للنوم العميق .نوم مقرون بشهادة الرواة بصوت الشخير .شخير لا نعهده كما هو معلوم إلا في من هم أكثر انهماما بذواتهم .إنه انهمام أشبه ما ينذر بمدى تقديس “بلين القديم” لنفسه تقديس التلميذ المجتهد لواجباته اليومية . هكذا عاش الرجل مستمتعا إلى أن حان وقت المغادرة ،و بدل أن يستدعي كاهنا اكتفى باستدعاء بساط فرشه فوق الأرض و طلب كوبا من الماء فامتد و نام قبل أن يرده اللهيب الناري جثة هامدة.ليضيف الى قاموسه الايطيقي السالف الذكر ، بندا عريضا عنوانه بحسبه هو:”لزوم أن نعرف أن نموت”.و هو بند إن كان يدل على شيء فإنما يدل على أنه بالفعل يتقن فن العيش .فن يوشك بأن يوقظ فينا ونحن نتملى هذا النموذج، تلك النزعة الرواقية الشهيرة التي بقدر ما تدفعنا لأن نكون في مستوى الأحداث بقدر ما تدفعنا للمجاسرة و مغادرة الحياة تماما مثلما يغادر الضيف بيت مضيفه وهو في غاية التخمة.