ثقافة

ثلاثية نيويورك للأمريكي بول أوستر: كل شيء يبدأ من مدينة الزجاج

لوسات أنفو؛ عادل أيت واعزيز

في فضاء يتعذر اختراقه، كمدينة نيويورك، يَفُكُّ بول أوستر كل ارتباطاته بلغته، فيخلق للقارئ عالما لاوجود فيه للشيء إلا في عودته– عالم يحكمه العود الأبدي– لنكون أمام لعبة دائرية انعكاسية يغدو فيها المعلول علة.

لم يكن للروائي الأمريكي مالك أسرار نيويورك وبروكلين ورجل الظلام، خيار آخر في ثلاثية نيويورك غير أن يسيل لعاب مفارقات الموت والحياة، في قصص متفرقة أصدرت في فترات متلاحقة ضَمَّت ؛ مدينة الزجاج سنة 1985، ثم الأشباح والغرفة الموصدة اللتان نشرتا في سنة 1986، ليتم تجميعها سنة 1987 في ثلاثية نيويورك التي تقع في خمسمائة صفحة.

المؤكد أنها ليست روايات متفرقة، بل هي في الحقيقة رواية واحدة، تغوص فيها كل قصة في عالم منظور إليه ومن موقع مختلف، تجمع وحدته ” نيويورك ” التي تتحول كل مرة لشظايا زجاجية، فيعمل أوستر على إعادتها إلى العالم.

يبدأ كل شيء في مدينة الزجاج باتصال خاطئ يصل للكاتب دانييل كوين، بدل بول أوستر، فيزعم الأول أنه بول أوستر، فتنطلق لعبة التحري في مشاهد جنونية تقصف بذهن القارئ، ليُقْدِم كوين على مساعدة بيتر ستيلمان الذي أقعده والده في الظلام لحوالي ثلاثة عشر سنة، ويأخذ كوين على عاتقه مراقبة والده ستيلمان بعد خروجه من السجن.

للرواية راوٍ لانكاد نتعرف عليه في البداية، وهو مطَّلع على كل شيء، وهو موجود في الرواية وصفحاتها الأخيرة وجودا ناقصا وغير متحققا. وفي أحيانٍ كثيرة يقتحمنا بول أوستر بشكل غير مباشر بين السطور بضمير المخاطب، كقابلة يسحب الشخصيات من ظلمة إلى أخرى ومن تيه إلى آخر ليس أقل منه، ليطلق لكل واحد اسما أو اسمان أو ثلاثة، في لعبة للأسماء قد يحمل فيها شخصان اسما واحدا، أو شخصا واحدا لشخصيات متعددة. ليشرع كوين بمعالجة ستيلمان بزيارات سريعة أدبية وتاريخية وفكرية، كان رحَّالوها الرئيسيون شعراء وأدباء أمريكا. وهي بالفعل مناسبة معرفية أمام القارئ للتعرف مختلف خطوط الأدب الأمريكي ومحركها.

يبدأ تحري كوين عن الأب ستيلمان في جامعة كولومبيا، بحصوله على كتاب للأخير حول شجرة المعرفة والفردوس وبرج بابل. حيث كانت فكرة الكتاب الأساسية تبدأ من لحظة السقوط البشري وإعادة بناء بابل الجديدة، وحسب هنري دارك شخصيات الرواية ومؤلف كتاب ” بابل الجديدة” ، هي؛ أمريكا الجديدة، التي ستوحد الناس على لغة واحدة ليعودوا للفردوس، فتأخذ الحوارات شكل تداعٍ حر، يجد بها الكاتب المساحات الخالية للشخصيات من الحكم على ذواتها.

 لتكون قراءة الثلاثية قراءات عديدة لمؤلفات مختلفة. إنها عملية تفتيش محكمة من أوستر، يقول ؛ “هناك كتاب ما، كتاب حقيقي في كل رواية من روايات الثلاثية، هذا الكتاب مفتاح من مفاتيح الرواية، أي أنه يعبر عن فكرتها “.

وفي مدينة الزجاج، فالكتاب هو “دون كيشوت” لسرفانتس! المرتبط بمطاردة الإنسان لأحلامه ، وكما أن الحرفين الأوليين منه تتشابه مع اسم ” دانييل كوين”.

تتهاوى الشخصيات والأحداث في قالب فاقد للسببية، ثم يمسكها الكاتب كأنه مفك براغي ويُثَبثها بإحكام في لوحه السردي، فبيتر وكوين وفرجينيا وستيلمان شخصيات لم تحقق بعد الهيئة المقدر لها. لتكون قضية ستيلمان مرفأ ينتظر فيه كوين ثم يعبره نحو أجزاء العالم.

وحيث تصبح فيها الهوية تكرارا، تعيينها رهين بالتحري وملاحقة الأشخاص ومراقبتهم، هذه المراقبة التي ما تفتأ في الرواية الثانية ” الأشباح ” آلةً ميكانيكية ضخمة تبتلع الأبطال في الرواية، حيث يكلف السيد “وايت” السيد المتحري “بْلُو” لمراقبة السيد ” بلاك “، وكما أن بلاك في شقته لايصدر على أي شيء جديد غير الكتابة وقراءة كتاب والدن لهنري دايفد ثورو، الذي سيتشريه بْلُو فيما بعد. ليطفح روتين بْلُو بعد الحالة الشبحية التي أحاطت به في عزلة تامة.

خلال هذه المراقبة التي يسكن فيها الآخر الذات، ويجعلها في اختلافاتها شبيهة بالآخر، تأتي لحظات مع بْلُو يشعر فيها بالإتساق التام مع بلاك! ليرى الأشياء التي لم ينتبه لرؤيتها في المستقبل. فكلما كان أشد تورطا أصبح أكثر حرية. لكن الجديد أن بْلُو أصبح يعيش على حياة الآخرين، وآفتُه أن حياته تتوقف على مراقبة حياة الآخرين، أما بلاك فكانت هِوايته اللاَّمرئية أنه يعرف كيف يحيا ، وأن حاجة بلاك إليه حاجة تذكرية لما سيقوم به.

انكسار الحالة الشبحية تظهر حين يغادر بلو الغرفة، وعلى الأقل هذه الحالة هي حالة البين بين ، والخروج منها خروج اختفاء و زوال! فالشخص بلو خرج ليصير لاشيء، خرج وفقد وجوده الشبحي، ليكتب الكاتب جملة ثقيلة ؛ “ومنذ هذه اللحظة فصاعدا لا نعرف شيئا “.

غير أن الرواية الأخيرة من الثلاثية ” الغرفة الموصدة” لا تستبعد الجزأين الآخرين في أفكارها، لكنها تفتح آفاقا مغاييرة لمفاهيم وأسئلة قبيل ؛ مالذي يعنيه وضع إسمنا على كتاب ؟

يتسلم كوين رسالة اختفاء صديق طفولته فانشو من زوجته الجميلة صوفي، وفشل المتحري كوين في اقفتاء أثره. يعود بنا الراوي – الذي لا نعرف اسمه- للماضي وعلاقته الحميمية مع فانشو، فيبدأ الراوي عملية تحرٍ واسعة حول صديقه، هذا، ملازمة مع ترتيب نشر كتابات فانشو الروائية والشعرية، التي نالت نجاحا كبيرا عند القراء. تتوالى الأحداث ويطلب فانشو في رسالة للراوي أن يتزوج صوفي وتبني ابنه بِنْ ومحذرا له بتتبعه، وهذا ما حدث، ثم تخطر على صديقه الرواي فكرة تأليف سيرة على حياة فانشو، يبدأ التنقيب عن تفاصيلها عند أمه السيدة فانشو ، لتنتهي لقاءاتهما بممارسة الجنس، يتحول فيها مجال الرواية لتيار كهربائي من الإحتمالات الجنسية ، تكون فيه الرغبة الجنسية رغبة في القتل والهدم.

تتلاحق الأحداث ، فيقابل الراوي شابا أمريكيا في حانة فيدعوه بفانشو غير أن الشاب ألح عليه أنه بيتر ستيلمان!

في سنة 1982 يتلقى الراوي رسالة من فانشو للقائه في بوسطن، فيزوره في بناية متداعية ظل فيها فانشو عامين في غرفة موصدة، ليخبره أنه يتنقل تحت اسم هنري دارك، ليسلم له كراسة حمراء، يأخذها الراوي ثم يمزقها بعد قراءتها.

إن فانشو، اسم رواية موؤودة لم يلتفت لها أحد للروائي الأمريكي ناثانيل هاوثورن، نشرت بعد وفاته حين عثر على نسخة متبقية منه. وفي عالم بول أوستر يتحول فانشو الكتاب إلى كاتب يرفض أعماله، ويتخلى عنها، بل يتخلى عن زوجته وابنه، ويدخل حالة من الهروب الدائم، والحصار الغريب. إن فانشو الحتمية، هو الموت في شدة إغوائه، هو تعبير عن الشخصية الأمريكية القلقة والمغامرة والمجازفة التي تلقي بنفسها، إنه المنطلق الذي يبدأ منه كل شيء.

أمام هذه الكومة من القضايا الهوياتية ، ليست قصص؛ مدينة الزجاج، الأشباح، الغرفة الموصدة، متبانية. بل هي في نهاية المطاف القصة نفسها، وكل قصة منها تمثل مرحلة مختلفة من الوعي الأوستري، ولحظات لإلقاء النظر على ما حدث ويحدث. كما أنها ليست خطاً واحدا، بل مجموعة خطوط تنقلنا خارج أنفسنا وتجعلنا غرباء، ليس مع محيطنا فحسب، إنما غرباء عن أنفسنا. إن بول أوستر هو تعبير عن خارجنا، هو مجرى الهواء من كل الاحتمالات الممكنة للأدب الأمريكي. لتكون الرواية – ثلاثية نيويورك – بأجزائها علامة استفهام معلقة حول ؛ من نطارد؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى