ثقافة

باتريشيا هايسميث الغامضة التي تغمس ريشتها في الوعي واليومي لأبطالها القتلة

الحياة ما هي إلا جريمة قتل طويلة وهادئة

عبد الكريم أوشاشا/ كاتب مغربي

تعتبر المذكرات (Les écrits intimes – 2021) التي تركتها الروائية الموهوبة الأمريكية Patricia Highsmith، كنزا أدبيا ثمينا؛ كتابات حميمية مكتوبة بخط يدها وبخمسة لغات مختلفة تتقنها الكاتبة (الإنجليزية، الألمانية، الفرنسية والإيطالية والاسبانية) تعّبر وتتوافق مع الأمكنة التي سافرت إليها أو تلك التي أقامت فيها.

رواياتها تسلط الضوء الكاشف عن الأرصفة والأزقة المظلمة والحانات الرخيصة عبر شخصيات عادية جدا

تسرد في هذه المذكرات الحميمية علاقتها بشخصياتها وحبكاتها الروائية وعن حياتها الاجتماعية والعاطفية؛ منذ شبابها بنيويورك حتى آخر أيامها بسويسرا مرورا بالأماكن التي أقامت فيها مثل انجلترا وفرنسا، بروح متأججة متعطشة للحب وللفكر، متقصية وباحثة دائما عن حسية وشهوانية الجسد وروح الأنثى؛ مطبوعة بعبق مدينتها تكساس مسقط رأسها والاحساس بالذنب الأمريكي المضاعف (العنصرية والشعور الخفي بالهيمنة على العالم… )
تتميز وتنفرد رواياتها عن الرواية البوليسية والرواية السوداء ببصمة خاصة فهي تعتبر أحد القمم البارزة والأساسية في رواية الجريمة الأمريكية فهي نموذج خاص لا تنتمي إلا لنفسها في جنس عريض متنوع للرواية البوليسية.

ففي الوقت التي تصدر فيها كتبها كانت الرواية السوداء (le polar) في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوروبا قد انفصلت منذ فترة ما بين الحربين العالميتين عن الرواية البوليسية التقليدية التي تعتبر أجاثا كريستي (Agatha Christie) نموذجا لها لتنعطف نحو الرواية السوداء التي تهتم باستقصاء واستكشاف بشكل كبير الأعماق المضطربة والمتقلبة والتحولات المجتمعية بعيدا عن الأجواء المريحة للصالونات الإنجليزية وبعيدا عن نمطية حل غموض وعقدة الجريمة من طرف مفتش أو رجل مباحث يتمتع بمؤهلات وجدارة مهنية غير محدودة وخارقة..

فرواياتها تسلط الضوء الكاشف عن الأرصفة والأزقة المظلمة والحانات الرخيصة عبر شخصيات عادية جدا وأحيانا معيبة مفتقرة لكل سمات البطولة (البطل المضاد) تواجه الانحطاط وغياب العدالة وتدهور واضطراب النظام والتشوش في الهويات الفردية..

لقد قامت Patricia Highsmith بانتهاك صارخ وصادم للميثاق الأساسي للرواية البوليسية التقليدية، عندما تكشف لنا منذ الصفحات الأولى عن القاتل، بنية العقدة البوليسية نفسها تم قلبها تماما، ولم يعد انتباه القارئ مشدودا على الحل أو تنتابه الحيرة والغموض حول حل العقدة ومن هو القاتل، بل إن انتباهه انقلب فجأة إلى عواقب الجريمة وتبعاتها على المسؤول عنها..
فرواياتها تستعير الأجواء والثيمات من الرواية السوداء مبرزة عالم متهتك حيث الفرد معزول ومنفصل عن المجتمع يقوم هو نفسه بصياغة قوانينه الأخلاقية الخاصة؛

فداخل المتاهة الداخلية لوعيه المنحرفة والإجرامية ترمي بنا الكاتبة لنسبح داخلها.. فهي تضع القاتل في قلب الحكاية وتطمس الحدود بين الخير والشر وبين الفضيلة والرذيلة؛ والأكثر من ذلك تبين لنا بأن الجريمة يمكن أن تحدث حتى في الظروف الأكثر ابتذالا..
في كل هذا تلح الكاتبة وتصر على حرية الفرد وعلى أولوية الموقف والسلوك الإنساني؛ إنها هنا قريبة جدا من وجودية سارتر وألبير كامي..
ويخلص الفيلسوف السلوفيني سلافوج زيزيك (Slavoj Žižek) عالم الروائية بهذه الجملة: لقد أخذت الجريمة الخيالية وهو النوع الأكثر سردية وشرّبته بجمود الواقع وغياب الحل والتحول البطيء وكل ذلك من خصائص الحياة الواقعية.

عانت Patricia من مثليتها في سياق صعود المكارثية لكن ذلك أغنى كتابتها التي أصبحت كالمسامير وكشافة للدواخل الإنسانية..
استقرت بعد ترحال طويل في منزل منعزل بأحد أرياف سويسرا تعيش مع القطط وتربي الحلازين واعتبرت نفسها متوحشة وكارهة للبشر (misanthrope ) كتبت ما يقارب 22 رواية والكثير من القصص القصيرة ومحاولة في فن التشويق (l’Art de suspense )
توفيت باتريسيا عن سن يناهز 74 سنة.

عبد الكريم أوشاشا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى