الميخالة: لقمة عيش تنتزع من قلب القمامة
لوسات أنفو: عادل أيت واعزيز
لا خيار غير النبش في القمامة
وأنت تتخلص من مخلفاتك المنزلية، لا تنس من يبحثون فيها عن قوتهم اليومي في القمامة. وحين تتقزز برميها في النفايات، هناك من يحشر وجهه بكل ما أوتي من قوة كي ينبش في أصناف قاذوراتها، كأنه يبحث عن إبرة في كومة قش، يُقَلبها ويعزلها ويأخذ منها ما يريد، كأننا أمام عملية استخلاص ترياق من قلب الحاوية. هو ترياق ما سيكفيه لسد رمق عيشه. إنهم “الميخالة” أو ” البوعارا “، هكذا يطلق على يافعين ورجال يسابقون ضنك عيشهم نحو الزبالة لإعادة تدوير ما يبدو لهم ذا قيمة وبيعه من جديد، هم أناس يعيشون بالنفايات!
لكل واحد تخصصه، وكل مجموعة لها قماماتها الخاصة، مقسمة عليهم بالتساوي، وموزعين في كل أحياء مدينة مراكش. هذا يقود دراجته الهوائية المهترئة يحمل خلفها كيسا ممتلئا بالقنينات البلاستيكية والزجاجية، وهؤلاء بعربتهم المشدودة بدابة على وشك السقوط ، تتحمل ركاما من بقايا الخضر وقشور الفواكه والخبز اليابس. وآخر بقميصه المرقع بالبقع وسرواله البالي بنعلين لا يشبه أحدهما الآخر، يمضي نحو قمامة لأخرى بخطى مستعجلة، يحوم رفقة الذباب حول القمامة، يلتقط كل ما يبدو له صالحا بيدين خشنتين منهكتين بالشوائب.
النبش عن حياة كريمة وسط القمامة
أسامة، الذي يبلغ من العمر31 سنة أحد هؤلاء، يعبر لـ ” لو سات أنفو” عن البواعث التي دفعته للإقدام على التميخيل، أولها يقول؛ “العوائق المادية والأفق المسدود”، مضيفا حين سألناه عما يبحث عنه بالظبط؛ ” أبحث عن أي شيء يمكن أن أعيد بيعه، ساحبا إحدى الكؤوس من رزمته قائلا: “هذا الذي لم يعد صالحا لمن رماه سأجني منه درهما أو نصف درهم، وأحيانا أستغله لنفسي، أما الفئات التي تشتري عندنا فهي تتجاوزنا فقط بـ ”نغزة”، أي أنها من طبقة اجتماعية تعيش نفس ظروف الهشاشة كما الميخالة.
ولأن ساعات العمل عند الميخالة غير منتظمة وخاضعة لصرامة زمنية، فأسامة يفضل العمل أثناء الليل لتفادي أي مشاحنة. حوالي الساعة الثانية عشر ليلا، يبدأ في نبش القمامات، ويستأنف نشاطه بعد الساعة الثالثة زوالا، في نقطة التقاء الميخالة، ومكان عرض المواد، مزاد الميخالة. “باب دكالة”، لينتهي مع غروب الشمس، عائدا بأربعين درهما إلى تسعين ( 4 إلى 9 دولار في اليوم)، وأحيانا تبتسم لأسامة الكؤوس والعلب والإكسسوارات القديمة، فيكون ما يبيعه منها تعويضا لنشاطه لأسبوع.
أما الإصابة بأمراض أو فيروسات فهي مسألة لا يستحضرها، وغير مفكر فيها عند الميخالة، بل وليست مطروحة في وسطهم. وتتباين درجتي الربح والخسارة عندهم باختلاف الأحياء، فالذي سيجده في قمامات الأحياء الثرية، ليس الذي ينتظره في القمامات الشعبية والفقيرة. يواصل أسامة حديثه؛ “الناس تنظر إلينا بعين الاحتقار، ولكن من الممكن إن كان هناك بديل أن أشتغل فيه”، ويتساءل في نفس الوقت؛ ”ولكن أين البديل”؟
هذا أسامة، لكنه لا يختلف عن سعيد، الذي يعارك الحياة، معيلا أسرته التي تتكون من أربعة أفراد مما يكسبه من بيع البلاستيك والمستلزمات، متعففا من طلب المساعدة، حيث يقول: “أميخل وأبيع ما حصلت عليه من غنائم غريبة في باب الخميس صباحا”. وبنبرة صارمة يضيف: ” اسمع، نحن نميخل نعم، هذا صحيح، نميخل زبالة الناس، من أغنياء ومسئولين كبار، هذا صحيح أيضا، لكننا لا نتسولهم، نميخل بشرف وبمجهود ولا نكلم أحدا منهم ولن نطلب منهم شربة ماء حتى وإن متنا عطشا”.
سعيد الذي يبلغ من العمر 43 سنة، انتقل لمدينة مراكش منذ سنوات. كان يتفرغ فيما مضى لجمع علب السردين وبقايا الخضار والنعناع، أما الآن، يلمح أنه يكتفي فقط بالبلاستيك والزجاج والمستلزمات التي قد تبدو صالحة للبيع. ولأن هذا النشاط لا محيد عنه لكسب قوت يومي، يقول سعيد؛ “التميخيلة أصبحت الآن لصيقة بنا.” يظهر ابتسامة ويسترسل؛ “حتى وإن استحممنا بالعطر ستظل رائحة الأزبال داخل جلودنا وليس على سطحه فقط”. يواصل حديثة، مقحما يده في عمق القمامة؛ “كل يوم تقول غدا لن أميخل وفي الغد تجد نفسك مهرولا في اتجاه غموض قمامات أحياء جليز الراقية، يقول أن ربحه اليومي بين المائة والمأتي درهم ( 10-20دولار).
بين التدوير والتميخيل
تمر عملية التميخيل بإعادة التدوير وبيع المواد البلاستيكية عبر مراحل، تبدأ ببيعها لتجار آخرين من بينهم خالد الذي يصرح لـ لوسات أنفو ؛ “ليست عندنا أية مشاكل مع الميخالة، ونتعامل مع كل ميخال على حسب طبيعته الخاصة، فمنهم من يتفاوض معنا على السلعة، ونوع آخر يضيف: “زبون وفيّ، لا يتعامل إلا مع تاجر واحد، وحين يتوقف عن العمل، يلجأ إلينا ليقترض منا أربعين أو خمسين درهما ( 5-4 دولارات)، إلى أن يسلمنا السلعة”.
يقدم الميخالة خدمات تستفيد منها عدة أطراف عديدة، وتعيش عليها أسر وعائلات، تعيش تحت عتبة الفقر، يسترسل خالد: “نحن لا نبيع دائما للشركات، بل لأشخاص يسمون “الشناقة”، له سيارة خاصة وغالبا ما تكون من نوع “الهوندا” وأغلبهم “دكالة”، يشتري عندنا السلع البلاستيكية، ليعيد بالآلات التي يملكها طحنها. وقد يكون عنده مصنع صغير خاص به”. بقليل من التذمر يقول: “الشركة لا تقبل منا هذه الكمية من هذه الجودة، فالبلاستيك الذي نسميه “البيدوزا” كقنينات البلاستيك، الكرسي المكسر، علب تجميل.. نفضل ونأخذ منها البلاستيك الرطب على الخشن.
يتابع خالد، أنه إذا كان ” بلاستيك البانيو” صالحا إلى حد ما فنأخذه بأربع إلى خمس ريالات، وبدورنا نبعيها لهؤلاء “الشناقة” الذين يتواجدون بنواحي مدينة مراكش، فيطحن البلاستيك ويعزل الألوان، والشناق من له علاقة مباشرة بالشركة”، أما نحن يضيف: “في هذه الآونة الأخيرة يواجه الميخالة إقصاء وقمعا، من طرف السلطات، فيأخذون عرباتهم ويطحنونها لتتشرد دوابهم في الشوارع”.
في دول أوروبية مثل ألمانيا، تتنافس مصانع ومراكز فرز النفايات في عمليات التدوير، وبفضل سياسة الفرز التي تطبقها البلديات، تبدأ عملية الفرز من طرف المواطنين في المنازل، قبل أن تصل المواد القابلة للتدوير إلى الشركات والمصانع دون كثير عناء.
في المغرب، ليس أمرا محتوما أن تواصل هذه الفئة عملها بطريقة غير مهيكلة، ذلك أنه صار من اللازم إدماجهم في المشاريع الخاصة بإعادة تدوير النفايات وتثمينها، وهو الأمر الذي لامسه رئيس فرع المنارة مراكش، للجمعية المغربية لحقوق الإنسان عمر أربيب، مصرحا لـ لوسات أنفو؛ “بالنسبة لما يسمى بالميخالة، فأنا أسميهم بالإيكولوجيون الجدد، الذين هم نتيجة سوء تدبير الشركات الكبرى المكلفة بالتدبير المفوض على مستوى جمع النفايات الصلبة خاصة بمدينة مراكش، التي يُخصص لها حوالي 25مليار سنتيم سنويا لتدبير هذا الملف”.
ويشدد أربيب أن هذه الشركات في الحقيقة لا تقوم بعملها كما يجب، فإذا ألقينا نظرة عن دفتر التحملات يضيف؛ “نجده جد غني، متطور وطموح، ولكن العكس هو الحاصل، مجرد حبر على ورق”. ويسجل الناشط الحقوقي أن هناك؛ “غيابا لعمليات الفرز ولبرنامج وتصور لإعادة تدوير النفايات، انتشار نقط سوداء متعددة بالمدينة، غياب المعدات الحديثة “، مضيفا أنه: “لا وجود لمجهود استثماري يمكن أن يحافظ على المدينة والالتفات لهؤلاء الذين يشتغلون بهذه المهنة، لكن علينا ألا نغفل أن هؤلاء يشتغلون بنوع من الاحترافية، فهناك من يعزل كل مادة على حدة، إن هؤلاء الناس فرض عليهم هذا العمل غير المقنن وبطريقة غير قانونية، ومن الممكن استثمار هذه الطاقات، بإيجاد صيغ قانونية تدمجهم بسوق الشغل وخاصة عمليات الفرز بمشاريع تهم الجانب البيئي، بدل بقاء هذا العمل حيز السرية”.
نشاط اجتماعي واقتصادي ينتظر التفاتة
يسجل التقرير الوطني، للمندوبية السامية للتخطيط لسنة 2021، ضعفا وتراجعا في وثيرة المؤشـــرات الخاصـــة بتحقيق أهداف التنمية المســـتدامة. كما يلاحظ التقرير غيابا للمعطيات المحينة، لكن مجال تدبير النفايات، لازال يعاني الأمرين، فلم يتجاوز معدل إعادة تدوير النفايات المنزلية 10 في المائة سنة 2019، مقابل 6 في المائة في 2015، أما معدل هذه النفايات المنزلية فقد بلغ حوالي 63 في المائة سنة 2019، مقابل 11 في المائة بسنة 2008.
ارتفاع عدد الميخالة وتزايد الإقدام على هذا النشاط، وانتشاره في المدن الكبرى، آفة اجتماعية واقتصادية تعكس حجم الهوة السحيقة بين الفئات الاجتماعية، وتتعدد أوجه مقاربتها من زوايا مختلفة، فحاول الباحث يونس الحياني، مقاربة الظاهرة من وجهة سوسيولوجية لا تستبعد التفكير فيها من منطلق انتروبولوجي، فقال أن هذا النشاط يدخل ضمن خطوط نظريات كبرى، كالتفاعلية والرمزية، ودراستها لابد أن تستحضر بداياتها الأولى. وبما أنه يقول؛ ” نشاط مرفوض اجتماعيا، لكنه ينمو بشكل غير يومي، ويشكل الآن مصدر عيش العديد من الأسر المغربية، ومُدِرًّا للدخل في المجال غير المهيكل”. ويوضح الحياني أن غالبية الدول النامية تفتقر إلى الآليات العملية اللازمة للتصدي لمشاكل توليد النفايات وإدارتها”.
ولا تزال هذه التشريعات قاصرة لتغطية النواقص الحادة للبنى التحتية الضرورية لتدبير النفايات الخطرة، كما أن الموارد البشرية المدربة تفتقر للقدرة على التعامل مع جوانب المشكلة التي عادة ما تكون معقدة تقنيا، ولعل من بين ما يؤرق منظمة الصحة العالمية اليوم، مسألة تدوير وإدارة النفايات بأنواعها، والتخلص الآمن منها.