الموسيقى الشعبية الإسبانية
لوسات أنفو: إلياس أبوالرجاء
مقال من الأرشيف ورد في العدد 9 من مجلة إبداع في 1 شتنبر 1992 لكاتبه محمود السيد علي.
تعتبر الموسيقى من أقدم أدوات التعبير التي عرفها الإنسان ، وشغف بها ولجأ إليها ليعبر عما يجيش في نفسه من مشاعر، يعجز الكلام عن التعبير عنها ، وليس هناك شك في أن الموسيقى إبداع فردي. يلقى على أسماع الجماعة فتتقبله، ويعمر بينها، وينسب إليها، أو تلفظه فيندثر مع الزمان.
فالفرد يبدع والجماعة تتلقى وتتطور، قد لا يستطيع شعب ما كمجموعة أفراد أن يكون معماريا، أو رساما، أو نحاتا، ولكنه يستطيع أن يكون موسيقيا بالحذف والإضافة، والتطويع وهي عمليات لا يقاس مداها باللحظات أو السنوات، بل بأجيال متتابعة. ونحن لا نتحدث بطبيعة الحال عن الموسيقى الأكاديمية المنهجية، بل عن الموسيقى الشعبية التي ترتكز في استمرارها على تبني الشعب واستخدام الفنان الفرد لها في عمله ولا تعوزنا في هذا الإطار، براهين على أن الكثير من الفنانين قد درجوا منذ القدم، على الاستعانة بالموسيقى الشعبية جزئيا، أو كليا، في أعمالهم. والموسيقى الشعبية هي أكبر المظاهر الفنية أصالة في حياة أي شعب من الشعوب، بل ويرى فيها البعض مؤشرا دالا على القوى الخلاقة للأمة.
ويقال إن اسبانيا تحظى بأكبر إرث فولكلوري موسيقى في العالم. ويتسم الفولكلور الأسباني بسمتين أساسيتين هما: الثراء والتنوع. الثراء يمكن ملاحظته بإلقاء نظرة على الكم الهائل من دواوين الأغاني الأسبانية، أما التنوع فيمكن الحديث عن رحابة آفاق هذا التنوع المتباين، والمتمثل في تعدد الأساليب الذي يتفق وتعدد الأسس الحضارية والثقافية، واللغات واللهجات الموجودة في إسبانيا، ويرجع هذا التنوع الإيقاعي اللحني، من ناحية أخرى، إلى تعدد وتباين القوميات المشكلة لشبه جزيرة ايبيريا، والذي ترتب عليه كنتيجة منطقية تنوع الموسيقى الشعبية الأسبانية، بين طابع مقتضب تتميز به بلاد الباسك شمالا، إلى سلس سيال في الأندلس جنوبا، ومرهف عاطفي في كتالونيا في الشمال الشرقي، إلى صارم يتفق وتضاريس وطبيعة منطقة قشتالة. وهناك عامل آخر، على جانب كبير من الأهمية أسهم في شراء وتنوع الفولكلور الأسباني، ألا وهو تعدد التأثيرات السلالية التي تعرضت لها أسبانيا طوال تاريخها: السلتيون، والفينيقيون، واليونانيون، والرومان، والعرب.
وأسبانيا هي البلد الأوربي الذي يتمتع بأكبر عدد من الرقصات، حتى يمكن القول بأنه إذا كانت فرنسا هي مرضعة، الرقص، فإن أسبانيا هي الأم الحقيقية له. وربما كانت الأندلس هي القياس الحقيقي لاستشعار هذه التأثيرات المتعددة. هذا علما بأن الرقص الأندلسي هو الرقص التقليدي الوحيد الذي مازال يمارس في عالمنا المعاصر.
وقد درج المتخصصون على تقسيم الرقصات الشعبية الاسبانية إلى قسمين: التقليدي، والفلامنكو، وأشهر رقصات القسم الأول هي: “البوليرو”، و “سيبييانا” و “الخوتا”، أما القسم فأشهر رقصاته هي “الـتانجو” و “فارروكا”، و”جارروتين”.
الموسيقى الفولكلورية في منطقة الباسك: تقع منطقة الباسك في شمال أسبانيا، وتتميز بطبيعة جبلية ومساحات خضراء واسعة، بفضل كثرة الأمطار التي تسقط على المنطقة ويميل أهل الباسك، الذين يتحدثون لغة خاصة بهم، تختلف عن اللغة الاسبانية التي يتحدثونها إلى جانب لغتهم الخاصة، فهم يميلون بطبيعتهم إلى التجمع من أجل الغناء، وتتفق ألحانهم مع نصوص أغانيهم المليئة بالزخرف اللفظي، وهي أغان تعبر عن الحياة بمختلف وجوهها، وإن كان من الغريب أن هذه الأغاني، على كثرتها لا تتضمن أغنية واحدة عن البحر، بالرغم من أنهم أهل بحر. أما فيما عدا ذلك فتتناول أي ظاهرة من الظواهر الحياتية أيا كانت، حيث أن لغتهم تساعدهم على الارتجال الموزون المقفى وكل منهم شاعر بطريقة أو بأخرى.
ومن الملاحظ، إذا استثنينا الفروق اللغوية، أن الأغاني الباسكية تتسم بنفس المضمون العام لأغاني بقية الأقاليم الأسبانية، وإن كانت تفتقر إلى النوع الملحمي، وأغاني الجنود؛ ذلك أن الفرد الباسكي لم يكن عليه أن يؤدي الخدمة العسكرية حتى عام ١٨٧٦.
وتكثر بالمنطقة الأغاني الشعبية التي تتحدث عن الحب، وحول هذه الظاهرة يقول الأب مادينا: إنه من الغريب أن يكون الحب الذي يعتبر ملهما لأعظم الأعمال الشعرية في كل زمان ومكان، هو الموضوع العام الشائع، والغالب في الأغاني الشعبية الباسكية. ومن ناحية أخرى يرى البعض ان النص في الأغنية الشعبية الباسكية ليس إلا ذريعة للغناء وإنه ليس مقصودا لذاته لأن الهدف الأساسي هو ترديد اللحن.
ومن الخصائص المميزة لأغاني المهد في منطقة الباسك أنها تعد الطفل دائما بهدية إذا خلد للنوم، ويقول جارثيا لوركا في هذا الصدد: هناك أغاني مهد أوروبية يستسلم الطفل على نغماتها لنوم لذيذ. وتتمتع المانيا وفرنسا بهذا الطابع الأوربي الذي يتمتع به أيضا من بين شعوب اسبانيا شعب الباسك.
ومن التأثيرات البديهية في الموسيقى والغناء الشعبي، في منطقة الباسك، التأثير الفرنسي، نتيجة أن المنطقة تعتبر نقطة مرور كل الوافدين من فرنسا لزيارة ضريح القديس سانتياجو في إقليم جالينيا شمال غرب إسبانيا، وإن كان من المعروف أن تطويع شعب ما لفولكلور منقول يجعل من الصعب معرفة مصدره الأصلي.
وتتسم الألحان الباسكية بالقص، وتؤدي في غالب الأحيان دون مصاحبة مجموعات موسيقية وهي السمة المميزة لكل فولكلور حقيقي. ولا تلجأ الموسيقى الباسكية إلى تكرار مقطع بعينه، عکس ما يحدث في الألحان الموسيقية الشعبية بسائر الأقاليم الأسبانية، وقد رأى بعض الباحثين أن هذه الظاهرة إنما ترجع إلى أن أهل الباسك لا يميلون بطبيعتهم إلى التكرار في حياتهم العامة مما انعكس على موسيقاهم وأغانيهم وهو ما يؤكد أن الفولكلور ليس إلا انعكاسا لروح الشعب. أما التباين بين الفولكلور الباسكي، والفولكلور الأندلسي، فهو يرجع في المقام الأول إلى الطبيعة السائدة في كل من المنطقتين حيث تتسم منطقة الباسك بطبيعة جبلية وجو ضبابي مليء بالسحب حيث تتسم منطقة الاندلس بسماء صافية مفتوحة الآفاق.
منطقة اراجون وناباررا
ننتقل الآن إلى إقليم أسباني آخر وشكل آخر من أشكال الفولكلور الأسباني المتعددة …إلى إقليم اراجون الذي يقع أيضا في شمال البلاد. وأكثر أشكال الموسيقى الفولكلورية شهرة في منطقة اراجون هو الـ “خوتا”، التي امتدت، لما حظيت به من قبول، إلى كل الأقاليم الإسبانية الأخرى، وإن كانت قد نشبت جذورها في اراجون ، وتجرى في دماء أهلها الذين يجيدون جميعا تأديتها.
وال “خوتا”، رقصة وأغنية وهي ذات إيقاع ثلاثي حي ترقص عليه المجموعات في تشكيلات ثنائية على عزف مجموعة من الآلات وأهمها الجيتار والدف.
وعندما تؤدى كأغنية فقط، يتحول إيقاعها إلى إيقاع هادئ. أما الأغنية أو المقطوعة الغنائية، فهي رباعية دائرية، تتضمن سبع جمل موسيقية، وتقوم على أساس ترديد كل بيت من بيوت الرباعية مرتين، باستثناء البيت قبل الأخير. وتبدأ عادة بالبيت الثاني، ثم الأول، فالثاني مرة أخرى، فالثالث، فالرابع، ثم تنتهي بالأول.
ونغمات الــخوتا، إيقاعية بحتة، ومن مقام “مايور”. وتبدو في أزهى أشكالها عندما تؤدى غناء ورقصا معا. وهي في هذه الحالة لها أصولها المرعية في منطقة اراجون، وقد ذكرنا من قبل أن الـ خوتا، في شكلها الكامل تؤدى غناء ورقصا، وفي حين تتكرر الجمل الموسيقية، يقوم بتأدية المقطوعة الغنائية فرد واحد أو ثنائي غير مشارك في الرقص، إلى جانب المجموعة الموسيقية. وتبدأ الرقصة بأربعة إيقاعات قوية منتظمة، يليها اللحن الذي ترقص عليه التشكيلات الثنائية. التي تحدثنا عنها من قبل.
وبالرغم من جهود المتخصصين في البحث عن أصول الــ خوتا، إلا أن أصلها الحقيقي مازال غامضا، ويؤكد هذا أن الكتب التي كتبت حتى عام ١٦٧٤، حول الفولكلور، في منطقة، أراجون، لم تتضمن شيئا عنها.