بورتريه

   المهدي المنجرة؛ مثقف عضوي مملوء بمشاكل العالم وتناقضاته

     

كتب: ايمن سلام

« وما يذهلني في الأنترنيت هو ولع الشباب به. إنهم حملة التغيير الجذري بواسطة العلم والمعرفة، وعدد الرسائل الإلكترونية التي أتلقاها تساعدني على البقاء في موقع قريب من هذه التحولات. ويصبح بالنسبة إلي تحديا يوميا للتجديد والمواكبة. إن الإنترنيت والتكنولوجيات الجديدة تساعدك على كشف مدى جهلك. كلما أنهيت دورة من الأنترنيت أدرك مدى جهلي…»¹.

مدافع شرس عن مواقفه منذ البداية؛

ولد في الثالث عشر من مارس سنة 1933، في عاصمة المغرب الرباط، وعاش حياة باحث مُتبصّر يقظ، يبحث فيها عن “النظام العالمي”، وعن المشاكل القائمة في الدول النامية، والتفاوت والصراع القائمين بينها وبين الدول المتقدمة. يهتم بعدة مجالات كالإعلام والثقافة والسياسة، ومنشغل بإشكالات التنمية والتخلف، بالقيم الإنسانية، بالتواصل الثقافي، وبمسألة الاستعمار، بمختلف تجلياته. كانت عائلته ميسورة، حينها، لم يكن ما يدفع المرء إلى الشعور بالتفاوت أو الصراع الطبقي، إلا فيما يخص العدو، المستعمر الفرنسي. كان يبغضه ويؤمن بحرية واستقلال الشعب المغربي. اِنتسب في سن مبكرة إلى صفوف الحركة الوطنية، ودافع بشراسة عن موقفه الرافض للاستعمار.

وهذا الرفض وهذه الحدة في التعامل مع المستعمر، سببت للشاب المهدي المنجرة وعائلته عدة عراقيل ، ولأن الأب كان يتنقل  بين مدينتي الرباط والدار البيضاء، رحلوا إلى هذه الأخيرة. أدخله والده لاستكمال الدراسة الثانوية في ثانوية اليوطي بالبيضاء. وفي رواية لصديقه الباحث عبد القادر الحضري، خلال بورتريه قامت به قناة الجزيرة حول حياة المهدي المنجرة، يروي، أن خلال دراسته في ثانوية اليوطي، كان يشترط أن يثبت الطالب من خلال سلوكه أنه راض على الوجود الفرنسي في المغرب، وعناد المهدي في وجه الهىئة التعليمية جعله يتعرض لعشرات المشاكل، أكبرها الطرد والفصل. يصعب الثبات والدفاع على المبادئ، خاصة في بدايات خوض غمار تجربة الحياة. واستطاع المهدي أن يظل مدافعا عن مبادئه التي يؤمن بها، منذ ريعان شبابه. بل ورغم كل ذلك، ظل مستبصرا الاستعمار،  من حيث هو هيمنة خفية، تجاوزت الفكرة الكلاسيكية التي تفيد الاستعمار بقوة السلاح.

في الثقافة والإعلام يرى إمكانيات التنمية؛

إن أحد التناقضات الرئيسية التي كانت تشغل باله هي التنمية. كان يحلل عوامل تحقيقها في بعض الدول، وعوامل عجز دول أخرى من بلوغها، كالدول العربية والأفريقية، التي ظلت متخلفة رغم كل المحاولات. كان مقتنع بالأسباب التي تحول دون تنمية مجتمعات دول العالم الثالث. وإنه إذا ما أردنا الوصول إلى هذه الغاية، وهي التنمية، يدعو مهدي المنجرة في هذا السياق، إلى مسألتين اثنتين؛ الأولى تحرر الإعلام من هيمنة القوى الخارجية الكبرى. وكما لا يخفى على أحد، أننا في نظام إعلامي عالمي، يشتغل بمنطق “أحادي الإتجاه”، من الأعلى إلى الأسفل، أو من المركز إلى الأطراف، وليس بمنطق “التبادل والتفاعل”، أي التلقي والتلقي المضاد بين الشعوب والثقافات. لطالما استحودت القوى الكبرى المهيمنة، على إنتاج وتوزيع المعلومات والمعارف، وكانت المصدر الرئيسي والموزع الأول لها على مستوى العالم، من خلال وكالات الأنباء. ليس الوكالات وفقط، بل حتى الجرائد الصحفية. إذ يكتب المنجرة « إن التخلف ذو علاقة تناسبية مع التبعية للخارج في الحصول على المعلومات أو معالجتها. وتبدأ التنمية عندما يتوفر المرء على معلومات أوسع؛ وما التنمية الا معلومات صارت معرفة»². والمسألة الثانية بالإظافة إلى تحرر الإعلام، يدعوا إلى تحرر الثقافة أو تحرر الثقافات، من هيمنة الثقاقة الواحدة. وهذا البعد الثقافي في العلاقات الدولية كان واحدا من انشغالاته الثابتة، سواء على المستوى الأكاديمي أو الإداري، كما أشار في نص مداخلته بمحاضرة ضمن أعمال ملتقى أشرفت عليه جمعية الدراسات السياسية بالمملكة المتحدة في 03 يونيو 1999، وقال فيها أن« التحدي الكبير الذي يجب مواجهته، هو معرفة كيف يمكن تفعيل تواصل ثقافي يحفظ ويوطد التنوع الثقافي وينمي القدرة على الاستماع للآخرين»³. وكأنه يناشد كل ثقافة أن تعترف باختلافها، وبما هي عليه، وأن لا تفرض وجودها على واحدة أخرى بغرض نفيها أو سلبها من مضامينها وحمولاتها. ويقول؛ إن الثقافة تعريف ومعطى ديناميكي، وكل ثقافة لا تتعامل على نحو فاعل وواع مع التغيير، سيكون مآلها الانقراض. فأفضل طريقة لحماية الهوية الثقافية، التي تمثل الجزء الأقل مناعة في بناء جل بلدان العالم الثالث، هي جعل الثقافة أحد المحركات الأساسية في عملية التنمية، وتشجيع استخدام ذاتي، وخلاق للتكنولوجيا الاعلامية الجديدة⁴. وهذا الربط بين الإعلام والثقافة، قصد تنمية المجتمع، لم يأتيه من فراغ. هو رجل خاض تجارب عملية مهمة في كل من المجالين، ونذكر أن أول منصب شغله وهو يكاد يبلغ 25 سنة؛ عُين على رأس الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، وشغل مناصب متعددة  في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة. ولا يجب أن ننسى، أن المنجرة يؤكد على ضرورة تحرر كل من الثقافة والاعلام، لكي يؤديان مهامهما وأدوارهما في التنمية.

في السياسة يجد حلول الانعتاق؛

تم طرده من ثانوية اليوطي، وقام والده بإرساله إلى الولايات المتحدة الأمريكية، قصد إكمال دراسته. لحسن الحظ أم لسوئه، ورغم كل الاحتمالات، كان القرار موفقا، بحيث هناك في تلك الفترة التكوين الجيد، الذي يتجاوز الاختلافات على مستوى المواقف والآراء، وأرضية خصبة للتعلم والاستفادة أكثر. حصل على الإجازة في تخصص علمي، البيولوجيا. وتابع دراسته في العلوم الاجتماعية والسياسية، وحصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية.

 كان يكره العنف، وكل ما له علاقة به، ومن الطبيعي أن يكره المرء “العنف” حين يخرج للوجود في سنوات الاستعمار الأكثر شدة، ثلاث سنوات بعد تأسيس الحركة الوطنية المغربية، وحين يتعرض للمشاكل بسبب رأي أو موقف. وهذا العنف، ناضل المنجرة من أجل طرده طوال حياته، كي يعود السلام لأرضه وشعبها. فالسلطة التي لا شرعية لها تعتبر عنفا. جعلته هذه العقدة من العنف، يلامس أشكال وأنواع وتلاوين الاستعمار، والعنف والاضطهاد والقهر والاستيلاب الحاصل على مستوى العالم ككل، لا في المغرب فقط، الشيء الذي جعل منه مثقفا عضويا، مملوءا بمشاكل العالم وتناقضاته.

وفي جوابه عن سؤال ” أي مستقبل ينتظر العرب ؟” والذي طرحته محاورته الدكتورة “هند عروب”، يقول عالم المستقبليات، المنذر بآلام الشعوب كما وصفته قناة الجزيرة؛ « كي نملك المستقبل، يجب ألا يكون مرهوناً، والمستقبل العربي رهينة لدى البنك الدولي والولايات المتحدة الأميركية، ومجلس الأمن. إن مستقبلنا أسير ومحاصر يكرِّس وضعه غياب الديمقراطية والنزاهة والشورى.. وهو وضع لم يعد مجدياً إصلاحه أو معالجته بواسطة المضادات الحيوية، إذ الجسد العربي ينزف بشدة وكلما تأخرنا سندفع ثمناً باهظاً وسنضطر إلى عملية جراحية عصيبة، لكن التغيير آتٍ..»⁵. لقد فطن مبكرا بخبايا النظام العالمي الجديد، وأوضح في محاضراته وكتبه وحواراته ما من مرة واحدة هواجس هذا النظام، ونتائج الركوع له، وعدم التحرر من إملاءاته. وربما من يعيش معنا اليوم، يدرك بوعي أو بدون وعي كم أن الثمن باهضا وكم نزف الجسد بشدة.

 وكما اعتاد منذ البداية؛ التخلي عن أي شيء يتعارض ومواقفه، انسحب المهدي المنجرة من مناصبه بنظام الأمم المتحدة سنة 1976، بعد أن شغل منصب مدير مكتب اليونسيكو في عام 1962، وبعدها مستشارا خاصا له. سمح في راتبه وتسعين في المئة من مستحقاته، كما جاء على لسانه في محاضرة له بمدينة مكناس سنة 1993 مسجلة على اليوتيوب. هو ليس انسحاب وفقط، بل انطلاقة ضد هذه المنظمة، وكان مُشاهد من الداخل، مُنتقد بعلم، وبمعرفة، وبمقربة من الواقع الخفي. وسبب مغادرته لها أن تبيّن له أن هذه المؤسسة الدولية تظل بعيدة عن أهدافها الإنسانية النبيلة، المتمثلة في الحفاظ على الأمن والسلم، وخدمتها للدول الغربية واستراتيجياتها الإستعمارية، كما قال في نفس المحاضرة. ويظيف أيضا؛ « مشكلتنا في العالم الثالث أن ماضينا ليس بين أيدينا، كتبه الآخرون، الغرب كاتبه، وحين نقرأ عليه ننظر إليه بأعين الآخرين، اذن يجب علينا أولا استدراك ماضينا، أما حاضرنا لن نتكلم فيه، إذ نحن مستعمرين في الحاضر أكثر مما كنا عليه سابقا».

مؤلفات اخترقت الزمان والمكان، الشمال والجنوب؛

ألّف مهدي المنجرة مجموعة من الكتب، وتضمنت مجموعة من الدراسات، والحوارات والمداخلات التي تعالج مواضيع كبرى. وشملت كتاباته مجموعة من العلوم، كالاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع، وكذلك مجموعة من القضايا الإنسانية، كالتنمية والتخلف والاستعمار.

قبل خروجه من منظمة الأمم المتحدة، حينها كان يشغل مناصب مهمة داخل هذه المؤسسة الدولية، وأستاذا محاضرا وباحثا في الدراسات الدولية؛ ألف كتابا تحليليا بعنوان “نظام الأمم المتحدة” تحديدا في سنة 1973. وفي سنة 1981 انتخب كرئيس للاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية، وصدر له في نفس السنة كتاب “من المهد إلى اللحد”. وبعد أن حصل على جائزة السلام لسنة 1990 _من معهد ألبرت آينشتاين الدولي_ بسنة واحد، خرج كتابه للوجود عن حرب الخليج وتطرق إليها ولتابعاتها من زوايا مختلفة، وكان الكتاب بعنوان “الحرب الحضارية الأولى”. كما صدر له سنة 1996 كتاب القدس العربي_رمز وذاكرة وكتاب حوار التواصل. ثم صدر له كتاب “الاهانة في عهد الميغا إمبريالية” سنة 2004، وكتاب “قيمة القيم” سنة 2007، وفي بداية الالفينات قام بسلسلة حوارات أجرتها معه الدكتورة “هند عروب”سنة 2000، نُشرت بعنوان “زمن الذلقراطية ” سنة 2017.

¹قيمة القيم-المهدي المنجرة، حوار الأنترنت، ص؛ 104.

² كتاب حوار التواصل-مهدي المنجرة، فصل الإعلام والتنمية، ص؛ 30.

³كتاب عولمة العولمة-مهدي المنجرة، الفصل الأول تحرير العولمة، ترجمة ادريس كثير وعز الدين الخطابي.

⁴كتاب حوار التواصل- مهدي المنجرة، فصل مجتمع المعلومات، ص؛ 59.

⁵كتاب زمن الذلقراطية-مهدي المنجرة، فصل أي تصور مستقبلي ينتظر العرب؟، ص؛ 146.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى