المفكر عبد الصمد الكباص في محاضرة في مؤتمر الفكر العربي بتونس : التفلسف لا يأتي من قرار عام
لوسات أنفو
ألقى المفكر المغربي الدكتور عبد الصمد نهاية الأسبوع المنصرم، محاضرة في فعاليات مؤتمر الفكر العربي الذي نظمته بالعاصمة تونس مؤسسة الفكر العربي بشراكة مع معهد تونس للفلسفة وبالتعاون مع كرسيّ الإيسيسكو للتفكير في العيش المشترك، تحت شعار ” نحو تفكر عربي” . و هي التظاهرة الفكرية التي جمعت عددا من المفكرين و الباحثين في الفلسفة من أقطار عربية مختلفة.
وحملت محاضرة المفكر عبد الصمد الكباص عنوان ” من الفلسفة إلى التفلسف، على سبيل الإجابة عن سؤال متى تتحول الفلسفة العربية إلى أنساق فلسفية حقة؟” و هو السؤال الذي طرحته عليه المؤسسة لكي يفكر فيه، و يقدم حصيلة هذا التفكير أمام المشاركين.
و انطلق المفكر المغربي عبد الصمد الكباص من هذا السؤال :هل نستكشف في الفلسفة، تجربة يصير فيها الفكر ممارسة للانهائي؟ مؤكدا أن الأمر هنا لا يتعلق بعملية تاريخية يتوج مسارها بتحصيل الذات لنفسها كمفهوم. و إنما يهم الاقتدارات التي تجعل الفلسفة فلسفة. فسؤالها العام، يصبح هو شرطها الخاص الذي تتحقق في ظله.و شرط الفلسفة في أن تتحول إلى علم هو أن تظل فلسفة و ليس علما. و أوضح أن هذه التجربة التي تتولد من خلال صراعها مع أسئلة حياتنا، تحدث على قاعدة خيبة تأسيسية تتعلق بكون الذات التي تفترض نفسها أساسا أول لانتزاع نسق التمثيل من العالم، ليست في جوهرها سوى جزء صغير من نسق التمثيل نفسه.إنها لا تفلت من تشكيلة المزاعم التي تعمل على تفكيكها، و إرساء أخرى بدلها. بمعنى آخر فمجهود الفكر كتجربة للمفهوم، يظل عمله الأساسي اشتغال في الخسارة. إنه استثمار في جلب الوجود إلى المفهوم عبر ترميم آثار الفقدان الجذري للمدلول في سياق ما يقال عن الوجود، وترسيمه كحد لما يمكن للذات أن تؤول به نفسها. وفق ما قاله الكباص.
و تساءل المفكر المغربي عبد الصمد الكباص: ما الجدوى من إضافة نص إلى نص، و تلفيق الاقباسات المقتطعة من المكتبة، من دون سؤال فلسفي حي يتنفس في جسد من يفكر انطلاقا من اختبار حالة من أحوال الكينونة خلقت لديه ضائقة وجودية؟ و أضاف إن المشكل الأساسي فيما ينسب إلى الفلسفة عربيا هو كونها مأخوذة بشهوة النص أكثر منها قلق الوجود، بل إن الغاية منها لا تعدو أن تكون استعراضية فجة، مرتبطة بالمزايدة بالمعرفة و عدد الكتب التي قرئت، المرتبطة بعقد التعالم السائدة في الأوساط الأكاديمية و الثقافية العربية. و استغرق الكباص في تحليله لهذه الوضعية، مبينا أنها تفاقمت لتفرز حصيلة هزيلة من الناحية الفكرية، لأن عددا كبيرا من أصحاب التأليفات العربية جعلوا موضوع الفلسفة هي النصوص، في حين أن موضوعوها الأساس هو الواقعة الوجودية التي تتحقق من خلال من يتفلسف. و اعتبر أن النتيجة المباشرة، إذا سمحنا لهذا الوضع بالتفاقم، هو الحصول على فلسفة من دون قضية فلسفية. وهو ما يشيع كثيرا في الفضاء الفكري العربي.
وسدد الكباض سهام نقده لنزعة الاستاذية التي أفقرت الأداء الفلسفي العربي، لأنها اختزلت المهمة الفلسفية، إلى مسوى تقديم الدروس للآخرين، و تصحيح الأخظاء في فهم النصوص، و المزايدة بالعناوين. وقال الكباص في هذا الصدد” إن النص مجرد وسيلة، و كلما وجدنا تضخما نظريا حول الأداة، علينا أن نتأكد أننا أفلتنا المهمة الرئيسبة”، و اضاف ليس للفيلسوف دروسا يقدمها لأي كان، بل ليست له معرفة جاهزة، و لا يمكن التحصن فقط في تلخيص النصوص السابقة، لأن الهدف ليس هو النص و إنما الحياة التي نحيا.
و قال الكابص أيضا ” هنا لا نتحدث عن الفلسفة بشكل عام ، وإنما عن الفلسفة العربية، أي عن تجربة نفترض أنها خاصة في مواجهة الذات للمفهوم، و عن نمط خاص للخسارة يشكل شرطها. فما تنفتح بموجبه في هذه المواجهة، هو بالضبط التوتر بين ثقل التاريخ و إرث اللغة الذي يشكلها، و بين فعالية السؤال الفلسفي التي تستهدف المزاعم المنسوجة سلفا في اللغة و التاريخ حول هذه الذات، و التي تتحول بموجبها إلى ممارسة يومية لنسق هذه المزاعم التي تأخذ شكل قيود أنثروبولوجية. و في ضوء ذلك فإن تمرين الذات على قبول خساراتها، الخاصة، تلك التي تتعلق بسياسة علاقتها بما تزعمه تاريخا تتشكل فيه و لغة تؤول نفسها في قلبها، يمثل إنجازا تاريخيا خصبا، مثلما أن رفض قبول الخسارة هو بمثابة فشل دريع وعوز أنطولوجي مربك، لأنه يتحول إلى استعصاء تأسيسي على بلوغ ذروة اقتدارات المفهوم واختراقات السؤال.”
و أشار إلى أن ما يُستكْمَلُ في المفهوم هو دائما حدث مضاف، لأن المفهوم ليس ملجأ للتاريخ، إنه تشغيل لتاريخ مضاد انطلاقا من فجوة الحدث الذي يتقاطع معه. و من حيث هو كذلك، فهو تأجيج لتعددية تبتكر إمكانياتها. ولذلك فمن حيث أنه يجلب معه تعبيرا استثنائيا عن العالم، فهو يحمل طابع تصدي ما، نوع من التوتر الذي يحفر فجوة في عمق الذات و في صيغة وجودها، وطريقة ارتباطها بتاريخها، و بإدراكها لما تتصوره عالما لها و موقعها فيه. إن عدم تحمل المفهوم الفلسفي، هو في جوهره عدم احتمال هذه الفجوة التي يرسخها، إنه بطريقة ما حماية، تُمارَسُ من الذات، للنقطة الهشة لتماسكها، وإضفاء مزيد من المناعة عليها.
و أكد عبد الصمد الكباص أن التفلسف لا يأتي من قرار عام، و إنما من تموقع شخصي في الوجود. مبينا أن ما يجعل الفلسفة ممكنة في السياق العربي، ليس طريقة في الارتباط بالتاريخ التراكمي للأفكار، ولا بتنفيذ تقنيات التفكير الإنساني المنسوب لتاريخ الفلسفة، وتقليب مرجعياتها، و استدراج مفاهيمها إلى الحاضنة اللغوية العربية. إنه يهم مستوى أعمق يتعلق بشقين، أولهما يهم الذات و الثاني يتعلق بطريقة تدبر العالم مفهوميا. لأن بناء نسق الفلسفة كفعالية للسؤال المنتج، يتم من خلال هذين العنصرين، بما يحقق شرط التجاوز من مستوى المعرفة إلى مستوى الفكر.
بالنسبة للذاتـ يقول الكباص ـ ما يفرض هما فلسفيا لا يشكل حصيلة إجماع، ولا يقتضي ضيقا عاما، وإنما استعجالا لكثافة ما تخترق الوجود، فيخلق حقلا يستدعي الفكر من حيث هو تعبير عن اللانهائي الذي نشارك فيه. كلما احتملنا الذات باعتبارها ترتيبا لإجماع ترسخ تاريخيا، كلما قَلّت حظوظنا في التفلسف. وبقدرما نقبلها باعتبارها تعبئة للخلل، لارتباك دائم منظم انطلاقا من طارئ ما، زادت قدرتها على الانخراط في الحقل الذي تفتحه الكثافات المستعجلة التي تخترق الوجود، لتصير قادرة على ابتكار سؤالها الخاص، و تفعيل الهم الفلسفي المترتب عنه.
وبالنسبة للعالم و تدبره مفهوميا، يستلزم ذلك تحويرا ضئيلا. فالعالم ليس جملة ما يقابلنا، وإنما حصيلة تموقعنا فيه. وبدون هذا التحوير في مفهوم العالم، تتعرض مهمة الفلسفة إلى تحريف يجعلها منسوخة في مهام العلوم الطبيعية، أي وصف ما يوجد أصلا و التنبؤ بوقوع ما يماثله، و ذلك من موقع المعرفة المتحصلة من شرط المسافة المُسْتوطَنة بفكرة الموضوع، في حين أن التفلسف هو تفعيل لشرط اللامسافة المنتجة لتجربة العالم بما هي التحام بصيروراته، و تكوننا كتفعيل لهذه الصيرورات. يعني ذلك أن العالم في لحظة التفلسف هو امتداد لوجودنا المقلق، وفي نفس الوقت نحن لسنا سوى تشغيل لتوتر الكثافات التي تنبثق فيه و التي توقظ فينا رغبة المفهوم.
و ختم قائلا إن الأهم ليس هو الفلسفة، و إنما التفلسف الذي يدل على ترسيخ للانخراط في دروب الكوني.