مذكرات

حلقات من تاريخ نقابة مفتشي التعليم(9)

الحلقة التاسعة : المغامرة الحكيمة : حين تحدى المفتشون المستحيل و صنعوا الشرعية من الصفر

يكتبها عبد الرزاق بن شريج (عضو مؤسس لنقابة مفتشي التعليم وعضو مكتبها الوطني لمدة 20 سنة)

تقديم

لم أنشر أي مقال هذا الأسبوع لتزامنه مع اجتماع المجلس الجهوي لنقابة مفتشي التعليم بجهة الدار البيضاء – سطات، وهي محطة استحضرت فيها المكتب الجهوي الحكمة والنَّفَس الجماعي لمناقشة قضايا آنية ومستقبلية، في ظرفٍ لم يعد يسمح بمناقشة القضايا الخلافية البسيطة، إذ تقترب لحظة الانتخابات الحاسمة للّجن الإدارية المتساوية الأعضاء، التي قد تكون {فجرًا جديدًا للنقابة أو بداية أفولها}.
ومن المفارقات الجميلة أن النقطة نفسها التي ناقشها المجلس الجهوي يوم 5 أكتوبر 2025، هي ذاتها التي وصلَتْ إليها هذه السلسلة التاريخية في سردها لمسار النقابة.

ولربط الحلقات ببعضها، نذكّر بأن المكتب الوطني قاد سابقًا معركة الطعن في المرسوم 2.02.854، فحصل على حكمٍ منصف وتعديلات جوهرية في المرسوم 2.02.78 بتاريخ 4 ماي 2004، عزّزت مكانة جهاز التفتيش.
غير أن المكتب الوطني لم ينعم بالهدوء الذي يلي عادةً كل معركة، إذ استمر في العمل دون توقف… وكانت الساحة تستعد لامتحانٍ أعقد: انتخابات اللجان الإدارية المتساوية الأعضاء.

الاجتماع الحاسم للجنة الإدارية

كما سبقت الإشارة إليه بعد المؤتمر التأسيسي يومي 4 و5 أبريل 2003، شرع المكتب الوطني في التحضير للدعوى القضائية، ولانتخابات اللجن الإدارية المتساوية الأعضاء، ولتأسيس الفروع الجهوية والإقليمية، …
وفي يومي 21 و22 يونيو 2003 انعقد أول اجتماعٍ للجنة الإدارية، وامتد على يومين كاملين بسبب كثافة الملفات.
كان الجو حاميًا والنقاش صريحًا، فالرهان كبير والمستقبل على المحك.

وقد استأثرت مسألة الانتخابات بالنقاش الأكبر، فانقسمت اللجنة الإدارية إلى ثلاث معسكرات متباينة الرؤى.
ورغم حِدّة النقاش وقوته، لم يضجر لا الكاتب العام ولا أعضاء المكتب ولا أيّ من المعسكرات.
كان النقاش راقيًا، والوعي النقابي عاليًا، إذ أدرك الجميع أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للغيرة النقابية قضية، وأن النقابة بيت للجميع، وفضاء لتلاقح الأفكار لا لتصادمها.
تجلّت في تلك الجلسة ميزة القادة الوطنيين الناضجين، العارفين بأبجديات العمل النقابي والسياسي.

المعسكرات الثلاثة

انقسمت القاعة إلى ثلاث رؤى واضحة:
1) معسكر المغامرة: دعا إلى خوض الانتخابات فورًا، رغم غياب البنية التنظيمية الكاملة والموارد المالية، في مواجهة مركزيات نقابية راسخة منذ سنة 1955؛
2) معسكر التحالف المرحلي: اقترح التحالف مؤقتًا مع إحدى النقابات القائمة، لترشيح المفتشين باسمها، في أفق بناء تجربة مستقلة سنة 2009؛
3) معسكر الرفض: رفض أي تحالف مع نقابات لم تُعر جهاز التفتيش اهتمامًا، بل اعتبرته أحيانًا جزءًا من الإدارة لا من الجسم التعليمي.

وبعد نقاشٍ محتدم ومحاججةٍ طويلة، حُسم الخلاف بالأغلبية المطلقة لصالح خوض التجربة مستقلة، والقبول بنتيجتها كيفما كانت.
وانطلق الجميع في العمل بروحٍ موحدة، دون أدنى أزمةٍ نفسية أو ضيقٍ في الأفق؛ فالنقابة فوق الجميع، ولكل الأعضاء الحق في النقاش والنقد والمشاركة.

مكائد وعراقيل مقصودة

ما إن بدأت لجان العمل مهامها حتى واجهت النقابة موجة من العراقيل المقصودة، تمثلت في:
محاولات تشويه صورة القيادة الوطنية من بعض الإداريين.
بياناتٍ صادرة عن مركزياتٍ نقابية تتهم النقابة بـ”تشتيت الجسم التعليمي” و”زرع فيروس الفئوية”.
لكن المكتب الوطني ظل متماسكًا، واعيًا بأن الطريق نحو الشرعية النقابية لا يُعبَّد بالورود.

يوم المفاجأة الصاعقة

اختارت اللجنة المكلفة بالانتخابات أن يتوجّه إلى الوزارة في اليوم الأخير ثلاثة من أعضائها:
محمد الرباحي ويوسف بعسو من فاس، ولحسن باكن من الرباط.
كان الحذر سيد الموقف خوفًا من أي عراقيل في اللحظات الأخيرة.

عند الساعة الثالثة بعد الزوال، دخل الثلاثة مقر الوزارة بباب الرواح لتسليم ملف الاعتماد النقابي.
كانت الملفات تُفحص من طرف موظفي مديرية المنازعات والشؤون القانونية، غير أن ملف نقابة مفتشي التعليم تولى فحصه عبد السلام زروال، مدير مديرية الشؤون القانونية، بدقةٍ شديدة، ورقةً ورقةً، وكلمةً كلمةً، قبل أن يستدعي الكاتب العام محمد الرباحي حوالي الثالثة والنصف.
ابتسم المدير وقال بجملته الباردة:
“الملف مرفوض… وصل التأسيس يفتقد التوقيع الكامل للباشا، إذ يحمل فقط توقيعه المغلق وخاتمه.”
خرج الرباحي مذهولًا، كمن سُحب منه الهواء:
هل ضاعت الفرصة بعد كل هذا الجهد؟

سباق الإنقاذ… حنكة العلاقات الواسعة

في لحظة توترٍ قصوى، أخرج الرباحي هاتفه الصغير (ألكاتيل) واتصل فورًا بالباشوية وبالزميل المرحوم علي رحو.
تحرك الأخير بسرعة إلى الباشوية، أضاف الباشا توقيعه بخط يده، ثم استقل سيارة أجرة نحو الرباط.

وفي الساعة السادسة إلا ربع مساءً، وصل الملف مكتمل الأركان إلى مقر الوزارة، تم استقباله وتسجيل النقابة رسميًا ضمن النقابات المشاركة في الانتخابات، ومنحتها الوزارة الشعار واللون في سجل المشاركة الانتخابية.
كانت لحظة انتصار صغيرة بطعم النجاة من فوهة الخطر.

طرفة لتخفيف التوتر

يروي الزميل يوسف بعسو (عضو مؤسس) أنه أثناء الانتظار داخل الوزارة، حاول الزميل لحسن باكن كسر التوتر مازحًا:
“سي الرباحي، لا تقلق… إيداع ملفات الانتخابات مثل إيداع ملف في بنك، نحن داخل مقر الوزارة، ولن نغادره حتى يُقبل ملفنا!”
ضحك الجميع، وتحولت لحظة القلق إلى طاقة تفاؤل…
وكان ذلك عنوان المرحلة كلها: عناد الأمل في وجه الصعاب.

نتيجة المغامرة الحكيمة

تحركت قوة المفتشات والمفتشين في كل ربوع الوطن، كلٌّ من موقعه، معتمدين على إمكاناتهم الذاتية ومواردهم المالية الخاصة، مؤمنين بأن الدفاع عن الإطار واجب لا ينتظر دعماً من أحد.
لم يفكر أحد في مصلحة شخصية ضيقة، ولا في خلافٍ سابق أو لاحق؛ كانت البوصلة واحدة، والغاية أوضح من أن تُخطئها العين: ربح الانتخابات، لأن خسارتها كانت تعني، قانونيًا، حرمان النقابة من حق التفاوض مع الوزارة.
لكن “يد الله مع الجماعة”، و”صدق النية يفتح أبواب التوفيق”.
«وإن يعلمِ الله في قلوبكم خيرًا يؤتِكم خيرًا»
وهكذا جاءت النتائج مشرفة بكل المقاييس، ثمرةَ جهدٍ وصبرٍ وتمويلٍ ذاتيٍّ من المفتشات والمفتشين الشرفاء، إذ حصدت النقابة 38 مقعدًا بنسبة 7.60%، متقدمةً بذلك على مركزيةٍ نقابيةٍ عريقة لم تحصل سوى على 13 مقعدًا.
ورغم هذا الإنجاز الباهر، لم يتوقف التضييق والتحايل، إذ أقدمت الوزارة على تقديم النتائج بترتيبٍ مزيف وضع تلك المركزية قبل نقابة مفتشي التعليم.
غير أن الحقيقة كانت قد ظهرت، وسُطرت في الميدان: نقابة فتية واجهت الكبار بإرادة وصلابة وشرعية الميدان.

خاتمة تمهيدية

غير أن ذلك الانتصار، رغم بريقه، لم يكن سوى محطة في مسارٍ طويل، ومعركةٍ من سلسلة معارك أشدّ وأعقد.
فما بعد الفوز لا يقلّ صعوبة عمّا قبله، إذ سرعان ما بدأت محاولات الالتفاف والتأويل والتضييق… وكأنّ الاعتراف بنقابة المفتشين كان امتحانًا آخر في مدرسة النضال.
لكن التاريخ لا يكتبه المنتصرون وحدهم، بل يكتبه أيضًا من صمدوا ليحافظوا على معنى الانتصار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى