مبدعون في الحياة

المطبخ السري للكتابة 2… عادات الجسد و الورق

فيرلوسيو الذي يمد حبلا أمامه يعلق عليه كل صفحة يكتبها

لوسات أنفو

تظل الكتابة فعلا ملتبسا، إنها شيء لا يصدق. فأن ينخرط كائن مبددا كل ما لديه من طاقة في اقتصاد الكلمات، عازلا نفسه عن الحياة لكي يحصد مزيدا من الجمل متعقبا آثار الصمت، فذلك ليس له من معنى سوى أنه يضارب في المستحيل. يبدو ذلك على الأقل من وجهة نظر من لا يكتبون. لكن بالنسبة للكتاب أنفسهم، فالأمر مختلف.

سكوت فتزجيرالد
سكوت فيتزجيرالد

يرى الكتب خيسوس غريوس في كتابه ” التنقيب بين السحب” أن الكتابة  تندرج  لديهم ضمن نوع من التحليل الذاتي . مثلا ،  كابوتي كان يقول : الكلمات أنقذتني دائما من الحزن ” .  اما غراهام غرين فكان يقول ” الكتابة ضرب من العلاج ” ، و هذا صحيح . أما الكاتب الإنجليزي  ” روبير غرايفس” صاحب رواية ” أنا كلايديوس ” التي تحولت إلى سلسلة تلفزيونية شهيرة ، فكان يقول ” عندما أكتب أتعذب كثيرا ” . و بالنسبة للحاصل على جائزة نوبل يوسا فارغاس ، فكان يقول ” إن الإحساس بأنك سعيد ، ليس منتجا على المستوى الأدبي ” ، و هذا معناه أن الألم قد يكون طاقة مولدة للكتابة .

يقول خيسوس” ذات مرة سألتني صديقة  ” لماذا ، تكتب قصصا معقدة ؟ ” أجبتها ” إذا كتبت قصصا كل شيء فيها جميل فلن يكون لها أي معنى ، و قد يفقد ذلك معنى الجمال ذاته ”  الحياة الجميلة نعيشها و لا نكتبها ، تستدعينا الكتابة لأن هناك خلل ما .”

غراهام غرين

مع هيمنة الكتابة على الحاسوب ستفقد الإنسانية رصيدا حضاريا مهما، كان منشطا لإدراك أسرار تطور عمل ما. إنه المخطوط، الذي كان يوفر للباحثين مادة ملهمة حول تاريخ عمل أدبي معين، فالخربشات، و الإضافات بين السطور،والتشطيبات، و التصويبات، و لطخات المداد، كانت مفتاحا كبيرا لإدراك الجنيالوجيا السرية للعمل الأدبي، و هوما يفتقد مع الكتابة على الشاشة، حيث يخرج العمل نقيا، لا يحمل عثرات تاريخه، مثلما لا يحمل أي بصمة شخصية لجسد كاتبه، كما كان عليه الحال بالنسبة للكتابة على الورق، حيث ارتعاشات الخط تشير إلى اليد التي تكتب، إلى الجسد الذي يغلي، و إلى الدماغ الذي يفكر و المزاج الذي يدبر. فما هي تفضيلات الكُتاب بخصوص وسيلة عملهم: الورق، المداد، الآلة الكاتبة، الحاسوب؟

 يجيب خيسوس غريوس ” هناك فرق أن يكتب الكاتب بالقلم أو الريشة، أو على الآلة الكاتبة أو الحاسوب. أنا عرفت شخصيا الكاتب الإسباني ” أنطونيو غالا ”  و هو كاتب كبير على مستوى عال من الثقافة ، يكره الورق الأبيض ، لذلك فهو يستعمل دائما ورقا سبق استخدامه ، و كان يقول إن مواجهة الصفحة البيضاء أمر لا يحتمل . و لذلك كان لهمنغواي فكرة ذكية ، فهو لا ينهي أبدا ما بدأه اليوم و يترك جزءا منه إلى الغد ، لكي لا يجد نفسه أمام قدر الانطلاق من الصفر ، بصفحة فارغة .”

بخصوص ارتباط فعل الكتابة بعادات الجسد، يكشف خيسوس غريوس غرائب مثيرة . فإرنست همنغواي عندما كان  في كوبا كان يكتب واقفا على قدميه . نفس الشيء كان يقوم به فيرلوسيو ، الذي يمد حبلا أمامه يعلق عليه كل صفحة يكتبها ، و بهذه الطريقة يتمكن من أخذ نظرة عامة على كل ما كتب دفعة واحدة .

يشير صاحب كتاب ” التنقيب بين السحب”  إلى استثناء يمثله  غارسيا ماركيز ، على مستوى صنع الروايات . يوضح ذلك قائلا ” نحن نعرف العمل التقليدي لكل روائي محترف ، و هو نظام الصيغ المتوالية لذات العمل ، حيث يوضع الهيكل أولا ، ثم نعود إلى البداية و نشرع في إغناء المعجم ، و تطوير الحوارات ، و تعديل المشاهد و غيرها  إلى  أن نصل إلى الصيغة التي نعتبرها مكتملة . و في حالات كثيرة يترك العمل لمدة تزيد عن ستة أشهر و نعود إليه ، و نشرع في إغنائه و تطويره . هذا يحدث مع كل الكتاب ، إلا غارسيا ماركيز ، الذي وصل في لحظة من حياته ، أعتقد وسط الأربعينات من عمره ، إلى  مستوى أصبحت فيه كل صفحة يكتبها مكتملة  و لا تحتاج إلى إعادة صياغة . حيث كان يقول :” أية صفحة أكتبها من رواية تصبح جاهزة للنشر ، و بإمكاني إرسالها مباشرة إلى المطبعة .” و في الحقيقة أنا لا أفهم ذلك . لأنه أثناء الكتابة تأتي أفكار جديدة تدعو إلى مراجعة ما كتبته سابقا في ضوء هذه الأفكار الجديدة . غارسيا ماركيز ، استثناء في هذا الباب ، فهو يعرف ما سيكتبه ، لأنه فكر فيه طويلا ، و يخرج مكتملا على الصفحة ، و ليس هناك مجال لتعديله.”

يتبع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى