وطني

المحور الثالث: تكوينات الريادة… أرقام لامعة وأثر غائب

عبد الرزاق بن شريج

تقديم

يروم هذا المحور الثالث تقديم قراءة تركيبية علمية محايدة، تركز على أوجه القوة أولًا، (حتى لو كانت في الجانب التنظيري، والقانوني)، ثم أوجه القصور، استنادًا إلى معطيات التقرير ذاته، وصولًا إلى خلاصات وتوصيات عملية.

أولًا: أوجه القوة في التقرير

وضوح الإطار المنهجي والتشريعي

يُحسب للتقرير أنه انطلق من مرجعية قانونية وتنظيمية دقيقة، استندت إلى المذكرات الوزارية المنظمة للتكوينات (25/1715 بتاريخ 28 غشت 2025، و25/1541 بتاريخ 14 يوليوز 2025)، محددًا نطاق العملية وأهدافها وأدواتها (ص.8–9).
كما اعتمدت المفتشية العامة مقاربة ميدانية منظمة، جمعت بين الاستمارات الكمية والمقابلات الكيفية مع الفاعلين (ص.13–14)، مما أضفى طابعًا منهجيًا على عملية التتبع.
هذه الصياغة الإجرائية تعكس نضجًا مؤسساتيًا في تدبير التقييم ورغبة في إرساء نمط موحد لمتابعة التكوينات على الصعيد الوطني.

اتساع قاعدة الانخراط والمشاركة

أبرز التقرير انخراطًا واسعًا للأطر التربوية وهيئات التفتيش، حيث شملت العينة 92 مركزًا تكوينيًا و51 مؤسسة رائدة موزعة على جميع الأكاديميات الجهوية (ص.10).
كما ساهم في إنجاز العملية أكثر من 30 إطارًا من المفتشية العامة ومنسقي التفتيش الجهوي (ص.14).
ويُعتبر هذا الانخراط الواسع نقطة قوة تُبرز تعبئة مؤسساتية مهمة لإنجاح مشروع الريادة، وتجسد مبدأ “المواكبة الميدانية” الذي تنادي به خارطة الطريق 2022–2026.

الانضباط التنظيمي وجودة التنسيق

سجل التقرير نسبًا مرتفعة في احترام الجدولة الزمنية للتكوينات، إذ بلغت «100% في انطلاق الورشات و96% في استيفاء الزمن المخصص لها» (ص.24).
كما بلغت نسبة التنسيق والتواصل بين الفاعلين 94% (ص.24)، وهو مؤشر إيجابي على انتظام العمل الإداري والتربوي.
ورغم بعض التجاوزات العددية، فإن انتظام البرمجة يدل على قدرة المنظومة على تنظيم عمليات تكوين وطنية في وقت قياسي.

تحسن في التفاعل البيداغوجي

من الناحية البيداغوجية، سجل التقرير تحسنًا في تفاعل المستفيدين، إذ بلغت نسبة «التواصل والتفاعل بين المكونين والأساتذة» 81% (ص.28)، و«فعالية طرق التنشيط» 73%، و«المزاوجة بين النظري والتطبيقي» 75% (ص.28).
كما لاحظ التقرير ارتفاع مستوى الرضا لدى المفتشين حول «ملاءمة المضامين لحاجيات الأساتذة بنسبة 71%» (ص.26).
هذه الأرقام تعكس بداية تحول في الثقافة التكوينية نحو جعل الأستاذ فاعلًا وشريكًا في العملية، لا مجرد متلقٍ سلبي.

ثانيًا: أوجه القصور والاختلالات

محدودية التغطية وضعف التمثيلية

رغم الطابع الوطني للعملية، يقر التقرير نفسه بأن التتبع «اقتصر على عينة من المراكز المعدة للتكوين دون إنجاز تتبع شامل على الصعيد الوطني» (ص.15).
ويضيف أن العملية واجهت «ضغطًا زمنيًا» وصعوبات ميدانية (ص.15)، ما يجعل النتائج جزئية وغير كافية لتعميم الأحكام.
هذا القصور المنهجي يفقد التقرير قوة التعميم العلمي ويجعل استنتاجاته أقرب إلى الانطباعات الميدانية منها إلى خلاصات وطنية مؤسسة على عينات ممثلة.

طغيان الطابع الوصفي وضعف التحليل التفسيري

يتضح من فصول التقرير أن أغلب محتوياته اقتصرت على عرض نسب مئوية ومقارنات كمية دون تحليل دلالي أو تربوي لها.
فمثلًا، بعد عرض نسب الرضا المختلفة (ص.22–28)، لم يتضمن التقرير تفسيرًا لأسباب التفاوت بين الفئات أو تحليلًا للعوامل المؤثرة في جودة التكوين.
كما لم يستثمر معطياته في بناء مؤشرات أداء أو خلاصات تفسيرية، مما يجعل القارئ أمام توثيق رقمي بلا عمق معرفي.

العجز اللوجستي وتفاوت الإمكانات الجهوية

أظهر التقرير تراجع نسب الرضا عن ظروف الإيواء والإطعام (51% و46%) (ص.23)، وتأخر تسليم العدة البيداغوجية للمكونين بنسبة 58% (ص.23).
كما رصد تفاوتًا بين المراكز الحضرية والقروية من حيث التجهيز والجاهزية، وهو ما يتناقض مع مبدأ تكافؤ الفرص.
هذه المعطيات تكشف أن غياب ميزانية وطنية مخصصة للتكوينات الميدانية يجعل جودة التجربة مرهونة بإمكانات الأكاديميات، ويعيد إنتاج الفوارق المجالية نفسها التي تسعى خارطة الطريق لتجاوزها.

غياب قياس الأثر التكويني

أخطر ما يواجه التقرير هو اعترافه الضمني بغياب آليات لتقويم أثر التكوين على الممارسة الصفية. فقد حددت الأهداف في «رصد نسب الحضور والانخراط ومدى احترام البرمجة» دون أن تمتد إلى تتبع أثر التكوين على التعلمات (ص.9).
كما أن الجزء الخاص بالتوصيات (ص.78–80) لم يتضمن أي مقترح لإنشاء منظومة وطنية لقياس الأثر، واكتفى بالتنويه بجهود التنظيم.
هذا القصور يجعل التكوين يبدو كحدث إداري ظرفي، لا كمسار مهني مستدام يُفضي إلى تطوير الكفايات المهنية للأستاذ.

ثالثًا: خلاصة تركيبية وتوصيات عملية

يُمكن القول إن تقرير المفتشية العامة (شتنبر 2025) شكّل خطوة مؤسساتية متقدمة في تتبع ورش الريادة، لكنه ظل حبيس مقاربة وصفية لم ترقَ إلى مستوى التحليل التفسيري أو التقييم الأثري.
ولتحسين جودة التقويم التربوي والتكوين المستمر، يمكن اقتراح ما يلي:

• توسيع نطاق العينات وتوحيد أدوات التحليل لتغطية شاملة تمكّن من إصدار أحكام وطنية دقيقة؛
• اعتماد مقاربة تحليلية للأثر البيداغوجي تربط نتائج التكوين بالممارسات الصفية؛
• إحداث وحدة وطنية لتتبع أثر التكوين تابعة للمفتشية العامة بتعاون مع المجلس الأعلى للتربية، (خاصة أن المفتش العام الذي أشرف على إعداد هذا التقرير، تم تعيينه كاتبا عاما للمجلس الأعلى للتربية والتكوين)؛
• تمكين الأكاديميات من ميزانية جهوية خاصة بالتكوين لتقليص الفوارق اللوجستية والمجالية؛
• تحويل التكوين من حدث إلى مسار مهني مستدام، يرتبط بالتقويم والمصاحبة الميدانية، لا بالمواسم الإدارية؛
• الرفع من عدد المفتشين التربويين، ليقلص عدد الأساتذة لكل مفتش إلى أقل من 40 أستاذا وأستاذة.

خاتمة المحور الثالث

يبرز من خلال هذه القراءة أن تقرير المفتشية العامة حول تكوينات الريادة جسّد إرادة مؤسساتية واعدة في متابعة مشاريع الإصلاح، لكنه كشف في الآن ذاته عن قصور في المقاربة التحليلية والمنهجية.
فبيْن طموح بناء منظومة وطنية للتكوين وبيْن واقع محدودية الموارد والتحليل، تظل الحاجة ملحّة إلى استقلالية أكبر لجهاز التفتيش تمكنه من التحول إلى سلطة تقويم مهنية، لا مجرد أداة تبرير إداري.
إن مستقبل التكوين المهني للأساتذة لن يُبنى بالأرقام وحدها، بل بقدرة المؤسسة التربوية على تحويل المعطيات إلى قرارات وأثر في حجرة الدرس والمدرسة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى